Ayoon Final logo details-3
Search

الحكاية كائن حي

فوزية علي الفهدية

وِفق القوانين البيولوجية المتعارف عليها، والتي لا يختلف عليها الجميع، هو أن كل ما نما وتحرك واستنفد من الغذاء، ليعبّر عن نفسه في الوجود ككيان حيوي، يبتعد عن صفة الجمود والثبات، التي تتصف بها بقية الجمادات من حولنا،
وعبر النظر الى ما هو أبعد من الجانب البيولوجي، نتجه الى المبادئ الحيوية الكونية، التي جُبلت عليها خلقة الكون الأولى، منذ لحظة الإنفجار العظيم، وغيرها من الفرضيات التكهنية، التي تصف حقيقة بداية الكون، ومن ذلك التخلّق الحيوي للأميبيات الدقيقة، والعناصر الأولية الأولى البدائية للخلق من حولنا، والإختمار الحيوي للخلية، نجد أن الحكايات يمكن اعتبارها كتلك الكائنات الحية التي تتنامى وتتغذى وتتحرك.
منذ أن بدأ الإنسان الأول التواصل، وقبل أن تكون للغة الفطرية الإيمائية؛ لغات ولهجات تخص شعوب شتّى، والتي كانت تشرح ببساطة حاجة الإنسان للتواصل المباشر، ولو كان بسيطا لكل ما حوله، فإن الحكاية كانت على الدوام تعبّر عن كل تلك الأحاديث التي يود الآخر البوح بها.
فالحكاية المادة الأم التي تتآلف نحوها كل الأحاديث المتفرقة، ما بين الإخبار وسرد الأحداث والتعليم والإكتشافات، فهي دائما حولنا في ذلك الأفق الممتد المنظور، وحتى تلك الأحاديث الجدلية، فهي تقودنا الى تأرجح ما بين خطي البداية والنهاية، كقرض بنادول يحيك الحكاية والأحداث بينهما.
فكما يجتمع الأطفال الصغار ملتفين حول أمهاتهم، فتلك الإشارات الإيمائية، أو ما تطورت عليه لاحقا من لغات وأحاديث متفرقة، كانت تجتمع في مؤتلفات منتظمة، وعناقيد مترابطة لتكون كيانا يربط كل شذرات الحديث لتنشأ الحكاية، فلا مناص للأحداث من حكايات تجمعها، وتنقلها من العدم الى الوجود، بترابط من الحدس والعاطفة.
فيصبح الإنسان بطبعه حكواتياً بالفطرة، مهما كانت ضحالة لغته وقدرته على التعبير، ومع توالي الحكايات تتراكم من حولنا الخبرات المتناقلة، لتصبح هرمية معرفية، يتنامى معها كل شيء تم اكتسابه.
فتتطور الحضارات تبعا لذلك التنامي في الخبرات، فلولا تلك الخبرات المروية لما تناقل الناس تجاربهم، لتشارك الحكاية إضافة الى سواعد الإنسان في صنع كل ما حولنا.
فتلك الحكايات تشبه الى حدّ كبير ذلك الكائن الحي، الذي يحيا ويتنقل ويرتحل وينمو ويتغذى ويكبر ويتنفس، وغيرها من الصفات التي يختص بها الكائن الحي، المتواجد حولنا مهما كان نوعه وتصنيفه الهرمي البيولوجي.
بل أنها تفوق أي كائن حي، فهي لا تصنف وفق طائفة محددة، بل هي محاطة بكل صفات الكائنات الحية وأكثر، تلك الكائنات الحية المرئية منها وغير المرئية، الصغيرة منها والمجهرية والكبيرة، وتلك الحيوانات التي نألفها ونستأنس بها، أو تلك التي نجفل خوفا حين رؤيتها، ولا يمكن أن نجتمع معها بمكان واحد، أو تلك المتواجدة بيننا وتلك المنقرضة أو التي لم تكتشف بعد، بداية من تلك البدائيات البسيطة، والتي جاءت مع نشأة الكون الأولية، وقصة بداية الكون، التي عانت الإختمار لفترات مديدة، ليحدث بعدها التخلّق الحيوي المتنامي.
الحكايات كائنات حية لا يمكن نسيانها، تتغذى فتكبر تختمر فتتنامى، تتنفس فتتأثر بكل ما حولها ، تُبطئ في سيرها فننتظرها بوجل، وتسير بسرعة فجائية فتُدهشنا، تحلّق وتطير وتزحف على الأرض، بل أنها تحفر الى أن تصل الى العمق، فنظل في رحلة بحث وترحال عن تلك الحكايات ، رحلة بحث ذات طابع توتري يكتنفه التيه، لتكون في سجال دائم ما بين الهدف ونتيجته وما بين البداية والنهاية، وتتكاثر الحكايات فنجد أن للحكاية بداية ونهاية، كرحلة حياة المخلوقات وبينهما تفاصيل من حكايات وأحداث مترابطة، وتشدو الحكايات وتبكي، فنشعر معها وتنقلنا عبر أحداثها الى مشاعر متفرقة، بل أنها في أحيان أخرى تتسامى عن البوح، فتكون لها بعض الثغرات مابين الأحداث، والتي تكون في طي الكتمان أو أنها تتوقف عن البوح نهائيا، كمن يغص بالكلام فتكون النهائية مفتوحة، بدون أن تفصح عن تفاصيلها مباهية بغموضها الكلّي، كمدخل لشدّ الإنتباه الى ما ورائية الأحداث، فتزيد من شغفنا وتطلعنا لمعرفة المزيد عنها، كتلك الشخصيات العابرة التي نلتقيهم للحظة.
وهي كذلك الإنسان ذو التساؤلات الوجودية، في رحلة بحث عن مدى جدواها للتناقل، فتتسائل بينها وبين ذاتها، لماذا خلقت أنا كحكاية؟ وما أصل وجودي على هذا الكون؟ ونتسائل نحن في المقابل: هل وأد الحكايات جائز في حق الحكاية، وفي حق نفسك وفي حق الكون؟ هل تموت الحكاية حقا، هل موتها يكون بتحريرها والبوح بها أم بكتمانها؟ وان كان مصيرها الموت هل هي في رحلة اندماج أبدية مع الكون؟
ولأن الحكاية كائن حي فهي ينطبق عليها كل ما حولها من قوانين كونية، كتلك الطاقة التي لا تفنى، بل أنها تتحرر الى أشكال أخرى، فتلك الحكايات المروية تتوالد الى حكايات أخرى، فالحكايات لا تنتهي لتعبّر عن الديمومة الوجودية.
أما تلك الحكايات التي لم يتم البوح بها، فهي تعبّر عن نفسها بأشكال أخرى، تتناسب إطرادا مع قوة الحكاية وأهميتها.
فالحكاية بحاجة الى مفاتيح أحداث أولية، لتنطلق بعدها حرة في رحلة ممتدة من الأحداث، تصطاد الثغرات وتقف على الجديّات، وتتبع الحياة والخيال معها، فتحوّل الأحداث المبعثرة الى كيان أصبح فيما بعد حرفة تدبّ فيها الحياة، تسير بلحن خفي، تتبع بوصلة الحبكة بعدسات مكبّرة ومصغرة، تقف عليها فيتباين السرد في نظام بديع ، هي تلك كل الحكاية..بإعتبارها كائن تدبّ فيه الحياة.

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video