Ayoon Final logo details-3
Search

ما بعد الإنسانية

أ. د. عادل عوض

تشمل أعمال الحداثة وما بعد الحداثة وما يصاحبها من الخيال العلمي عديد من قصص الأبطال الخارقين، وبالإضافة إلي البشر المعدلين وراثيا ليصبحوا خارقين ويمتلكوا مقومات غير مألوفة لا يتمتع بها الإنسان الطبيعي. مما قد يثير القلق داخل مجال البحث العلمي ،خصوصًا  المهتم منه بالتطور الدارويني، حول ما إذا كان جنسنا البشري معرضاً  للتطور البيولوجي خلال الفترة القادمة من تاريخ التطور البشري .وكيف يمكن أن يحدث هذا؟ إن هذا من أهم  القضايا التي تتعلق بمرحلة ما بعد الإنسانية. فما تعنيه هذه المرحلة وما المجالات التي تسعي إلي تطورها ؟ وهل من الممكن استخدام التكنولوجيا لتعزيز الخصائص البشرية وكيف يتم هذا؟ ما موقف الراديكالية من مرحلة ما بعد الإنسانية ؟ وما سمات هذه المرحلة ؟وما مضمون إعلان تجاوز الإنسان ؟ وكيف يمكن الاستفادة من التكاثر اللاجنسي؟ ماذا تعني اخلاقيات تحسين الإنسانية عند نيك بوستروم؟ وكيف تكون طبيعة الأشخاص في مرحلة ما بعد الإنسانية؟ وكيف تمثل الهندسة الوراثية القوة المتحكمة في هذا الموضوع ؟وهل من الممكن التخلص من المشكلات المصاحبة للتحكم في الجنيات ؟ كل هذه التساؤلات وغيرها ستكون الإجابة عنها محورنا في هذه الورقة البحثية.

ماذا تعني ما بعد الإنسانية؟

ما بعد الإنسانية، حركة محددة بشكل فضفاض تطورت تدريجيا على مدى العقود الأولية الماضية. وهي تشجع على اتباع نهج متعدد التخصصات لفهم وتقييم فرص تعزيز حالة الإنسان والكائن البشري التي يتيحه تقدم التكنولوجيا. وتولى الاهتمام للتكنولوجيات الحالية، مثل الهندسة الوراثية وتكنولوجيا المعلومات، والتقنيات المستقبلية المتوقعة، مثل التكنولوجيا النانوية الجزيئية والذكاء الاصطناعي.

تشمل خيارات التعزيز التي تتم مناقشتها التوسيع الجذري لامتداد صحة الإنسان، والقضاء على المرض، والقضاء على المعاناة غير الضرورية، وزيادة القدرات الفكرية والجسدية والعاطفية للإنسان. وتشمل الموضوعات الأخرى لما بعد الإنسانية استعمار الفضاء وإمكانية إنشاء آلات فائقة الذكاء، إلى جانب التطورات المحتملة الأخرى التي يمكن أن تغير الحالة البشرية بشكل عميق. لا يقتصر النطاق على الأدوات والطب، ولكنه يشمل أيضًا التصميمات الاقتصادية والاجتماعية والمؤسسية والتنمية الثقافية والمهارات والتقنيات النفسية([i]).

إذن يمكننا القول أن مرحلة ما بعد الإنسانية هي مرحلة تسعي فيها الهندسة الوراثية إلي تحسين الحياة البشرية خلال الاعتماد علي التطور التكنولوجي  وهذا يعد الهدف الأول والاساسي لأنه وعلي مدي البحث سنكتشف أهداف أخري تسعي إليها مرحلة ما بعد الإنسانية من تطور العقلي والجسدي البيولوجي لكائنات البشرية. مما يجعلنا نتساءل هل هذه المرحلة تتميز بكونها طبية فحسب ؟أم لديها أهداف أخري ؟

تعد نزعة ما بعد الإنسانية أيديولوجية شبه طبية تسعى إلى تعزيز مجموعة متنوعة من الأهداف العلاجية وتعزيز الإنسان. تتميز المفاهيم المعتدلة من المفاهيم القوية لما بعد الإنسانية، وقد وجد أن المفاهيم القوية أكثر إشكالية من المفاهيم المعتدلة. تم تقديم نقد خاص لدفاع بوستروم Bostram عن ما بعد الإنسانية. تتم مناقشة أشكال مختلفة من حجج المنحدر الزلق التي يمكن استخدامها لصالح وضد ما بعد الإنسانية، ويتم تسليط الضوء على نقد معين، التعسف الأخلاقي، الذي يقوض كل من ما بعد الإنسانية الضعيفة والقوية.

وصف فرانسيس فوكوياما مؤخرا ما بعد الإنسانية بأنها «أخطر فكرة في العالم. يكاد يكون من المؤكد أن مثل هذه الإدانة اللافتة للنظر تشير إلى قضية تستحق النظر الجاد، لا سيما بالنظر إلى الأهمية المركزية للتكنولوجيا الطبية الحيوية لأهدافها. نعتبر ما بعد الإنسانية أيديولوجية تسعى إلى تبشير أهدافها المعززة للإنسان ([ii]).

في القرن الحادي والعشرين، نجد أنفسنا في أوقات غريبة ؛ الحقائق والخيال يجدان طريقهما معا في مجلات الأخلاق والطب والفلسفة ومواقع الويب. تشمل المواقع الرئيسية للمنافسة فكرة الطبيعة البشرية، ومكان التجسيد في الأخلاقيات الطبية، وبشكل أكثر تحديدا، التأملات المنهجية في مكان التقنيات الطبية وغيرها من التكنولوجيات في مفاهيم الحياة الجيدة. انعكاس لهذا الوضع يلتقطه الكاتب دينز ollivier dyens الذي يكتب: ما نشهده اليوم هو التقارب الشديد بين البيئات والأنظمة والأجسام وعلم الأنطولوجيا تجاه المادة الذكية وإليها. لم يعد بإمكاننا التحدث عن حالة الإنسان أو حتى حالة ما بعد الإنسانية. يجب أن نشير الآن إلى الحالة الذكية ([iii]).

فحالة التطور اليومي الذي يعيشه الإنسان يجعله يشعر بحالة من الارتباك والقلق لأنه دون لأن يشعر يجد نفسه في عالم متغير هو جزء من هذا العالم ،وبالتالي عليه أن يتلاءم مع هذا التطور وهذا التغير، ولهذا علينا أن نسعي جاهدين أن نقيم حوار بين الإنسان وبين ما تتطلبه مرحلة ما بعد الإنسانية .هل هي مرحلة تمثل تهديد علي الذات البشرية وكيف يتم التعامل معها؟ وما الصعوبات التي يواجهها منتقدو هذه المرحلة ؟

 وفي الحقيقة تتمثل إحدى الصعوبات التي يواجهها منتقدو ما بعد الإنسانية في أن مجموعة واسعة من الآراء تندرج تحت تسميتها. يمكن للمرء أن يجد ليس فقط اختلافات جوهرية بين المؤلفين الرئيسيين والفروق الدقيقة التأديبية المتباينة في تحذيراتهم، ولكن أيضا الاختلافات الدقيقة لممثليها الرئيسيين في عروض الأشخاص. من المتوقع أن تتحول أي أيديولوجية بمرور الوقت وليس أقلها استجابة للنقد الداخلي والخارجي. ومع ذلك، يواجه الناقد ما بعد الإنسانية مشكلة أخرى تتمثل في تحديد هدف قوي لا يزال طويلا بما يكفي لتحديد مكانه بشكل صحيح في هذه الأيام التي تعتمد على الويب دون بناء «رجل من القش» للتغلب على أدني نسيم فلسفي. لأغراض استهداف هدف كبير بما فيه الكفاية، نحدد كتابات أحد مؤيديها الأوضح والأقوياء فكرا، فيلسوف اكسفورد والمؤسس المشارك لجمعية ما بعد الإنسانية العالمية، نيك بوستروم الذي كتب مؤخرا عن رغبة ما بعد الإنسانية في تحقيق مشروع ” half-baked” الذي هو الطبيعة البشرية([iv]).

من الأفضل تقديم تعريف عام لما بعد الإنسانية ثم وضعه بين مجموعة وجهات النظر التي تقع تحت العنوان. أحد أشهر دعاة ما بعد الإنسانية هو ماکس مور Max More، الذي يقول موقعه على الإنترنت “لا مزيد من الألهة، ولا المزيد من الإيمان، ولا مزيد من التراجع الخجول، المستقبل ينتمي إلى ما بعد الإنسانية.” ستكون لدينا فكرة أوضح عن أنواع المواقف التي تقف ما بعد الإنسانية في معارضة مباشرة لها. على وجه التحديد، يؤكد مور، «ما بعد الإنسانية» مصطلح شامل يطلق على المدرسة الفكرية التي ترفض قبول القيود البشرية التقليدية مثل الموت والمرض وأوجه الضعف البيولوجية الأخرى. تهتم ما بعد الإنسانية عادة بمجموعة متنوعة من الموضوعات المستقبلية، بما في ذلك الهجرة الفضائية وحفظ الخلايا الحية بالتبريد. تهتم ما بعد الإنسانية أيضا بشكل كبير بمواضيع أكثر إلحاحاً مثل – التكنولوجيا الحيوية والنانوية وأجهزة الكمبيوتر و علم الأعصاب. ويستنكر ما وراء البشر النماذج القياسية التي تحاول أن تجعل عالمنا سهلاً من أجل تحقيق الإنسان([v]).

في الحقيقة أنه بالنظر إلي قول مور السابق نجد أنه يمثل مصدر من مصادر التوتر الفكري ويطرح تساؤلات عديدة ، ماذا يعني قوله لا مزيد من الالهة ؟وهل الإنسان في تلك المرحلة حر لدرجة لأنه ليس في حاجة إلي الاستقرار الداخلي الذي ينبع من الإيمان الديني ؟وهل بذلك يمثل الدين قيدًا نسعي إلي الخلاص منه؟ في ذات العبارة يطلب بالتقدم إلي مرحلة ما بعد الإنسانية دون تراجع خطوة وكأن الإنسان كان يعاني في كل المراحل السابقة، ومرحلة ما بعد الإنسانية تقدم لنا إنسان جديد دون أي أعباء ؟ هذا يدفعنا إلي القول أن قول مور السابق ينقصه الوضح والمنطق والدلالة في البناء الفكري .

يرى  في هذا الجانب المدافعون عن ما بعد الإنسانية أنفسهم منخرطين في مشروع يهدف إلى التغلب على حدود الطبيعة البشرية. ليس من الواضح ما إذا كان هذا هو الادعاء التأسيسي، أو مجرد الادعاء المركزي. هذه القيود – قد يصفها المرء ببساطة على أنها سمات للطبيعة البشرية، لأن فكرة وصفها بأنها قيود هي نفسها اتخاذ موقف سلبي تجاهها – تتعلق بالمظهر والقدرات الحسية البشرية والذكاء والعمر والضعف تجاه الضرر. وفقا لبرنامج ما بعد الإنسانية المتطرف، يمكن استخدام التكنولوجيا لتعزيز ذكاء الشخص بشكل كبير ؛ وتكييف مظهرهم مع ما يرغبون فيه ؛ وإطالة عمرهم، ربما إلى الخلود؛ والحد بقدر كبير من تعرضهم للأذى. يمكن القيام بذلك عن طريق استغلال أنواع مختلفة من التكنولوجيا، بما في ذلك الهندسة الوراثية وعلم التحكم الإلكتروني وتكنولوجيا النانو. إن مسألة ما إذا كانت التكنولوجيا ستستمر في التقدم بشكل كاف، وبشكل متوقع بما فيه الكفاية، هي بالطبع مسألة أخرى تماماً([vi]).

يجادل المدافعون عن ما بعد الإنسانية بأن تجنيد أو نشر هذه الأنواع المختلفة من التكنولوجيا يمكن أن ينتج أشخاصا أذكياء وخالدين، لكنهم ليسوا أعضاء في نوع الإنسان العاقل. سيكون نوعهم غامضا – على سبيل المثال، إذا كانوا سايبورج (جزء بشري، جزء آلة) – أو إذا كانوا آلات بالكامل، فسوف يفتقرون إلى أي سمات وراثية مشتركة مع البشر. ويغطي عدد كبير من العلامات هذه الإمكانية([vii]).

ويعتمد أنصار مرحلة ما بعد الإنسانية لتسويغ هذه المرحلة الإشارة إلي المكاسب البيولوجية التي يمكن أن يحصل عليها البشر في ظل مرحلة ما بعد الإنسانية من ارتفاع معدل الذكاء والقضاء علي الامراض والوصول إلي مرحلة الخلود. ولكن ما لم يدركه أنصار هذه مرحلة أن هذه المكاسب فعلا قد تتحقق ولكن في المقابل قد يفقد الأنسان شعوره الجوهري بذاته الإنسانية المتأصلة، فما قيمة هذه المكاسب دون الإنسان الحقيقي؟

ثمة خلل عميق بين الوجود ومظاهره. هذا الخلل ينتج أجساما متحولة ومفككة وغير متزامنة لدرجة أن نتيجتها الوحيدة هي الطفرة الإجمالية. أجسام Cyberpunk مروعة وغريبة وغامضة، لأنها لا ترتبط ارتباطا حقيقيا بأي بنية بيولوجية.

ربما يتجسد ادعاء معقول في فكرة أن مثل هذه الكيانات ستكون بعد إنسان. ليس من الواضح إلى أي مدى يمكن أن يكون posthuman مرادفا لـ transhumanism. يدعم متطرفو ما بعد الإنسانية بشدة مثل هذه التطورات.

في الطرف الآخر من ما بعد الإنسانية يوجد مشروع أقل جذرية بكثير، وهو ببساطة مشروع استخدام التكنولوجيا لتعزيز الخصائص البشرية – على سبيل المثال، الجمال والعمر ومقاومة المرض. في هذا المشروع الأقل تطرفا، لا يوجد تطلع ضروري للتخلص من الطبيعة البشرية أو الدستور الجيني البشري، فقط لزيادة ذلك بالتكنولوجيا حيثما أمكن وحيثما يرغب الشخص([viii]).

من المنظور الراديكالي لما بعد الإنساني، فإن الإمكانات والاحتمالات الهائلة المتأصلة في تقنيات التكاثر المساعدة (الإخصاب الاصطناعي، الاستنساخ بغرض الحصول على أطفال وعلاج العقم) – كما هو الحال في جميع التقنيات الحيوية والتقنيات المعززة – فهي عبارة عن إشكالية فكرة الطبيعة كشيء معطى ومستقر ونقي و متفوق على “الاصطناعي”، لكن هذا ليس تكرارا للاعتراض الذي أطلقه الليبراليون الداعمون لفكرة ما بعد الإنسانية إلى حجة ما بعد الإنسانية المختلة، من أجل منح “القدسية” للطبيعة. احتفاء بعد الإنسانية الراديكالي بقدرة هذه الأمور على تقويض فكرة الطبيعة لا ينبع من الإيمان بأن البشر يمكنهم، بل يجب عليهم التلاعب بالطبيعة واستخدامها أيضا، ولكن من فهم ذلك، فمن الناحية التاريخية، تم استخدام مناشدات ونداءات الطبيعة لتشريع التسلسل الهرمي الاجتماعي والجنسي، ومعايير السلوك البشري، ومن الممكن تحدي وحث السمة الأساسية لتصنيف الطبيعة، في ضوء الفهم أنه تم استخدامه كاستراتيجية للحفاظ على الحدود؛ لأهداف وغايات سياسية أو اقتصادية، ولإضفاء الطبيعة المادية على القيم الثقافية، عندما لا تشير صراحة إلى أي شيء أو فئة في العالم. يؤكدها الخطاب الراديكالي ما بعد الإنساني([ix]).

أيضاً، ما بعد الإنسانية هي حركة فكرية واجتماعية سياسية تهتم بمجموعة من القضايا في أخلاقيات علم الأحياء، ولا سيما القضايا التي تنطوي على استخدام التكنولوجيا لتحويل الكائن البشري بشكل جذري. يتمثل جوهر ما بعد الإنسانية في تشجيع استخدام تقنيات التحويل البيولوجي من أجل تعزيز الكائن البشري، بهدف نهائي هو تعديل الكائن البشري بشكل جذري بحيث يتغلب على القيود الإنسانية الأساسية، وبالتالي «الإنسان» على هذا النحو. بعبارة أخرى، الاستخدام مصطلحات ما بعد الإنسانية، فإن هدفهم الأساسي هو أن يصبحوا «ما بعد البشر»([x]).

وفقا لعلماء ما بعد الإنسانية، فإن «ما بعد الإنسان» هو «إنسان إنتقالي» يهدف إلى أن يصبح ما بعد الإنسانية ويتخذ الخطوات المناسبة، على سبيل المثال، التحسين التكنولوجي لتحقيق هذه الغاية . في حين أن ما بعد البشر، وهو الهدف لما بعد الإنسانية، أو أن يكون مختلفا جذريا في القدرات الجسدية والمعرفية والعاطفية عن البشر العاديين أو الحاليين بحيث لا يكون هناك أي غموض، عادة ما يذهب خطاب ما بعد الإنسان إلى أبعد من ذلك بكثير، ومع ذلك في “رسالة من المدينة الفاضلة”، على سبيل المثال، يتبنى نيك بوستروم الصوت السردي لمستقبل بعد وفاته يخاطب البشر الحاليين، ويكتب “يمكنك القول إنني سعيد، أن أشعر أنني بحالة جيدة. يمكنك القول إنني أشعر بأنني أتجاوز النعيم. لكن هذه كلمات تم اختراعها لوصف التجربة البشرية. ما أشعر به هو أبعد من الشعور البشري لأن أفكار تتجاوز الفكر البشري. أتمنى أن أربك ما يدور في ذهني”. في مكان آخر، يقترح أن فجوة الذكاء بين ما بعد البشر والبشر ستكون أقل قابلية للمقارنة مع فجوة الذكاء بين عبقری بشري وإنسان متوسط الذكاء مما ستكون عليه بين الإنسان والخنفساء أو الدودة([xi]).

وهنا أيضًا إشارة واضحة  إلي حدوث خلل بين الإنسان الجديد أو (ما بعد الإنسان) وبين لغته حيث لم يصبح بمقدور اللغة التعبير عن الحالة التي يصل إليه الإنسان في هذه المرحلة .مما يعني أننا قد نحتاج إلي لغة جديدة تناسب هذا الإنسان الجديد. فهل هذه ممكن !

ولهذا يحدث أنصار ما بعد الإنسانية بأن هناك سمة أساسية أخرى لما بعد الإنسانية، دعا إليها جميع دعاة ما بعد الإنسانية تقريبا، وهي الاستمرارية المزعومة مع عقلانية التنوير والإنسانية. تستورد ما بعد الإنسانية القيم الإنسانية مثل العقلانية والاستقلالية الشخصية وما إلى ذلك، مدعية أن الفرق الأساسي بين ما بعد الإنسانية والإنسانية التقليدية هو أن الأولى لا تقتصر على الوسائل التقليدية التي تستخدمها الأخيرة لتحسين حالة الإنسان: «تميل الإنسانية إلى الاعتماد حصريا على التحسين التعليمي والثقافي لتحسين الطبيعة البشرية بينما يريد دعاة ما بعد الإنسانية تطبيق التكنولوجيا للتغلب على الحدود التي يفرضها تراثنا البيولوجي والجيني»([xii]).

تجدر الإشارة إلى أنه اليوم، حتى في اللغة العامية الأكاديمية، يستخدم مصطلح الإنسانية عادة بطريقة فضفاضة وغامضة تاريخيا تطمس الخط الفاصل بين الإنسانية والتنوير. في هذا الاستخدام، عادة ما يقصد بالمصطلح الإشارة بشكل غير خاص إلى الإنسانية العلمانية الحديثة، مع التركيز الضمني على الاستمرارية بين هذه الحركة و «الإنسانية» السابقة، على وجه الخصوص، إنسانية عصر النهضة. هذه هي الطريقة التي يستخدم بها دعاة ما بعد الإنسانية، وكذلك أولئك الذين يكتبون عنهم، المصطلح عادة. على سبيل المثال، كتب ماكس مور أن ما بعد الإنسانية تشترك في العديد من عناصر الإنسانية، بما في ذلك احترام العقل والعلم، والالتزام بالتقدم، وتقدير الوجود البشري (أو ما بعد الإنسان في هذه الحياة وليس في الحياة الآخرة الخارقة للطبيعة”، بينما يحدد بوستروم «التفكير العقلاني والحرية والتسامح والديمقراطية والاهتمام بإخواننا البشر» على أنها قيم إنسانية تتبناها ما بعد الإنسانية([xiii]).

إن الحديث عن العلم والثقافة والتسامح والديمقراطية حديث إنساني بالدرجة الأولي وبالتالي لم يقدم أنصار ما بعد الإنسانية شئ جديد في هذا الإطار، مع الوضع في الاعتبار إن الأنسان في هذا الحالة يكون أشبه بالآلة وينفذ كل ما هو مطلوب منه وبالتالي ليس لوجود هذه القيم اي معني. ولهذا نتساءل هل هذه المرحلة تمثل وضع تم فيه تجاوز الإنسان،  وإلي أي حد؟

وضع متجاوز الإنسان

حركة تجاوز الإنسان ليست بأية وسيلة أيديولوجية متناغمة كلياً، لكن لديها تنظيم وتصريح رسمي. و”جمعية تجاوز الإنسان العالمية” هي منظمة دولية غير ربحية تم تأسيسها في 1998 بواسطة الفيلسوفين نيك بـوسـتـروم ودافيد بيرس. تم نشر المعتقدات الرئيسية لحركة تجاوز الإنسان في إعلان تجاوز الإنسان (جمعية تجاوز الإنسان العالمية (1998) وأعيد طبعها كما يلي([xiv]):

  1. سوف تتغير البشرية جذرياً بالتقنية في المستقبل. نتنبأ بإمكانية إعادة تصميم حال الإنسان، بما في ذلك بارامترات مثل الشيخوخة التي لا يمكن تجنبها، والحدود على الإنسان والقدرات الاصطناعية على الفهم، والخصائص النفسية غير المختارة، والمعاناة وتقيدنا بكوكب الأرض.
  2. الأبحاث المنظمة يجب إجراؤها لفهم هذه التطورات القادمة ونتائجها على المدى الطويل.
  3. ترى حركة تجاوز الإنسان أنه بالانفتاح بشكل عام على التقنية الجديدة وقبولها لدينا فرصة أفضل لتحويلها لصالحنا أكثر مما لو حاولنا حظرها أو إعاقتها.
  4. تناصر حركة تجاوز الإنسان الحق الأخلاقي للراغبين بشدة في استخدام التقنية لتوسعة قدراتهم العقلية والجسدية (بما في ذلك التناسل) ولتحسين سيطرتهم على حياتهم الخاصة، نسعى إلى نمو شخصي في ما وراء حدودنا البيولوجية الراهنة.
  5. في التخطيط للمستقبل، من الحتمي أن نضع في اعتبارنا احتمال تقدم كبير في القدرات التقنية. قد يكون مأساوياً لو أن الفوائد المحتملة فشلت في التجسد بسبب الخوف غير الطبيعي من التقنية وقوانين الحظر غير الضرورية. من جانب آخر، قد يكون من المأساوي أيضاً لو انقرضت الحياة الذكية بسبب كارثة ما أو حرب تتضمن تقنيات متطورة.
  6. نحتاج إلى ابتكار مؤتمرات حيث يمكن للناس المناقشة بشكل منطقي لما يحتاجون إلى فعله، ونظام اجتماعي حيث يمكن تنفيذ قرارات مسؤولة.
  7. تناصر حركة تجاوز الإنسان صحة كل إحساس (سيان كان في عمليات الذكاء الاصطناعي، أو لدى البشر، أو ما بعد البشر أو الحيوانات غير البشرية) وتشمل الكثير من مبادئ حركة الإنسانية الحديثة. لا تدعم حركة تجاوز الإنسان أي جماعة خاصة، أو رجل سياسة خاص أو وسيلة تعبير سياسية خاصة.

تلى هذه الوثيقة “الأسئلة المطروحة بشكل متكرر على حركة تجاوز الإنسان” الأكثر طولا والتثقيفة إلى حد كبير، كتبها نيك بوستروم، في تشاور مع عشرات من أنصار حركة تجاوز الإنسان القياديين.

كما يعتمد علماء ما بعد الإنسانية على الاستمرارية ويدعون الاستمرارية مع التقاليد الفكرية والثقافية الأخرى، مثل التقاليد العلمية (على سبيل المثال، روجر بيكون)، والفلسفة القديمة (على سبيل المثال، أفلاطون وأرسطو)، وغيرهم. الدافع الواضح لمثل هذه الادعاءات بالاستمرارية مع مختلف التقاليد الموقرة هو طمأنة أولئك، وخاصة أولئك الذين يطلق عليهم «المحافظون البيولوجيون»، الذين يقلقون بشأن الطبيعة الجذرية لمشروع ما بعد الإنسانية والآثار المترتبة على الانقطاع المحتمل بين الإنسان وما بعد الإنسان.

لطالما كانت حركة ما بعد الإنسانية حركة صغيرة إلى حد ما أو حتى هامشية في الفلسفة و علم المستقبل، لكنها تكتسب قوة كحركة ثقافية وفكرية، وأصبحت بشكل متزايد قوة سياسية عالمية. شارك زولتان إستفان Zoltan Ishvan، الذي أسس أول حزب وطني لما بعد الإنسانية (حزب ما بعد الإنسانية في الولايات المتحدة في عام 2014 وترشح للرئاسة في عام 2014، في تأسيس الحزب العالمي لما بعد الإنسانية (TPG) في نهاية عام 2014؛ وتوجد بالفعل منظمات شاملة للمجتمع المدني في جميع القارات مصممة لدعم وتنسيق الأحزاب السياسية لما بعد الإنسانية على الصعيد الوطني([xv]).

علي الرغم من المحاولات الصادقة التي تبدو من بنود هذا الإعلان والرغبة الواضحة علي التأكيد علي سلامة الإنسان الجديد والتناغم مع بيئته الجديدة إلا أنه يظل إنسان جديد بكل ما فيه من المخاوف والقلق وحتي هذه المخاوف وهذا القلق نابع من طبيعة بيولوجية جديدة  التي يتم التحكم فيها مسبقاً. كما أن هذه البنود لم تشير من قريب أو بعيد  إلي التعامل مع الفنون والثقافة ولم توضح كيف تكون حياة هذا الإنسان ؟ لدرجة تدفعنا إلي القول بكل ثبات أنه حديث لا يمثلنا  نحن البشر في شئ ، كما أن بنود فقيرة ولا تعبر عنا.

من المهم للغاية إيلاء الاهتمام العلمي المناسب لما بعد الإنسانية الآن، ليس فقط بسبب صعودهما الأخير والمستمر كقوة ثقافية وسياسية (وما يصاحب ذلك من تداعيات محتملة على الخطاب الأخلاقي البيولوجي والسياسة العامة)، ولكن بسبب قرب حدوث اختراقات كبيرة في أنواع تقنيات التحويل البيولوجية التي تركز عليها ما بعد الإنسانية، من الهندسة الوراثية الى واجهات الدماغ والآلة إلى الذكاء الاصطناعي. وبالتالي، فإن المقالات في هذا العدد من مجلة الطب و الفلسفة إما أن تكون صريحة حول ما بعد الإنسانية أو حول موضوعات، مثل أخلاقيات هندسية الخط الجرثومی ومعايير الشخصية، التي لها صلة مباشرة بالنقاش بين ما بعد الإنسانية “التقدميين التقنيين” على نطاق أوسع و المحافظين البيولوجيين([xvi]).

خارج عالم ابتكار وإنتاج أسلحة الدمار الشامل، ليس العلم نشاطا إجراميا، ولا “يتلاءم” استنساخ الإنسان والهندسة الوراثية بصورة مريحة مع تصنيف الجرائم ضد الإنسانية. ويضاف إلى ذلك في مواجهة للهولوكوست والأسلحة النووية، تبدو الهندسة الوراثية حميدة تقريبا. لكن هذا مضلل لأن الهندسة الوراثية لديها القدرة على تغيير معني ما يجب أن يكون عليه الإنساني. هناك حدود للمدى الذي يمكن الوصول إليه في تغيير طبيعتنا دون تغيير إنسانيتنا وقيمنا الإنسانية الأساسية. ولأن معنى الإنسانية (تمييزنا عن الحيوانات الأخرى) هو الذي أنتج مفاهيمنا عن كل من الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، فإن تغيير طبيعتنا يهدد بتقويض مفاهيمنا عن كل من الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان. وبفقدهما فإن الاعتقاد الأساسي بالمساواة الإنسانية قد يفقد أيضا. بالطبع، نحن نعرف أن الغنى أفضل بكثير من الفقير وأن المساواة الحقيقية سوف تتطلب إعادة توزيع الدخل. ورغم ذلك، قد لا يستعبد الغني، أو يعذب، أو يقتل حتى أفقر إنسان على الكوكب. وبالمثل، فإنها لمسلمة أساسية للديمقراطية أن يكون لكل البشر، حتى الفقراء، صوت في تحديد مستقبل جنسنا البشري ومستقبل كوكبنا([xvii]).

هل يمكن لحقوق الإنسان العالمية والديمقراطية، القائمين على الكرامة الإنسانية .أن يبقيا على الهندسة الوراثية؟ بدون أهداف واضحة؟، سوف يحدد السوق ماهية الانسان الأفضل. التسويق والإعلانات على نطاق واسع سوف يشجعنا على العمل بمقتضى بعض الأفكار المحددة ثقافيا أكثر من الاحتفاء بالاختلافات. هذا على الأقل من الدروس الأساسية التي تم تعلمها من صناعة الجراحة التجميلية: كل مرضاها تقريباً- العملاء الراغبين في إما أن يعاد صياغتهم ليظهروا عاديين أو إعادة نمذجتهم ليظهروا أكثر شبابا. يجب أن يعطى هذا وقفة لعلم (أو مجتمع) يبحث عن الخلود حيث انه كلما زاد متوسط عمر الإنسان، قامت المجتمعات الإنسانية بتخفيض قيمة المسنين وتهميشهم والإجلال من أجساد الشباب والبحث عن محاكاتها([xviii]).

الإنسان المثالي الجديد، الإنسان “الأعلى” المهندس وراثيا، سوف يمثل بالتأكيد تقريبا “الآخر”. لو كان التاريخ مرشدا، إما أن ينظر الناس العاديون إلى البشر “الأفضل” باعتبارهم آخر ومحاولة السيطرة عليهم أو تدميرهم، أو العكس بالعكس. سوف يصبح الإنسان الأفضل، على الأقل في غياب مفهوم عالمي الكرامة الإنسان، إما الظالم أو المظلوم، باختصار أوضح هـ. ج. ويلز  H. J. Wellsفي “وادى الأعمى”، أنه من الخطأ ببساطة أن كل “تعزيز” لقدرة الإنسان سوف يتم الثناء عليها بصورة عمومية في وادي الأعمى، كانت الأعين التي تقوم بوظائفها تعتبر تشوها يجب التخلص منه جراحيا حتى يكون الشخص المبصر مثل أي شخص آخر. في “الة الزمن” تصور ويلز نفسه فصل البشر إلى جنسين منفصلين ومتعاديين، بأن كليهما لا يمثل أي تحسين البشر الموجودين([xix]).

في النهاية، لا يمكن تقريبا تجنب أن الهندسة الوراثية سوف تدفع الإنسان العاقل إلى التطور إلى جنسين منفصلين: سوف تشبه الكائنات البشرية في شكلها النموذجي المتوحشين الأمريكيين ما قبل الولايات المتحدة ويراهم ما بعد البشر الجدد المعززین وراثيا باعتبارهم وثنيين ربما يجب ذبحهم واستعبادهم. احتمال الإبادة الجماعية هذا هو الذى يجعل بعض مشاريع تغيير الجنس البشري بالهندسة الوراثية أسلحة دمار شامل محتملة تعرض الجنس البشرى للخطر، وتجعل المهندس الوراثي غير المسؤول إرهابيا بيولوجيا محتملا. لا يمكن للعلم أن ينقذنا من عدم إنسانية كل منا تجاه الآخر، يمكنه فقط جعل نزعاتنا التدميرية أكثر فعالية وأكثر وحشية. يمكن للعلم والاضطهاد أن يكونا، في الحقيقة، متوافقين. وكما يوضح المؤرخ روبرت بروكتور Robert Proctor في نتائج دراسته عن الصحة العامة تحت حكم الرايخ الثالث، “يمكن للممارسة العادية للعلم أن تتعايش بسهولة مع الممارسة العادية للقسوة([xx]).

علي الرغم مما ذهبنا إليه في السابق من القول بصعوبة تجنب الهندسة الوراثية وهذا صحيح ،إلا أنه يمكننا الاستمرار في محاولات تطور الهندسة الوراثية ولكن في ظل سياج من القواعد الإنسانية التي تحافظ علي قيمة الحياة البشرية دون الاهدار من كرامته دون مخاطر الدخول في الحروب فيما بيننا. فما قيمة التطور والتقدم مادام علي يحافظ علي قداسة الحياة الأنسانية؟

إن الإمكانات والاحتمالات الفصامية الهائلة المتأصلة في تقنيات التكاثر المساعدة (الإخصاب الاصطناعي، الاستنساخ بغرض الحصول على أطفال وعلاج العقم) عبارة عن إشكالية فكرة الطبيعة كشيء معطي ومستقر ونقي و متفوق على الاصطناعي”، لكن هذا ليس تكرارا للاعتراض الذي أطلقه الليبراليون الداعمون لفكرة ما بعد الإنسانية إلى حجة ما بعد الإنسانية المختلة، من أجل منح “القدسية” للطبيعة. احتفاء بعد الإنسانية الراديكالي بقدرة هذه التقنيات على تقويض فكرة الطبيعة لا ينبع من الإيمان بأن البشر يمكنهم، التلاعب بالطبيعة واستخدامها أيضا، ولكن من فهم ذلك، فمن الناحية التاريخية، تم استخدام مناشدات ونداءات الطبيعة لتشريع التسلسل الهرمي الاجتماعي والجنسي، ومعايير السلوك البشري. ومن الممكن تحدي السمة الأساسية لتصنيف الطبيعة، في ضوء الفهم أنه تم استخدامه كاستراتيجية للحفاظ على الحدود؛ لأهداف سياسية أو اقتصادية، ولإضفاء الطبيعة المادية على القيم الثقافية، عندما لا تشير صراحة إلى أي شيء في العالم، يؤكدها الخطاب الراديكالي ما بعد الإنساني([xxi]).

ينظر دعاة ما بعد الإنسانية إلى الطبيعة البشرية على أنها عمل قيد التقدم، بداية يمكننا تعلم إعادة صياغتها بطرق مرغوبة. لا يجب أن تكون البشرية الحالية نقطة النهاية للتطور. يأمل أنصار ما بعد الإنسانية أنه من خلال الاستخدام المسؤول للعلم والتكنولوجيا والوسائل العقلانية الأخرى، سننجح في النهاية في أن نصبح ما بعد الإنسان، وكائنات تتمتع بقدرات أكبر بكثير من البشر الحاليين([xxii]).

يتخذ بعض دعاة ما بعد الإنسانية خطوات نشطة لزيادة احتمالية بقائهم على قيد الحياة شخصيًا لفترة كافية ليصبحوا ما بعد الإنسان، على سبيل المثال عن طريق اختيار أسلوب حياة صحي. التي كثيرا ما تعكس في الممارسة العملية موقفا رجعيا إزاء التكنولوجيات الجديدة، وتسترشد نظرة ما بعد الإنسانية برؤية متطورة لاتباع نهج أكثر نشاطا إزاء سياسة التكنولوجيا. تتمثل هذه الرؤية، بضربات واسعة، في خلق فرصة للعيش حياة أطول وأكثر صحة، وتعزيز ذاكرتنا وملكات فكرية أخرى، وصقل تجاربنا العاطفية وزيادة إحساسنا الذاتي بالرفاهية، وبشكل عام لتحقيق درجة أكبر من السيطرة على حياتنا. يتم تقديم هذا التأكيد على الإمكانات البشرية كبديل للأوامر الزجرية العرفية ضد لعب دور الله، أو العبث بالطبيعة، أو العبث بجوهرنا البشري، أو إظهار الغطرسة التي يعاقب عليها القانون([xxiii]).

إلا أنه يمكن القول أن أنصار ما بعد الإنسانية لا تسعون إلي تطور حياة الإنسان بشكل يخدم رفاهية الإنسانية لأن أنصار هذه الدعوة يسعون إلي فناء الجنس البشري الحالي واحلال محله جنس بشري جديد بقواعد جديدة لا تتفق مع الطبيعة البيولوجية للنفس البشرية الحالية؛ لأن أنصار مرحلة ما بعد الإنسانية يحاولون العمل علي خلق إنسان وفق معايير معينة، وفي حال إخفاق في هذه المعايير ويعد هذا الاخفاق فشل لابد من التخلص منه. وما بين النجاح المحاولات وفشلها تضيع هوية الإنسان الحالي.

لأنه في خضم الدعوة لما بعد الإنسانية، تحمل فى رحمها دعوة صريحة ومباشرة لأن يكون الإنسان مقبلاً على عملية لاقتلاع جذوره القديمة، وغرس جذور جديدة تنبت إنساناً آخر بمواصفات أخرى. “جاءت التقنية العلمية لتبشر بالإنسان الفائق، أو الإنسان الكامل، معلنة بداية عصر جديد، هو عصر ما بعد الإنسان، الذي ابرز أماراته العمل على تجاوز كل ما ينظر إليه بوصفه نقصاً فى الإنسان، وإنتاج نماذج من الوجود الإنسانى تمتاز بالفاعلية، مما يجعل هذا الوجود صناعة إنسانية، عن طريق السيطرة على الحياة العضوية؛ تمهيداً للكمال الإنساني المعلن عن قدوم إنسانية جديدة صانعة لمصيرها([xxiv]).

ما بعد الإنسانية لا ينطوي على تفاؤل تكنولوجي. في حين أن القدرات التكنولوجية المستقبلية تحمل إمكانات هائلة للانتشار المفيد، إلا أنه يمكن أيضًا إساءة استخدامها لإحداث ضرر هائل، بدءاً من الاحتمال الشديد لانقراض الحياة الذكية. تشمل النتائج السلبية المحتملة الأخرى توسيع التفاوتات الاجتماعية أو التآكل التدريجي للأصول التي يصعب تحديدها كميا والتي نهتم بها بشدة ولكننا نميل إلى إهمالها في كفاحنا اليومي لتحقيق مكاسب مادية، مثل العلاقات البشرية الهادفة والتنوع البيئي. ويجب أن تؤخذ هذه المخاطر على محمل الجد، حيث يقر أنصار ما بعد الإنسانية. أن لما بعد الإنسانية جذور في التفكير الإنساني العلماني ، ومع ذلك فهي أكثر راديكالية من حيث أنها لا تعزز فقط الوسائل التقليدية لتحسين الطبيعة البشرية ، مثل التعليم والصقل الثقافي ، ولكن أيضا التطبيق المباشر للطب والتكنولوجيا للتغلب على بعض حدودنا البيولوجية الأساسية([xxv]).

إن هذه المخاوف وتلك العوامل السلبية والتطور التكنولوجي غير المحكومة تجعلنا نبحث عن قيمة الإنسان في مرحلة ما بعد الإنسانية .

قيمة ما بعد الإنسانية الأساسية: استكشاف عالم ما بعد الإنسان

من الممكن تصور مستقبل يتم فيه استبدال أجزاء من جسم الإنسان أو ترقيتها بشكل كبير بواسطة الآلات التي تعرف عموما باسم ما بعد الإنسانية، أو حيث لم يعد الجسم يشبه، بأي شكل من الأشكال، جسم الإنسان (عرف عموما باسم ما بعد الإنسانية).

سيكون لهذا بالطبع تداعيات كبيرة على الأنثروبولوجيا البيولوجية أو الفيزيائية وقد يغير التخصص بالكامل.

وصف عالم الأحياء البريطاني جوليان هكسلي (1887-1975)، الذي كان شقيق الدوس هكسلي (1894-1963)، مؤلف كتاب Brave New World عام 1932، الاقتراح القائل بأن البشرية يجب أن تستخدم التكنولوجيا لتجاوز قيود الجسم البشري الحالي ، بما في ذلك الدماغ بأنه “تجاوز الإنسانية”. استخدم مصطلح عنوان مقال مؤثر عام 1957، على الرغم من أن الكلمة نفسها مشتقة من ورقة بحثية سابقة عام 1940 للفيلسوف الكندي ويليام لايتهول (1857-1954). وصف جوليان هكسلي في هذا المقال أهداف تجاوز الإنسانية على النحو التالي:

كانت حياة الإنسان بشكل عام، كما وصفها هوبز، «سيئة ووحشية وقصيرة) ؛ الغالبية العظمى من البشر (إذا لم يكونوا قد ماتوا صغارا بالفعل أصيبوا بالبؤس. يمكننا تبرير الاعتقاد بأنه يمكن التغلب إلى حد كبير على القيود الحالية والإحباطات البائسة لوجودنا. ويمكن للجنس البشري، إذا شاء أن يتجاوز نفسه([xxvi]). هذا علي اعتبار أن مرحلة ما بعد الإنسانية تمثل مرحلة يتخلص فيها الإنسان من البؤس الذي أشار إليه هويز، فنحن لا نستطيع أن نمحو مخاوفنا من أن مرحلة ما بعد الإنسانية تكون بمثابة فصل جديد يضاف إلي الإنسانية مشاعر أكثر بؤسا ودماراً.

استكشف جوليان هكسلي التطورات في علم البيئة وعلم الوراثة وعلم الحفريات والتوزيع الجغرافي وعلم الأجنة والأنظمة الحيوية وعلم التشريح المقارن، والتي حددها في عام ۱۹۶۲ في كتابه Evolution: The Modern Synthesis. ومع ذلك، يمكن إرجاع أفكار تجاوز الإنسانية وتعزيز البشرية إلى أيديولوجية التنوير لتعزيز التغييرات التكنولوجية كمحركات التقدم البشري. وشمل ذلك كتابا مثل الموسوعي الفرنسي دينيس ديدرو (84-1713 Denis Diderot)، الذي كان عضوا بارزا في عصر التنوير.

بعبارات أكثر تحديدا، يمكن وصف تجاوز الإنسانية بأنها ظاهرة ثقافية متعددة التخصصات تتكون من المعتقدات والمعايير والأدب والممارسات الاجتماعية التي لا تتناول فقط التغيرات العلمية والتكنولوجية ولكن أيضا الاهتمامات الوجودية البشرية الأعمق. في الواقع، يمكن جعله أيديولوجية للتقدم النهائي الذي يهدف إلى إخراج البشرية من قيود الطبيعة البشرية، بما في ذلك الجسد البيولوجي الفاني. وبعبارة أخرى، فإنها ترحب بالتكنولوجيا بوصفها القوة الدافعة الرئيسة للتغيير الثقافي. وهذا يعني أن تجاوز الإنسانية يشير إلى التحول من الوجود البشري إلى الوجود المتجاوز للبشر، وكذلك الإجراءات والمعتقدات التي ستعزز وتؤثر على المستقبل الأمثل لما بعد الإنسان([xxvii]).

يترتب على ذلك أن تجاوز الإنسانية يختلف عن مفهوم التعزيز من حيث أنها تسعى إلى خلق كائنات لم تكن موجودة من قبل في تاريخ البشرية. لكن هذه الكائنات ستحتفظ ببعض الخصائص البشرية مثل الكائنات بين البشر وغير البشر أو السايبورج التي تجمع بين الإنسان والروبوت. على سبيل المثال، استخدم رجال الإنترنت في المسلسل التلفزيوني الخيالي Doctor Who التابع لهيئة الإذاعة البريطانية عملية تسمى التحويل السيبراني والتي تضمنت استبدال الجسد البشري لشخص ما بتحديثات سيبرانية من أجل زيادة أعدادهم بدلا من استخدام التكاثر البيولوجي.

بالمثل، فإن رواية الخيال العلمي 1952 Limbo، التي كتبها الأمريكي برنارد وولف 1915-85 Bernard Wolfe))، تصور مستقبلا مليئا بالتحديات حيث يتم استبدال أجزاء جسم الإنسان بأطراف إلكترونية، مع فحص ما يحدث عندما تكون الاستحواذ على حدود وطبيعة الجسم([xxviii]).

فإذا كانت القيم الإنسانية اليوم تمثل ركنا أصيلا وثابتا فإنها في مرحلة تجاوز الإنسان سوف تحل محلها التكنولوجية المتطورة بما يخدم التطور البيولوجي.

المعضلة المركزية هي أن التكاثر اللاجنسي ببساطة، حيث ينتج الكائن نسخة من نفسه، هو أكثر كفاءة بكثير كوسيلة لإمرار جيناتك إلى الجيل التالي. ويتصادف أن كثيرا من الأنواع وبالذات عدد من الزواحف والأسماك تمارس كميات محدودة من التكاثر اللاجنسی، ناسخين أنفسهم بدلا من جمع مادة جينية من ذكر (وهو مسعى أنثوي ينتج عنه إناث فقط). تستضيف حديقة حيوان لندن تنينا “كومودو” أنتج ذرية من دون مساعدة من ذكر منذ 2006 مثلاً([xxix]).

إن التكاثر اللاجنسي يمثل إنتصارلأنصار مرحلة ما بعد الإنسانية حيث لم يعد الإنسان بحاجة إلي إنسان آخر من أجل استمرار الحياة ،مما يعني أن هذا يمثل حالة أخري من حرمان الإنسان من أحد متعته  في الحياة وهي ممارسة العلاقة الحميمية التي تعمل علي ذوبان الفجوة بين البشر، فمع القضاء عليها يتم إحداث هوة بين البشر مع بعضهم البعض.

ولهذا يمكن القول  بأن المشكلة التي يواجهها البشر ليست نهاية الإنسان، وإنما هي “نهاية الإنسانية”، التي يمكن للبيوتكنولوجيا أن توقفها أو تحد منها . إن ثلاثة بلايين من البشر يعيشون دون صرف صحي، إن بليونا ونصف البليون لا تصلهم المياه النظيفة، إن بليونا وربع البليون لا يجدون السكن الذي يليق بالأدمی . إن نصف بليون لا يتوفر له الحد الأدنى من الغذاء اليومي، إن ثلاثين أو أربعين ألف طفل . يموتون يومياً بسبب سوء التغذية والأمراض هكذا تقول تقارير الأمم المتحدة. أي إنسان هذا الذي يجادل فوكوياما کی بحفظ كرامته البشرية ؟ هل يتمتع هؤلاء جميعا “بالكرامة البشرية”، و”حقوق الإنسان”؟ هل طبيعتهم هي حقا “الطبيعة البشرية” التي يخشى عليها فوکویاما من الهندسة الوراثية؟ أليست الهندسة الوراثية في الزراعة والمناعة الصيدلية هي الأمل الكبير في تحسين أوضاع هؤلاء جميعا وجعلهم بشراً نخاف على بشريتهم ونخاف على نهاية الإنسان فيهم، أما يستحقون – كما يقول بیتر کونراد – أن يتذكرهم فوكوياما، في كتابه هذا ولو بفقرة؟ أم تراهم عنده يمثلون إنسان نيانديرتال المعاصر أمام إنسان الغرب المتقدم صاحب العلم والتكنولوجيا؟ أم أن قضيته الحقيقية هي الخوف على «إنسان الغرب» ، هذا «الأفضل»، من أن يخلفه إنسان آخر أذكي؟ ثم، أتراه ، وهو الذكي. يصدق هذا حقا؟([xxx]).

قد يكون التحليل السابق صحيحا من الناحية الواقعية ،إلا أنه علي الجانب الفكري يمكننا القول أن هذه الأرقام التي أشار إليها لا تحصل علي حياة كريمة نتيجة الجهل وسوء استخدام الطبيعة والموارد الطبيعية والذي يمكن تجنبه من خلال ترشيد الاستهلال، كما أن الضحايا تكون أعدادًا بسيطة محدودة، أما ما يمكن أن نصل إليه في مرحلة ما بعد الإنسانية من هلاك للبشرية نتيجة التكنولوجية الخطيرة وعدم الفهم الصحيح للتطور الحياة البشرية، مما قد يؤدي إلي هلاك الجنس البشري بالكامل في لحظة نتيجة خطر بسيط.

من المفترض أن مجموعة الأفكار والمشاعر والتجارب والأنشطة التي يمكن للكائنات البشرية الوصول إليها لا تشكل سوى جزء صغير مما هو ممكن. لا يوجد سبب للاعتقاد بأن طريقة الوجود البشرية خالية من القيود التي تفرضها طبيعتنا البيولوجية أكثر من أنماط وجود الحيوانات الأخرى. تمامًا كما يفتقر الشمبانزي إلى القوة العقلية لفهم ما يعنيه أن تكون إنسانًا، فإننا أيضًا نفتقر إلى القدرة العملية على تكوين فهم واقعي بديهي لما سيكون عليه الحال بعد الإنسان.

تختلف هذه النقطة عن أي ادعاءات مبدئية حول الاستحالة. لا نحتاج إلى التأكيد على أن ما بعد البشر لن يكونوا محسوبين في اختبار تورينج أو أن مفاهيمهم لا يمكن التعبير عنها بأي جمل محدودة في لغة الإنسان. إن الاستحالة أشبه باستحالة قراءة كل كتاب في مكتبة الكونجرس، مع تذكر وفهم كاملين. فإن نمطنا الحالي للوجود يمتد إلى مسافة جزئية دقيقة لما هو ممكن أو مسموح به من خلال القيود المادية للكون. ليس من المستبعد افتراض أن هناك أجزاء من هذه المساحة الأكبر تمثل طرقًا قيمة للغاية للعيش والشعور والتفكير([xxxi]).

يمكننا تصور ملذات جمالية وتأملية يتجاوز سعادتها إلى حد كبير ما عاشه أي إنسان حتى الآن. يمكننا أن نتخيل كائنات تصل إلى مستوى من التطور والنضج الشخصي أكبر بكثير مما يفعله البشر الحاليون، لأن لديهم فرصة للعيش لمئات أو آلاف السنين بقوة جسدية ونفسية كاملة.

يمكننا تصور كائنات أكثر ذكاءً منا، يمكنها قراءة الكتب في ثوانٍ، وهي فلاسفة أكثر ذكاءً منا، يمكنها إنشاء أعمال فنية وتحف رائعة. يمكننا أن نتخيل أن الحب أقوى وأنقى وأكثر أمانًا مما كان يؤويه أي إنسان حتى الآن. إن حدسنا اليومي حول القيم مقيد بضيق تجربتنا وقيود قوى الخيال لدينا. يجب أن نترك مجالًا في تفكيرنا لإمكانية أنه مع تطويرنا لقدرات أكبر، سنكتشف قيمًا ستصدمنا على أنها أعلى بكثير من تلك التي يمكننا إدراكها كبشر بيولوجيين غير معززين([xxxii]).

إن القول بأن حدسنا اليومي للقيم مقيد هو قول غير صحيح لأن أدراك الإنسان يتم وفقا لإمكانياته ،وبالتالي فإن رؤيته للقيم تتناسب مع مفهومه الكلي عن القيم. وتحدث فجوة بين القيم وبين وعي الإنسان متي وجدت القيم ودون إدراك الإنسان لها، فالإنسان يدرك القيم ويعمل علي النهوض وفقا لها ووفقا لرؤيته التي تتكامل مع جوهره البشري.

اليوجينيا Eugenics – علم تحسين النسل – كلمة مشتقة من أصل إغريقي يعني “نبيل المحتد” أو “طيب الأرومة”، ويرى البيولوجيون إنه علما ليس بجديد، وإن فكرة تربية أناس أفضل ترجع إلى أفلاطون إن لم يكن قبله”([xxxiii])، لكن الفكرة أتت من مدينة أفلاطون الفاضلة الذي حاول فيها غرس قيم وفضائل وأخلاقيات لتحسين الوضع الاجتماعي بتربية تفصح عن أناس فضلاء ومجتمع مثالي. إلا أن المشروع برمته أسفر على فشل ذريع لأسباب عديدة، نذكر منها تمسكه بنظام الطبقية الحديدي، وعدم قدرته هو شخصياً من التخلص من عوامل التربية والوراثة والتي شكلت شخصيته والتي اتضحت في تكوينه كاستقراطي، وفي سلبيات مدينته ظنا منه بأنها هي الصفات المرغوبة لحياة مثالية([xxxiv]).

علم تحسين النسل هو دراسة الأسباب المتحكمة في خصائص بعينها في النسل ویسمي أيضا الإستيلاء الانتقائي، تطوير الصفة الوراثية, تحسين الصفة الوراثية، ويهدف علم تحسين النسل إلى تنقية الطاقم الوراثي لأجيال المستقبل من أية أمراض وراثية، وتنمية وتحسين الصفات الوراثية المرغوب فيها، والقضاء على الصفات غير المرغوب فيها([xxxv]).

ظهر تحسين الإنسان في السنوات الأخيرة كموضوع مهم في الأخلاق التطبيقية، ومع التقدم المستمر في العلوم والتكنولوجيا، بدأ البشر يدركون أن بعض المعايير الأساسية للوضع البشري قد تتغير في المستقبل، وكان أحد الأهداف هو تغيير حالة الإنسان وتحسين قدراته البشرية الأساسية، لذلك كان من الضرورى النظر في الأسئلة المعيارية التي تثيرها هذه التوقعات([xxxvi]). وهنا علينا أن ندرك فرقا كبيرا بين محاولات تحسين النسل والمحالات التي يمكن بها العلماء في مرحلة ما بعد الإنسانية، فالأولي لها ضوابط وقواعد تسير وفقا لها ،أما الثانية فهي محاولات قائمة علي إحلال الآلة محل الإنسان بصفات بشرية.

يبدو أن مشروع اليوجينيا كان يهدف إلى تحسين نوعية جنس الإنسان عن طريق معالجة وراثته البيولوجية. لكن الهدف إتخذ منحة أخرى بتحلل الجذور البيولوجية للتدهور الاجتماعي، والعمل على استئصاله وأصبح يطبق علم الوراثة البشرية على المشاكل الاجتماعية وتنقية العرق البشري “العنصرية”، بل تعد الأمر إلى إعلان اليوجينيون أنهم مهتمون بوقف التدهور الاجتماعي، وقد لاحظوا دلالات عنه صارخة، في الانحلال الاجتماعي والسلوكي بالمجتمع الصناعي المدني – مثلا الجريمة، أحياء الفقراء القذرة، الأمراض المتفشية – الانحلال، رأوا أن أسبابه تكمن أساساً في البيولوجيا – في “الدم”. ودعا اليوجينيون إلى تحسين نوعية السلالة البشرية بتخليص المجتمع من المنحطين بيولوجيا. ويتم هذا بتثبيط المتخلفين عن الإنجاب أو بمقاومة دخولهم إلى البلد عن طريقة الهجرة، وأطلق على هذه البوجينيا باليوجينيا السلبية([xxxvii]).

ظهرت بدايات علم تحسين النسل منذ قديم الأزل و إن كانت هناك اختلاف في التسمية وفي الوسائل التي استخدامها القدماء من أجل هذا، ولقد كانت بدايات هذا العلم على يد فرانسيس غالتون” وهو عالم متخصص في الرياضيات و ابن عم العالم الشهير “تشارلز داروين” وقد كان “غالتون” من اقوى الداعين إلى علم تحسين النسل البشري، الذي أشار إليه في كتابه العبقرية الوراثية” عام 1869م والذي اسماه “اليوجينيا” والذي طالب فيه بخلق أجيال جديدة من البشر تتميز بأفضل صفات بشرية كالذكاء والجمال والقوة، ولم يكن ذلك عن طريق التحكم في الجينات الوراثية كما هو قائم الان مع الهندسة الوراثية، وإنما عن طريق ما أسماه “غالتون” بالزواج الموجه الذي يهدف إلى الحصول على النسل الذهبي المتميز وراثياً، فقد قال “غالتون”: “إن ما تنجزه الطبيعة على نحو أعمى وجائر قد ينجزه الإنسان بحكمة وسرعة([xxxviii]).

يحمل موضوع التحسين أيضا بعداً نظرياً، إذ إنه يرتبط بكثير من القضايا الأخلاقية التي تظهر في دراسة آفاق التحسين البشري مفاهيم و مشكلات ذات أهمية فلسفية عامة، كمفاهيم الطبيعة البشرية، الهوية الشخصية، الوضع الأخلاقي، الرفاهية، المشكلات في الأخلاق المعيارية، والفلسفة السياسية، فلسفة العقل، ونظرية المعرفة، بالإضافة إلى كل تلك الروابط الفلسفية، يقدم التحسين البشري حافزا للتفكير في التخصصات الأخرى، بما في ذلك الطب، القانون، علم النفس، الاقتصاد، وعلم الاجتماع([xxxix]).

عندما يعرف بوستروم التحسين فإنه يركز على خاصيتين لنسالة الكائن البشري، هما: التكون والتطور فيكون أي التحسين تدخل يتسبب إما في تحسين أداء بعض الأنظمة الفرعية (مثل الذاكرة طويلة المدى) بما يتجاوز الحالة الصحية الطبيعية في بعض الأفراد أو إضافة سعة جديدة (مثل الحس المغناطيسي) والتوجه نحو تطوير أداة تساعدنا في التفكير فيما إذا كان من المحتمل أن ينتج عن التحسينات المقترحة فائدة صافية([xl]).

لكن من الأسئلة التي تطرح، ما الفرق بين التحسين والعلاج؟ ويجيب بوستروم عن ذلك يمكن وصف التدخل الذي يهدف إلى تصحيح مرض أو اصلاح عيب معين بأنه علاجي). وعلى الرغم من أن الفرق بينهما بالإمكان ايجازه بأن العلاج يسعى إلى الوقاية من المرض أو علاج المرض بهدف وحيد هو استعادة الأداء الطبيعي.

يهدف التحسين إلى تغيير الخصائص والسمات والقدرات الشخصية والمادية الطبيعية، إلا أنه ليس من اليسير وضع الحدود الحاسمة بينهما، إذ يوجد بينهما تداخل مع فوارق دقيقة ([xli]).

  • يشمل الطب المعاصر العديد من الممارسات التي لا تهدف إلى علاج الأمراض أو الإصابات مثل الطب الرياضي، والجراحة التجميلية، وأجهزة منع الحمل، وإجراءات طب الأسنان التجميلية، وغير ذلك الكثير، فضلا عن حدوث العديد من عمليات التحسين خارج الإطار الطبي، إذ يعزز موظفو المكاتب من أدائهم بشرب القهوة، ويستخدم المكياج والعناية الشخصية لتحسين المظهر، ويتم استخدام التمرين والتأمل لتحسين الحالة المزاجية.
  • ليس من الواضح كيفية تصنيف بعض التدخلات التي تقلل من احتمالية المرض والوفاة، ويمكن أن ينظر إلى التطعيم على أنه تحسين لجهاز المناعة أو كتدخل وقائي وبالمثل، فإن التدخل لإبطاء الشيخوخة يمكن اعتباره إما تحسينا لطول العمر الصحي أو كتدخل وقائي، يقلل من مخاطر المرض والعجز .

ج- تختلف القدرات باستمرار، ليس بين الأفراد وحسب، ولكن حتى في الفرد الواحد، فعندما ننضج تزداد قدراتنا الجسدية والعقلية ومع التقدم في العمر تتراجع، إذا أتاح التدخل لشخص يبلغ من العمر 80 عاما أن يكون لديه نفس القدرة على التحمل الجسدي، حدة البصر، كما كان في العشرينات من عمره ، فهل يعد ذلك علاجا أم تحسينا؟

د- قد نتساءل كيف يجب أن يكون التدخل من أجل اعتباره تحسينا أو علاجاً، مثل جراحة الليزك التي هي علاج لضعف الرؤية، ماذا عن العدسات اللاصقة؟ النظارات؟ برنامج الكمبيوتر الذي يقدم نصا بخط مكبر؟ من دون اشتراط أن يكون التدخل داخلياً، جميع هذه التقنيات والأدوات تشكل تحسينات من حيث أنها تمنحنا القدرات لتحقيق نتائج بسهولة أو فعالية أكبر مما يمكننا القيام به بخلاف ذلك.

كما يرى “غالتون” ضرورة تنمية الصفات الوراثية الحسنة كالذكاء وحسن الخلق والإبداع، بينما يرى على الجانب الآخر ضرورة تعقيم أولئك الذين يعانون من الإدمان والسلوك العدواني أو أي من الصفات غير المرغوب فيها، وبالطبع ساعد ذلك على دعم وتقوية آراء السياسة والمؤمنين بضرورة التفرقة العنصرية وتميز جنس عن آخر، ولقد آمنت النازية على يد “هتلر” وغيره من القادة الألمان بهذه النظرية، وتبنتها وحاولت تطبيقها بقسوة حتى أنها أدت إلى قتل وتعقيم عشرات الآلاف من البشر، كما رأت ضرورة التخلص من اليهود تنقية للعرق الآری، بوضعهم في محارق ومقابر جماعية، وذلك بعلة أنهم جنس أدنى ويجب التخلص منهم، ويعد “هتلر” من أبرز الساسة الذين آمنوا بعلم تحسين النسل وحاولوا تطبيقه وإن لم يكن من خلال الهندسة الوراثية المستخدمة الآن، فقد كان بوسائل أخرى تقليدية، فقد ألف “هتلر” كتابا أسماه “حیاتي” وعرض فيه فلسفته الخاصة بضرورة التخلص من كل كائن به عيب او نقص ما، سواء كان هذا النقص في صفاته الجسمانية أو النفسية أو العقلية، كما أنه لا يجوز لهؤلاء الأشخاص أن يكون لهم نسل خاص بهم حتى لا يورثوا هذه الصفات غير المرغوب فيها للجيل الجديد، ولقد أجريت أول تجربة تحسين نسل على البشر كانت من خلال اليزابيث نيتشه أخت الفيلسوف “نيتشه” وقامت بها على سكان منطقة “سكسونيا”، ومن يذهب إلى هناك سوف يلاحظ الاختلاف الواضح على سكان هذه المنطقة بالمقارنة بجيرانهم حيث يتميزون بشعر أشقر وعيون زرقاء([xlii]).

دعم علماء الحياة المعاصرين “مشروع “الجينوم البشري” الذي من شأنه تطبيق تكنولوجيا علمية ترفع من نوع الحياة بالتقليل من تفشي عديد من أمراض مؤلمة ومكلفة للمجتمع الإنساني، إذ يساعد في إبطاء معدل تزايد النفقات على الصحة”. وأعلنوا أن ثمة مؤشرات واضحة على اتجاهات وأهداف يوجينية تكمن في صلب مفهوم حماية الناس من الإصابة بالأمراض الوراثية ونقلها إلى النسل، إن تطبيق المعلومات الوراثية البشرية لمثل هذه الأهداف يتضمن في كل الحالات تقريبا قرارات يوجينية في جوهرها – “عن التراكيب الوراثية لأفراد من البشر، قبل الولادة وبعدها: ما هو طبيعي منها وما هو غير طبيعي، المقبول منها و غير المقبول، القابل للحياة منها وغير القابل”([xliii]).

تطلب المشروع الجديد برنامجا مدته ثلاث سنوات لتحليل الجينوم البشري ذاته، دون الالتفات إلى الطب التنبؤي، وألزم الجماعة الأوروبية بأشياء عديدة أهمها تحريم بحوث الخط المشيجى البشري والتدخل الوراثي في الأجنة البشرية،  وذلك لتجنب الممارسات اليوجينية، ومنع العثرات الأخلاقية وحماية حقوق الفرد وخصوصيته “، كما وعد المشروع أيضا بأن يطلع البرلمان والجمهور عن طريق تقارير سنوية على الأساس الأخلاقي والقانوني لبحوث الجينوم، وفي 15 ديسمبر 1989 تبنى مجلس وزراء الجماعة الأوروبية المشروع وجعله معبرا عن موقفه العام بالنسبة لمشروع الجينوم، لم يبين البرلمان أي اعتراض، وأعلن المجلس 29 يونيو 1990م الموافقة على برنامج الجماعة الأوروبية للجينوم البشري، وأنه قد احتاج إجمالياً قدره “15 مليون إيكو لثلاث سنوات يواجه 7% منه إلى الأخلاقيات”([xliv]).

أصبح الناس مشروطين من قبل وسائل الإعلام والقادة الدينين وعلماء الأخلاق لربط اختبار الوالدين والأطفال مع تحسين النسل، والأطفال المصممين (Designer babies) والمنحدرات المزلقة، بل وحتى الطب النازي (الطب البشري) وهذه الارتباطات و رسومها المتنوعة، لا تشكل أسباباً وجيهة بل هي محاولات مقنعة لإيقاف جدلية الأسباب (محاولات مكشوفة لوقف جدلية الأسباب).

إن التحدي الأكبر أمام الهندسة الوراثية في القرن الواحد والعشرين هو تحسين النوع الإنساني ذاته، فالإنسان هو النوع الأول الذي يتمكن من امتلاك مقدراته، فنحن الآن نشهد استخدام هرمون النمو في أغراض أخرى غير علاج التقزم Dwarfism كذلك فإن استخدام الهرمونات المستخلصة من المشيمة يمتد ليشمل أغراضا تتعلق بالجمال أكثر منها بالأغراض الطبية([xlv]).

في المستقبل ستدخل الهندسة الوراثية دائرة تطوير الذكاء البشري، فعلى سبيل المثال، الآباء الذين يعتقدون أن الذكاء الحسابی يمكنهم من إضافة المادة الوراثية المسؤولة عن هذا النوع من الذكاء إلى أبنائهم قبل أو بعد الولادة، أباء آخرون يمكنهم اختيار موهبة الرسم أو الموسيقى أو الموهبة الرياضية لأبنائهم، ليس ذلك فقط، بل بعض الصفات الشخصية كالجاذبية والأمانة – مثلا – يمكنهم اختيارها أيضا.

وبالطبع تنشأ معضلة اجتماعية كبرى بين هذه الأجيال الأكثر ذكاء والأعلى موهبة من آبائهم ومدرسيهم وحكامهم, المتفائلون يتوقعون مجتمعا أكثر انفتاحا وتنويرا والمتشائمون يتساءلون عن مصير العجائز : هل يذهبون إلى مخازن جماعية أم دور المعاقين وراثياً([xlvi]).

إن التخمين بأن هناك قيمًا أكبر مما يمكننا فهمه حاليًا لا يعني أن القيم غير محددة من حيث تصرفاتنا الحالية. خذ، على سبيل المثال، نظرية القيمة للفيلسوف الأمريكي ديفيد لويس  David Lewis، هناك شيء ما يمثل قيمة بالنسبة لك إذا كنت تريد ذلك وفقط إذا كنت على دراية به تمامًا وكنت تفكر فيه وتتداوله بأكبر قدر ممكن من الوضوح. ومن هذا المنظور، قد تكون هناك قيم لا نريدها حاليا، ولا نريد حتى أن نريدها حاليا، لأننا قد لا نكون على دراية تامة بها أو لأننا لسنا مداولين مثاليين. قد تكون بعض القيم المتعلقة بأشكال معينة من وجود بعد الإنسان من هذا النوع ؛ قد تكون قيما بالنسبة لنا الآن، وقد تكون كذلك بفضل تصرفاتنا الحالية، ومع ذلك قد لا نتمكن من تقديرها بالكامل بقدراتنا التداولية المحدودة الحالية وافتقارنا إلى الكليات المتقبلة المطلوبة للتعرف الكامل عليها. وهذه النقطة مهمة لأنها تبين أن الرأي العابر للإنسان بأنه ينبغي لنا أن نستكشف مجال قيم ما بعد الإنسانية لا يستتبع أن نتخلى عن قيمنا الحالية. يمكن أن تكون قيم ما بعد الإنسانية قيمنا الحالية، وإن كانت قيمًا لم نفهمها بوضوح بعد.

ما بعد الإنسانية لا يتطلب منا أن نقول أننا يجب أن نفضل ما بعد البشر على البشر، ولكن الطريقة الصحيحة لتفضيل البشر هي من خلال تمكيننا من تحقيق مُثُلنا العليا بشكل أفضل، وأن بعض مُثُلنا قد تكون موجودة خارج مجال أنماط الوجود التي يمكن الوصول إليها من خلال دستورنا البيولوجي الحالي([xlvii]).

يمكننا التغلب على عديد من قيودنا البيولوجية. من الممكن أن تكون هناك بعض القيود التي يستحيل علينا تجاوزها، ليس فقط بسبب الصعوبات التكنولوجية ولكن لأسباب ميتافيزيقية. اعتمادًا على وجهات نظرنا حول ما يشكل الهوية الشخصية، يمكن أن تكون أنماط معينة من الوجود، رغم أنها ممكنة، غير ممكنة بالنسبة لنا، لأن أي كائن من هذا النوع سيكون مختلفًا جدًا عنا لدرجة أنه لا يمكن أن يكون نحن. مخاوف من هذا النوع مألوفة من المناقشات اللاهوتية للحياة الآخرة. في اللاهوت المسيحي، سيسمح الله لبعض النفوس بالذهاب إلى السماء بعد انتهاء وقتهم كمخلوقات. قبل الدخول إلى السماء، كانت النفوس تخضع لعملية تطهير تفقد فيها عديد من صفاتها الجسدية السابقة. قد يشك المتشككون في أن العقول الناتجة ستكون مشابهة بما فيه الكفاية لعقولنا الحالية حتى يكون من الممكن أن يكونوا الشخص نفسه. ينشأ مأزق مماثل داخل ما بعد الإنسانية: إذا كان أسلوب ما بعد الإنسان مختلفًا جذريًا عن أسلوب الإنسان، فقد نشك في ما إذا كان ما بعد الإنسان يمكن أن يكون نفس الشخص مثل الإنسان، حتى لو كان ما بعد الإنسان نشأ من إنسان([xlviii]).

إن رغبة الإنسان في عيش حياة أطول وحلمه بالعثور على إكسير الحياة، من أكثر الأمور التي تشغل معظم الأفراد، إن تمديد حياة الفرد ورغبته الملحة في الخلود، قد أخذا فكرة أنه من الممكن وجود نوع آخر من الإنسان (ما بعد الإنسان)، هو الإنسان السايبورج، “اشتهرت هارواي باستخدام السايبورج (cyborg)، أو الإنسان الخارق الخيالي كنموذج ساخر؛ يثير الشك في أساليبنا الثنائية في التفكير في التكنولوجيا، والسياسة، والهوية الإنسانية. وتساعدنا أسطورة السايبورج في أن نرى كيف أن التمييز ذاته بين ما هو طبيعي واصطناعي واجتماعي، ليس حيويا أو ضروريا، وهنا تتمثل بدقة نظرة هايدجر الثاقبة بشأن قلقه من الخطر الناجم عن إساءة استخدام التكنولوجيا “([xlix]). حيث إن التكنولوجيا باعتمادها على تقنية تعزيز الإنسان؛ لهدف واضح وصريح وهو الدعوة إلى الإنسانيين الجدد Transhumanists أو الإنسان البديل  Transhumanism؛ حيث يرى أنصار دعوة الإنسان البديل من أمثال نيك بوستورم وماکس مور، أن تكنولوجيا تعزيز الإنسان يمكن استخدامها لتحسين حياة الإنسان، وتتضمن تحسينات لسمات الإنسان؛ ما بين تحسين القدرات الذهنية والبدنية، والاستعدادات السلوكية، بالإضافة إلى التعزيزات الكيماوية، وهي تعديلات كيماوية للأعضاء، أو العمليات البيولوجية، والتي ينتج عنها تحقق أداء وظيفي أفضل وأرقى”، ومما ينتج عن تلك التعديلات والتعزيزات، أن يكون الكائن الحي الناتج عن تلك التعديلات لا يمكن التعرف عليه تماما، بوصفه عضوا من الهوموسابينس (الإنسان العاقل)، والذي أصبح إنساناً بديلاً أو شكل حياة ما بعد الإنسان([l]).

مع ذلك، يمكننا تصور عديد من التحسينات التي لن تجعل من المستحيل على شخص ما بعد التحول أن يكون الشخص نفسه ما قبل التحول. يمكن أن يحصل الشخص على زيادة كبيرة في متوسط العمر المتوقع والذكاء والصحة والذاكرة والحساسية العاطفية، دون التوقف عن الوجود في هذه العملية. يمكن تغيير الحياة الفكرية للشخص بشكل جذري خلال الحصول على التعليم. يمكن تمديد متوسط العمر المتوقع للشخص بشكل كبير خلال علاجه بشكل غير متوقع من مرض مميت. ومع ذلك، لا يُنظر إلى هذه التطورات على أنها تهجئة لنهاية الشخص الأصلي. على وجه الخصوص، يبدو أن التعديلات التي تضيف إلى قدرات الشخص يمكن أن تكون أكثر جوهرية من التعديلات التي تطرح منه، مثل تلف الدماغ. إذا تم الحفاظ على معظم الأشخاص حاليًا، بما في ذلك أهم ذكرياتهم وأنشطتهم ومشاعرهم، فإن إضافة قدرات إضافية فوق ذلك لن يتسبب بسهولة في توقف الشخص عن الوجود([li]).

يؤكد كثيرون على تغير مفهوم الإنسان والإنسانية والطبيعة البشرية، مما يترتب عليه أن هوية الفرد سینتابها بلا مجال للشك نوع من الإبهام والتشويش، وربما الفناء، مما يدعو الإنسانية بهوية غامضة، وربما بلا هوية. “حقا إن الجنس البشري يقف على مدخل عصر جديد، فالإنسان كما قالوا على وشك أن يمسك بزمام قوة جديدة يسيطر بها على نفسه، وعلى بيئته، تلك القوة لن تلبث أن تحول و تغير في الكيان البشري ومعانيه تحويلاً شاملاً”([lii]). إذن مازالت مرحلة ما بعد الإنسانية يحيط بها عديد من المخاوف المتعلقة بطبيعة الإنسانية، هل ستتغير أم هو مجرد تعديل أم  أن الإنسان قد يفقد هويته في خضم هذه الحياة القائمة علي القوة التكنولوجية . ولهذا نتساءل كيف تكون طبيعة الأشخاص؟

طبيعة الأشخاص

دعنا ننظر في بعض الأفكار التي تم التعبير عنها في “البيان”. عموما، طورت نصوص تجاوز الإنسان الأساسية نوعا من المسارات التطوير الشخصي للإنسان المعاصر، بإجازة تقنية

إنسان القرن 21 المعزز  “رقی” مهم مع تعزيزات إدراكية وجسدية أخري  حالة ما بعد الإنسان  “الذكاء الخارق”

باستعادة كرونولوجيا (الترتيب الزمني حسب الحدوث) التعزيزات، دعنا نسأل من جديد: هل تشرع في هذه الرحلة؟ هنا توجد أسئلة فلسفية عميقة ليس لها إجابات سهلة. لأنه لفهم ما إذا كان عليك أن تعزز نفسك، عليك أولا أن تفهم ما عليك أن تبدأ به، لكن ما هو الشخص؟ ومع إدراكك للشخص، بعد مثل هذه التغيرات الجذرية، هل تستمر أنت نفسك في الوجود، أو تكون قد توقفت عن الوجود، حيث تم استبدالك بشخص آخر؟ أو أن الحالة في الأخيرة، لماذا ترغب في الشروع في مسار إلى تعزيز جذري من الأساس؟([liii])

لاتخاذ مثل هذا القرار، على المرء أن يفهم ميتافيزيقا الهوية الشخصية – أي يجب على المرء أن يطرح السؤال: بفضل ماذا تستمر ذات خاصة أي شخص في الوجود عبر الزمن؟ المكان الجيد للبداية يكون مع دوام الأشياء اليومية عبر الزمن. فكر في آلة الإسبرسو في مقهاك المفضل. وافترض أن خمس دقائق قد مرت وأوقف عامل المقهى الآلة. تخيل سؤالك للعامل عن ما إذا كانت الآلة هي نفسها التي كانت موجودة منذ خمس دقائق. من المرجح أن يخبرك بأن الإجابة بالغة الوضوح – من الممكن بالطبع الآلة ما ولنفس الآلة أن تستمر في الوجود مع مرور الزمن. تبدو تلك حالة معقولة من الاستمرار، حتى لو تغيرت صفة واحدة على الأقل للآلة. من جانب آخر، لو تم تفتيت الآلة أو تذويبها، لن تعد نفس الآلة موجودة، وما يتبقى قد لا يكون أية آلة سبرسو على أي حال، في ما يتعلق بهذا الأمر. لذلك يبدو أن بعض التغيرات تؤدي إلى توقف شيء ما عن الوجود، بينما تغيرات أخرى لا تفعل ذلك. ويطلق الفلاسفة على الصفات التي تكون لدى الشيء طالما ظل موجود “الخواص الجوهرية”([liv]).

والآن انظر إلى مسار متجاوز الإنسان من أجل التعزيز: لكي يكون تعزيز ما اختيار جدير بالاهتمام من أجلك، عليه أن يمثل نوعا من التطور الشخصي. في مجرد الحد الأدنى، حتى لو قدم التعزيز فوائد مثل ذكاء الإنسان الفائق وامتداد جذري للحياة، لا يجب أن يتضمن إلغاء لأي من خواصك الجوهرية. لأنه في هذه الحالة، قد لا يتم استخدام العقل الأكثر فطنة والجسد الأكثر ملاءمة بواسطتك – قد يستخدمهما شخص أخر، حتى لو كنت ترغب في أن تصبح ذكاء فائقا، فإن المشروع عمدا في مسار مبادلة واحد أو أكثر من خواص الجوهرية قد يكون معاد للانتحار – أي يعادل أن تسبب لنفسك عن قصد التوقف عن الوجود . لذلك قبل تعزيز نفسك، قد يكون من الأفضل أن تمضي في التعامل مع ماهية خواصك الجوهرية([lv]). في الحقيقة هذا يدفعنا إلي الحيرة والقلق أكثر من حيث أنه لا يوجد ضمان علي بقاء الإنسان كما هو بكل صفاته الجوهرية؛ لأن مسألة تطور ذكاء الإنسان تمثل تهديدا اساسيا علي التغير الذي يطرق علي طبيعة البشر.

تمسك أنصار تجاوز الإنسان بهذه القضية. يسأل رای كیرزويل: “إذن من أنا؟ حيث إنني أتغير باستمرار، هل أنا مجرد نمط؟ ماذا لو نسخ شخص ما هذا النمط؟ هل أنا الأصلي ورأى النسخة؟ ربما أنا هذه المادة هنا – أى كل من التجميع المنظم والعشوائي للجزيئات التي يتكون منها جسمي ومخي”. يشير كيرزويل هنا إلى نظريتين في المرحلة المركزية في النزاع الفلسفي القديم حول طبيعة الأشخاص. وتتضمن النظريات الرائدة ما يلي:

  1. نظرية الروح: جوهرك هو روحك أو عقلك، الذي يعتبر هوية غير مادية تتميز عن جسدك.
  2. نظرية الاستمرارية الجسمانية: أنت من الناحية الأساسية ذكرياتك والقدرة على التفكير في نفسك (لوك Locke) وفي شكلها الأكثر عمومية، أنت ترتيبك النفسي الشامل، وهو ما يشير إليه كيرزويل باعتباره “نمطك”.
  3. المادية: أنت من الناحية الأساسية المادة المصنوع منها – وهو ما يشير إليه كيرزويل باعتباره “التجميع المنظم والعشوائي للجزيئات التي يتكون منها جسمى ومخي”.
  4. وجهة نظر اللانفس: النفس وهم. و”أنا” خيال نحوي (نيتشه). هناك مجموعة من الانطباعات لكن لا تتضمن النفس (هيوم). لا بقاء لأنه لا يوجد شخص (بوذا) ([lvi]).

عند التفكير يكون لكل من وجهات النظر هذه تضميناتها الخاصة حول ما إذا كان على المرء أن يعزز نفسه. لو أنك تمسكت ب(1)، فإن قرارك للتعزيز يعتمد على ما إذا ا كنت تعتقد بان الجسم المعزز سوف يحافظ على نفس الروح أو العقل غير المادي). لو اعتقدت في (3)، عندئذ أي تعزيزات يجب ألا تغير دعامتك المادية. بالعكس، تبعا لـ (2)، يمكن للتعزيزات أن تغير الدعامة المادية لكن يجب أن تحافظ على ترتيبك النفسي. في النهاية تتناقض (4) بشدة مع (1) – (3). لو تمسكت ب(4)، عندئذ ليس بقاء الشخصية مشكلة، حيث ليس هناك شخص للبدء به. قد تكافح لتعزيز لا شيء، إلى حد أنك تجد قيمة جوهرية في إضافة المزيد من الذكاء الفائق إلى الكون – قد تحدد قيمة أشكال الحياة بأشكال الوعى الأعلى وترغب في أن يكون “ورثتك” هذا الكائن([lvii]). علي الرغم من هذه المدارس الفلسفية العديدة وتنوعها إلا أن مرحلة تجاوز الإنسان تمثل مرحلة أو خطوة من الممكن أن يؤدي إلي القضاء علي هذه المدارس وتنوعها، وتظل مدرسة واحدة وهي مدرسة الإنسان ذو بعد آلي، مما يعني أن الحديث عن هذه المدارس درب من الخيال أو جزء من التراث القديم المهجور.

من بين كل وجهات النظر هذه، تعتبر (2) حاليا هي الأكثر تأثيرا، كما يؤكد الفيلسوف إريك أولسون Eric Olson :

أغلب الفلاسفة يعتقدون بأن هويتنا عبر الزمن تشمل نوعا من الاستمرارية النفسية. أنت، بالضرورة، كائن المستقبل هذا الذي بمعنى ما يرث سماته العقلية منك .. هذا الذي لديه السمات العقلية يملك الجزء الأكبر منها لأن لديك السمات العقلية التي تملكها الآن. وأنت هذا الكائن الماضي الذي ورثت سماته العقلية.

وجهة النظر هذه فاتنة جدا حتى أن الكثيرين يشعرون بأنهم مخولون لتأكيدها دون حجة([lviii]).

المراد بالهوية هنا الهوية في البعدين الثقافي والاجتماعي، ومع اعتماد الفرد بشكل كلي وملحوظ على التقانات الحديثة في شتى مجالات حياته، نتج عنه زيادة في النمطية، ومن ثم اختفاء وتضاؤل هويته، وهذا كان ناتجه بالفعل (قضية ما بعد الإنسان، وعولمته، أو إنسان ما بعد الحداثة، أو كما يقال الإنسان الافتراضي)، وفي الوقت الحالي قد وظفت التقانة لأغراض السوق، والعرض والطلب، وبذلك كثيرا ما تباع الهوية وتسوق كأي سلعة، وبغض النظر عن دلالتها الإنسانية([lix]).

بما أن أهمية الهوية الأساسية التي تعمل على تكويني كشخص، وهي هوية كائن متميز في الوجود، وعلى المستوى العام شكل الطبيعة الأساسية للإنسان، وهي كونه شخصا (له سماته الفردية)، وعلى المستوى الفردي أن تكون له شخصية متميزة، إنها روح داخلية تعطي الشخص الكيان والتميز والتفرد والثبات، وهي مصدر الهوية”([lx]).

ليست الفردية الجينية خيرا بشريا لا يمكن الاستغناء عنه، وذلك ، لأن التوائم المتطابقة تتقاسم نمطا جينا مشتركا، ويبدو أنها لا تتأثر به، ولكن هذه الحجة تفتقد إلى السياق والبيئة التي فيها يولد المستنسخ البشري، فالتوائم المتطابقة لديهم أبوان بيولوجيان، ولدا معا وقبل أن ينمو كل منهما، ويظهر إمكانياته الطبيعية أو غيرها؛ حيث أن كلا منهما متحرر من عبء المقارنة والقياس، أو حتى المعرفة المقدمة بالسمات الجينية للأخر، ولأن كلا منهما يبدأ حياته مع بعضهما البعض([lxi]).

لكن الفرد المستنسخ يعد نسخة شبه جينية للشخص الذي يعيش بالفعل، أو عاش بالفعل، ومن ثم فإن هذا قد يقيد إحساس الشخص المستنسخ بذاته بطرق تختلف في نوعها عن تلك الموجودة في التوائم المتطابقة؛ حيث إن كل شيء يتعلق بالسلف – من الطول البدني ومظهر الوجه وأنماط الصلع والأمراض الوراثية وحالته المزاجية ومواهبه الأصلية حتى تشكيل الحياة وطول الأيام وحتي سبب الوفاة – سوف يظهر أمام تلك العيون المترقبة للشخص المستنسخ، فالأمر الحاسم ليس ببساطة تلك الحقيقة المتعلقة بالدرجة التي تشكلنا بها الهوية الجينية – على الرغم من أنها بالتأكيد تشكلنا إلى حد ما- ولكن ما يهمنا هو ما يتعلق بتصور الفرد لأهمية “الحياة السابقة”، والطريقة التي يتقلص بها الإدراك، ويحد من الشعور بمعنى الذات والاستقلالية([lxii]). وفي هذا يقول هايدجر: “لا يوجد في الحقيقة سوى وجود واحد يستطيع أن يسائل نفسه عن الوجود، وهذا الموجود الممتاز هو الموجود الذي أكونه (أنا)” ([lxiii]).

يعتقد دعاة الإنسان البديل من أمثال نيك بوستروم وماكس مور؛ أن تكنولوجيات تعزيز الإنسان يمكن استخدامها لتحسين حياة الإنسان، ويعتقدون أنه لا وجود لما يبرر أوامر أخلاقية تحظر تطوير واستخدام تكنولوجيات تعزيز الإنسان، ولكن منتقدي تعزيز الإنسان، من أمثال فرنسيس فوکوياما وليون كاس، يعارضون التدخل العابر لإصلاح الطبيعة البشرية بغرض التعزيز. وواجهت عمليات تعزيز الإنسان معارضة لأسباب عديدة متباينة من بينها: الزعم بأنها منافية للطبيعة، وإنقاص من كرامة الإنسان وتأكل للمساواة الإنسانية؛ فضلا عن أنها قد تكون ضارة جسديا ونفسياً.

ونذكر أن من بين القضايا موضوع الجدال بشأن تعزيز الإنسان؛ تأثيرها المحتمل في الهوية الشخصية. ونفهم هنا الهوية الشخصية على أنها مجموع الصفات (المدركة) التي تجعل من المرء شخصا متفرداً ، خاصة كما يفهم نفسه ، ويمكن توقع أن يؤثر تعزيز الإنسان في الهوية الشخصية؛ لأنه يتضمن إدخال تعديلات على عقل الإنسان وجسمه وتزويد المرء بقدرات فوق عادية. وطبيعي في أن هذه القدرات الجديدة يمكن أن تغير الطريقة التي ينظر بها الإنسان وتغير سلوكه أو تغير طريقة معايشة خبرته بالعالم وبنفسه. وأكثر من هذا أنه يمكن تعديل البشر إلى حد أن الكائن الحي الناتج عن ذلك لا يمكن التعرف عليه تماما بوصفه عضوا من الهوموسابينس (الإنسان العاقل)، وقد أصبح إنسانا بديلا أو شكل حياة ما بعد الإنسان الذي من شأنه أن يؤدي إلى تغييرات أكثر جذرية في الهوية الشخصية([lxiv]).

الحفاظ على الهوية الشخصية، خاصة إذا تم إعطاء هذه الفكرة تفسيرًا ضيقًا، ليس كل شيء. يمكننا أن نقدر أشياء أخرى غير أنفسنا، أو قد نعتبرها مرضية إذا بقيت بعض أجزاء أو جوانب أنفسنا على قيد الحياة وازدهرت، حتى لو كان ذلك يستلزم التخلي عن بعض أجزاء أنفسنا بحيث لم نعد نعتبر الشخص نفسه. قد لا تتضح أي أجزاء من أنفسنا قد نكون على استعداد للتضحية بها حتى نتعرف بشكل كامل على المعنى الكامل للخيارات. قد يكون الاستكشاف الدقيق والمتزايد لمجال ما بعد الإنسان أمرًا لا غنى عنه لاكتساب مثل هذا الفهم، على الرغم من أننا قد نكون قادرين أيضًا على التعلم من تجارب بعضنا البعض ومن أعمال الخيال. بالإضافة إلى ذلك، قد نفضل أن يكون الأشخاص المستقبليون من بعد البشر بدلاً من البشر، إذا كانت كائنات ما بعد الإنسانية ستعيش حياة أكثر جدارة من البشر البديلين. وأي أسباب نابعة من مثل هذه الاعتبارات لن تتوقف على افتراض أننا يمكن أن نصبح كائنات بعد إنسانية([lxv]).

لأن فكرة تحسين الإنسان في عقول المفكرين من زمان طويل ، عالجها أفلاطون ونيتشه وغالتون، وهي في جوهرها تعني ببساطة أن هنالك بشرا أفضل من بشر، أفضل منهم وراثيا، وأنه من الممكن أن نصل إلى “السوبرمان”، الإنسان “الأكمل” – والكمال لله وحده .

في أوائل القرن الماضي انتشرت هذه الفكرة، نشرها فرانسیس غالتون، وذاعت حتى إعتنقها عدد لا يصدق من كبار المفكرين والعلماء والأدباء والساسة. عمت هذه “الثورة” اليوجينية بدعوي تحسين حياة البشر بالقضاء على الفقر والمرض، ثم انتهت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت، لو استمرت، ستؤذن مبكرة بنهاية الإنسان. كانت “ثورة” اختلط فيها الجهل بالتعصب بالحماقة، ثم بالوحشية. لم يكن العلماء يعرفون أنهم يجهلون، وظنوا أنهم إنما يعملون لخير البشر والبشرية([lxvi]).

تعزز ما بعد الإنسانية السعي إلى مزيد من التطور حتى نتمكن من استكشاف عوالم القيمة التي لا يمكن الوصول إليها حتى الآن. والتحسين التكنولوجي للكائنات البشرية وسيلة ينبغي أن نسعى إلى تحقيقها. هناك حدود لمقدار ما يمكن تحقيقه من خلال وسائل التكنولوجيا المنخفضة مثل التعليم والتأمل الفلسفي والتدقيق الذاتي الأخلاقي وغيرها من الأساليب التي اقترحها الفلاسفة الكلاسيكيون ذوو الميول الكمالية، بما في ذلك أفلاطون وأرسطو ونيتشه، أو عن طريق إنشاء مجتمع أكثر عدلاً وأفضل، كما تصوره الإصلاحيون الاجتماعيون مثل ماركس، هذا ليس لتشويه سمعة ما يمكننا فعله بالأدوات التي لدينا اليوم. لكن في النهاية، يأمل أنصار ما بعد الإنسانية في المضي قدمًا([lxvii]).

لكن الهندسة الوراثية البشرية تعد بأكثر من مجرد يوجينيا بسيطة نزيد فيها من نسل “الأفضل” ونقلل من نسل “الأسوأ” – ولو حتى بقتله ! إنها تنفذ إلى داخل المادة الوراثية للفرد، تغير فيها وتبدل لتكون نتائجها فورية. إنها  قضية يوجينيا جديدة سُلحت بعلم حديث متقدم.

لكن أي صفات تلك التي سنحاول تغييرها  لنصل إلى هذا الإنسان الجديد الذی يخشی فوکویاما أن يقضي علينا؟([lxviii]).

الذكاء الذي يمكن من التعامل مع البيئة الجديدة التي صنعها ويصنعها التقدم العلمي المعلوماتي والبيوتكنولوجي . والذكاء صفة غاية في التعقيد، يصعب . حتى تعريفها، وترتبط بالمخ ذلك الجهاز المعقد الذي تعمل به نصف جينات الإنسان على الأقل. وهي بالضرورة صفة متعددة الجينات، تؤثر فيها آلاف الجينات. يعالج علماء الوراثة قضية وراثة صفة كهذه بمقياس إحصائی یسمي “العمق الوراثی” ، وهذا على ما يبدو مفهوم مراوغ لدى غير المتخصصين : هو ببساطة النسبة من التباين المظهري للصفة الكمية، التي ترجع إلى التباين في القيم الوراثية بين أفراد العشيرة. هو مقياس يختص بعشيرة بذاتها في بيئة معينة في زمن محدد. ولقد أساء كثير من غير الوراثيين تفهم هذا المقياس، وربما کان موراني، وهيرنشتاين هما أسوأ من تفهموه في كتابهما الشهير “منحنی الجرس”، فأخذا متوسط تقديرات مختلفة للعمق الوراثي للذكاء، قيست بطرق مختلفة بعشائر مختلفة في أزمان مختلفة، وقالا إنه 60%، ليؤكدا فكرتهما المسبقة بأن الفروق في “الذكاء بين البيض والسود فروق وراثية”، ومن ثم فهی “ثابتة”. أقاما كتابهما الضخم على هذه الفكرة الخاطئة، ونسيا أن ارتفاع قيمة العمق الوراثي إلى هذا الحد إنما تعني أن الصفة لابد أن تكون هامشية، فكلما ازدادت أهمية الصفة لبقاء الكائن الحي، انخفض إسهام العوامل الوراثية في التباين بين الأفراد ( هي في صفات الخصب مثلا نحو 1-2%). فإذا ما كان الذكاء صفة مهمة لبقاء الفرد كما يدعيان لتعزيز نظرتهما العنصرية، فكيف تكون له هذه القيمة المرتفعة (60%)؟([lxix])

الواضح أن فوکویاما لم يستوعب هو الآخر هذا المفهوم، فبعد أن افترض أن العمق الوراثي لمعامل الذكاء هو 50% ( وهو للغرابة يعتبره منخفضا !!) نجده يقول : “الغذاء الأفضل والتعليم الأفضل والبيئة المأمونة والموارد الاقتصادية ، كلها يمكن أن تسهم في رفع الخمسين بالمائة من معامل ذكاء الطفل الراجعة إلى البيئة”. هذه الجملة لا تعني إلا شيئا واحدا، وهو أنه لا يعرف معنى ما يقوله !

كيف للعلماء إذن أن يعثروا على كل هذا العدد الهائل من الجينات الذي يؤثر في معامل الذكاء، ويحددون هويتها ومواقعها ، ثم يجرون الجراحة الوراثية لنقله إلى جينوم هذا الإنسان «السوبر»؟ إن هذا ضرب من ضروب الخيال لن يتحقق يوما . أبدا لن يستطيع العلم أن يحور مادة الإنسان الوراثية بحيث يحوله إلى هذا الذكي الفائق الذي يخشي فوکوياما أن تكون على يديه “نهاية الإنسان”! ([lxx]).

تتوقع التطورات الفائقة في مجال العلوم الجينية وتقنيات الإنجاب إيجاد “أطفال مصممين خصيصًا” بإدخال جينات معدلة وراثيا في الجنين الإنساني. ويتدخل في هذه العملية علمان آخران: علم اليوجينا وهو – كما سبقت الإشارة – علم يعني بتحسين النسل وتحسين البناء البيولوجي للإنسان باختيار أفضل الصفات وتصحيح الجينات التي تحمل عيوباً وراثية؛ وهو العلم الذي يدرس التغيرات الناجمة عن إدخال التعديلات الجينية على مستوى الوظائف الحيوية. ويدرج ضمن علم اليوجينا “علم آخر هو علم التخلق السلوكي (Behavioral Epigenetics) والذي يدرس تأثير علم التخلق على العمليات السيكولوجية مثل الانفعالات الشعورية، الذاكرة، والتعلم، الصحة العقلية والسلوك، لأن الأمر لا يتعلق بطول الحياة فقط، بل بجودتها كذلك”([lxxi]).

لاشك في أن إجراء عمليات التعديل الوراثي يفتح المجال لإمكان اختيار صفات الجنين المرغوب فيها قبل تشكله. وهو ما يعرف بهندسة الأطفال وفق معايير ذكائية أو جمالية أو طباعية محددة. ويمكن في هذا الإطار الإشارة إلى إمكان استخدام تقنية الإخصاب المختبري التي تمكن المتزوجين من صنع أجنة مخصبة عدة داخل أنابيب الاختبار لاختيار الجنين الخالي من المرض الوراثي. وعلى هذا الأساس، سوف تصبح “فكرة تصميم أطفال” حسب المواصفات حقيقة واقعة. وبحسب ما قال عالم الأحياء في جامعة هارفارد إي أوه ويلسون، فإن “الإنسان أول نوع يتمتع بحريته بحق، صار على وشك التخلي عن عملية الانتخاب الطبيعي وهي القوة التي صنعتنا، فسرعان ما سيكون علينا أن ننتظر بعمق في أنفسنا، وأن نقرر ما نتمنى أن نصير عليه”([lxxii]). والمعنى من هذا أن الاكتشافات الطبية ستحقق نجاحات باهرة في عملية زراعة الجينات، من قبيل “الجين المتحكم في الذكاء”، أو “الجين المتحكم في قوة العضلات”. وسيتمكن العلماء “من عزل وتغيير عديد من الجينات المنفردة التي تتحكم في “سمات إنسانية متنوعة([lxxiii]). واللافت أيضا، أن البحوث العلمية في مجال دراسة علوم الحياة، أثبتت أن “الجينات” تؤدي دورا كبيرا في تحديد الصفات النفسية والسلوكية للإنسان. فهي مفتاح الطبيعة البشرية والحاملة برامج العمل الحقيقية لحياة الإنسان وسلوكاته النفسية والفيزيولوجية. وعلى هذا المنوال، كتب عالم البيولوجيا الجزيئية روبرت واینبرج (Robert Allan Weinberg): “في غضون العقد القادم” – وقت كتابة هذه السطور –  قد نبدأ في العثور على جينات تحدد بشكل مدهش المعرفة والشعور وغير هذين من نواحي الأداء الإنساني والمظهر. وإنكار هذا لن يكون إلا من قبيل دفن الرؤوس في الرمال([lxxiv]).

يرجع تاريخ الهندسة الجينية إلى مطلع السبعينات، وذلك عندما اكتشف كل من بول برج Paul Berg، وهربرت بویر Herbert Boyer، وستانلى کوهین Stanley Cohen تقانة الدنا المأشوب. إذ يمكن نقل جين من كائن حي بعيد جدا تصنيفيا (من الإشريكية القولونية مثلا) إلى كائن حي آخر (الفأر على سبيل المثال)، وتجاوز كل الحواجز الطبيعية، ليس بين الأنواع Species، والأجناس genus، والفصائل families، والرتب orders ، والصفوف class فحسب، بل حتى بين الشعب phyla . كما أمكن تكثير الجين المأشوب (أو تنسيله cloning) عدداً كبيراً من المرات بغرزه في البكتيريا، أو في أي جملة حية أخرى. وتتضمن الهندسة الجينية أساساً (وتبسيطا للواقع) قطع تسلسل (أو شدفة) من الدنا بأحد الإنزيمات، وغرزه (بسبب بنية حلزون DNA، وتتامية قواعده) في جزيء آخر من الدنا، أزيل منه تسلسل مقابل بالإنزيم نفسه. وإذا كان التسلسل المأشوب (المفروز) أقصر من التسلسل الذي أزيل، تتمم النكليوتيدات الناقصة بوساطة إنزيم يضيف نكليوتيد الثيمين مثلا. ثم يقوم إنزيم الليفاز بربط النكليوتيدين الطرفيين المتجاورين برابطة تكافؤية([lxxv]).

ما إن تم اكتشاف تقنية الدنا المأشوب ( الهندسة الجينية)، واتضح أنها قادرة على تسهيل سلسلة شدف معينة (جينات بعينها) من الدنا، وأن بإمكانها تيسير الحصول على مواد دوائية نادرة. وباهظة الثمن (كالانترفرون، والأنسولين البشري، وهرمون النمو، والعامل المضاد للتريسين ألفا، والعامل IX المضاد لتخثر الدم)، وبكميات كبيرة جدا (تفوق حدود التصور، إذ تزيد ملايين المرات على تراكيزها الطبيعية)، ما إن اتضح ذلك حتى تشكلت، وبسرعة كبيرة، عشرات، لا بل مئات، الشركات الصيدلانية، التي لم تكن غايتها الأولى تخفيف آلام المرضي، وإدخال السعادة إلى نفوسهم. لقد كان همها الأول، وقبل أي شيء آخر، الربح السريع. فالبيولوجيون الجزيئيون الذين كانوا يعرفون بدخولهم المحدودة، أصبحوا يملكون في أسواق الأوراق المالية ملايين، بل مليارات الدولارات. وكان ذلك أحيانا على حساب إنسانية الإنسان، وسلامة بيئته. وصحيح أن تقنيات الهندسة الجينية كانت وراء تسريع العمل في مشروع الجينوم البشري، أي وضع الخرائط الأربع الوراثية، والفيزيائية والكيميائية الحيوية، والفيزيويولوجية، وصحيح أيضا أنها سهلت (بمساعدة تقنية التفاعل السلسلي للبوليميرازPCR) polymerase chain reaction)، الذي يمكن بوساطته تضخيم جين من الجينات مليارات مليارات المرات في أثناء ساعات قليلة(، وصحيح كذلك أنها يسرت سلسلة جينوم عدد من الكائنات الحية (كالخميرة Sacchromyces cervecia، والمستدمية النزلية Haemophilus influnzae) ()، المسببة لالتهاب السحايا والصمم، والبكتيريا المسؤولة في معظم الأحيان عن القرحة Helicobacter، وريكتسية برووازيكيRickettsia Prowazekii  المسببة للتيفوس، المرض الرهيب الذي كان قديماً السبب في سقوط مدن بكاملها، وفي هزيمة أكثر من جيش «وفي أذن الجوزاء منه زمازم»، وصحيح كذلك أن تقنية الدنا المأشوب ساعدت مؤخرا على إنجاز مشروع سلسلة جينوم ذبابة الفواكه Drosophila melangaster، ولكن صحيح أيضا أن إنجاز هذه المشاريع الضخمة، والتي كلفت مليارات الدولارات، لم يكن بمنأى عن رائحة الربح الكبير والسريع. وبديهي أن تتفرع عن تقنية الدنا المأشوب ( الهندسة الجينية) تقنيات جديدة، كاللقاحات الجينية genetic vaccines ، والمعالجة الجينية  gene therapy . إن أخطر ما يمكن أن تتمخض عنه تقنية الهندسة الجينية، هو تكوين كائنات محورة جينيا genetically modified organisms أو ما يطلق عليها transgenic organisms([lxxvi]).

نشأت فكرة المعالجة الجينية gene therapy، كنتيجة طبيعية للنجاح الذي شهدته تجارب الهندسة الجينية، أو تقانة DNA المأشوب recombinant DNA technology في أواسط سبعينيات القرن الماضي. وابتكر تعبير “الهندسة الجينية” genetic engneering، (وليس الهندسة الوراثية، تعبير شائع خاطئ)، و«مهندس جينيا» genetically engneered، من هندسة تسلسل الجينات وفق الحاجة، كما يضع المهندس مخطط بناء ما. لقد أثار هذا النجاح المدهش حماس الباحثين من أطباء وبيولوجيين جزئيين، وقدح مخيلتهم، وتفكروا أنه إذا كان بالإمكان نقل جين من إشريكية قولونية إلى أخرى، فلماذا لا نصلح جينا معيبا، يسبب مرضاً وراثياً، استعصى بطبيعته على كل علاج تقريباً؟ ولماذا لا نحور جينيا كائنات حيوانية أو نباتية لمنافع دوائية، أو غذائية، أو غير ذلك([lxxvii]).

تجاوزت الاختراعات الطبية حدود العلاج الجيني إلى إمكانات استخدام تكنولوجيا النسل” التي تعمل على تحسين السلالة البشرية (أو “اليوجينا”)، من خلال انتقاء صفات مرغوب فيها (اليوجينا الإيجابي) مثل الذكاء والجمال والطول واللون. ويكون ذلك عبر استخدام الجينات الجيدة السليمة ومنع تناسل أولئك الذين يملكون الصفات غير المرغوب فيها (اليوجينا السلبي). ويشجع هذا الاختيار الطبي علی توسيع دائرة الإنجاب الاصطناعي الواعي والحصول على سلالات مواصفات وراثية بحسب الطلب، أو ما  يعرف بــ “أطفال الكاتالوجات” (Designer Babies). ويعمل الباحثون في هذا المجال على “تغيير صفات الكائن البشري تجريبياً، من خلال تغييرات فيسيولوجية ووراثية، وباستعاضة بعض أجزائه بالآلات، مما يعني نهاية الإنسان كإنسان، وخلق فصيلة جديدة من قبله هو بالذات”([lxxviii]).

لابد في هذا السياق من التأكيد على أن تطبيق هذه التقنيات المتحكمة في صناعة سلالة وفق مواصفات معينة، ضاعف مخاوف العلماء والباحثين من بزوغ مفاهيم تتعلق “بالعنصرية العلمية” التي تشجع على نشر أفكار عنصرية، وتهيئ لاندلاع حروب عرقية تنتهي بارتكاب جرائم إنسانية بشعة، وتتسبب في الإبادة الجماعية ونزع الحقوق الاجتماعية والسياسية، والاعتداء على الحريات الشخصية. وتعود مخاوف الرأي العام إلى تطويع التكنولوجيا المتطورة للسيطرة على العالم، وتحقيق أهداف غير إنسانية بتكوين جرثومة وبائية تقضي على البشرية كلها، أو بخلق سلالة جديدة من البشر، لأن تجارب البيولوجيا عموما، والهندسة الوراثية على وجه الخصوص، “قد تصل إلى هندسة الإنسان نفسه، بمعنى أن تسيطر عليه وعلى سلوكه وتحوله إلى أداة يمكن التحكم بها واستخدامها، مما يعني أنه لم يعد آمنا على نفسه أو على أبنائه، أو حتى على كبار السن في المؤسسات والمستشفيات، لأن الكل عرضة للتجارب”([lxxix]).

لم تحظ معظم تقنيات التحسين البشري المحتملة حتى الآن باهتمام كبير في الكتابات الأخلاقية. أحد الاستثناءات هو الهندسة الوراثية، التي نوقشت أخلاقياتها على نطاق واسع في السنوات الأخيرة. لتوضيح كيف يمكن تطبيق نهج ما بعد الإنسانية على تكنولوجيات معينة، سننتقل الآن إلى النظر في حالة التحسينات الجينية للخط المشيجى البشري([lxxx]).

بعض أنواع الاعتراض ضد تعديلات الخط المشيجى لا تمنح وزنا كبيرا من قبل محاور ما بعد الإنسانية. على سبيل المثال، الاعتراضات التي تستند إلى فكرة أن هناك شيئًا خاطئًا بطبيعته أو مشبوهًا أخلاقيًا في استخدام العلم للتلاعب بالطبيعة البشرية يعتبرها مؤيدو ما بعد الإنسانية خاطئة. علاوة على ذلك، يؤكد علماء ما بعد الإنسانية أن المخاوف الخاصة بشأن الجوانب السلبية للتحسينات الجينية، حتى عندما تكون هذه المخاوف مشروعة، يجب الحكم عليها مقابل الفوائد الهائلة المحتملة التي يمكن أن تأتي من التكنولوجيا الجينية التي تم توظيفها بنجاح. إن القدرة على اختيار جينات أطفالنا وإنشاء ما يسمى بالأطفال المصممين ستؤدي ، كما يُزعَم ، إلى الآباء الفاسدين ، الذين سيأتون لرؤية أطفالهم على أنهم مجرد منتجات. وسنبدأ بعد ذلك في تقييم ذريتنا وفقًا لمعايير مراقبة الجودة، وهذا سيقوض المثل الأعلى الأخلاقي المتمثل في القبول غير المشروط للأطفال، بغض النظر عن قدراتهم وسماتهم. هل نحن مستعدون حقًا للتضحية على مذبح النزعة الاستهلاكية حتى تلك القيم العميقة التي تتجسد في العلاقات التقليدية بين الطفل والآباء؟ هل السعي وراء الكمال يستحق هذه التكلفة الثقافية والأخلاقية؟ يجب ألا يتجاهل مؤيد ما بعد الإنسانية مثل هذه المخاوف بوصفها غير ذات صلة. يدرك دعاة ما بعد الإنسانية أن النتيجة المتوقعة ستكون سيئة. لا نريد أن يحب الآباء أطفالهم ويحترمونهم أقل. لا نريد أن يزداد التحيز الاجتماعي ضد الأشخاص ذوي الإعاقة سوءًا. من المحتمل أن تكون الآثار النفسية والثقافية لتسليع الطبيعة البشرية مهمة([lxxxi]).

قد نتكهن بأن تحسينات الخط المشيجىستؤدي إلى مزيد من الحب والتفاني الأبوي. قد تجد بعض الأمهات والآباء أنه من الأسهل أن تحب طفلًا، بفضل التحسينات، مشرق وجميل وصحي وسعيد. قد تؤدي ممارسة تعزيز الخطوط المشيجية إلى علاج أفضل للأشخاص ذوي الإعاقة، لأن إزالة الغموض العام للإسهامات الجينية في السمات البشرية يمكن أن يجعل من الواضح أن الأشخاص ذوي الإعاقة ليسوا مسؤولين عن إعاقاتهم وأن انخفاض حدوث بعض الإعاقات يمكن أن يؤدي إلى توفير المزيد من المساعدة لبقية الأشخاص المتضررين لتمكينهم من العيش حياة كاملة وغير مقيدة خلال مختلف أشكال الدعم التكنولوجي والاجتماعي. وبالتالي، فإن التكهن بالآثار النفسية أو الثقافية المحتملة لهندسة الخطوط المشيجية يمكن أن يقطع كلا الاتجاهين. العواقب الإيجابية لا تقل إمكانية عن العواقب السلبية. ونظرا لعدم وجود حجج سليمة للرأي القائل بأن النتائج السلبية ستكون لها الغلبة، فإن هذه التكهنات لا تقدم أي سبب ضد المضي قدما في التكنولوجيا([lxxxii]).

قد تؤدي عمليات الاجترار Ruminations حول الآثار الجانبية الافتراضية إلى جعلنا على دراية بالأشياء التي يمكن أن تحدث بشكل خاطئ حتى نتمكن من البحث عن التطورات غير المرغوب فيها. وبإدراكنا للمخاطر مسبقا، سنكون في وضع أفضل لاتخاذ تدابير وقائية مضادة. على سبيل المثال، إذا اعتقدنا أن بعض الناس قد يفشلون في إدراك أن الاستنساخ البشري سيكوّن شخصًا فريدًا يستحق القدر نفسه من الاحترام والكرامة مثل أي إنسان آخر، فيمكننا أن نعمل بجد لتثقيف الجمهور حول عدم كفاية الحتمية الجينية. يمكن أن تضيف الإسهامات النظرية للمنتقدين المطلعين والعقلانيين لتعزيز الخطوط المشيجية بشكل غير مباشر إلى تبريرنا للمضي قدمًا في هندسة الخطوط المشيجية. بقدر ما يقوم النقاد بعملهم، يمكنهم تنبيهنا إلى عديد من العواقب غير المرغوب فيها لهندسة الخطوط المشيجية والإسهام في قدرتنا على اتخاذ الاحتياطات، وبالتالي تحسين احتمالات أن يكون توازن الآثار إيجابيًا. قد تكون هناك بعض العواقب السلبية لهندسة الخطوط المشيجية البشرية التي لن نستبعدها، على الرغم من أن مجرد وجود آثار سلبية بالطبع ليس سببًا حاسمًا لعدم المضي قدمًا. كل تقنية رئيسة لها بعض العواقب السلبية. ولا يمكن التوصل إلى أي استنتاج يستند إلى تحليل للتكلفة والفوائد إلا بعد إجراء مقارنة عادلة بين المخاطر والعواقب الإيجابية المحتملة([lxxxiii]). إذن يواجه أنصار مرحلة تجاوز الإنسان عديد من المخاوف المتعلقة بالهندسة الوراثية و تحسين الجينات .وأتصور أن هذه المخاوف التي أشرنا إليها كافية  لفت نظر أصحاب هذه الدعوة، إما بالتأمل الدقيق من أجل التخلص من هذه العيوب وإما أخد الوقت الكافي حتي يمكن تطوير هذه التكنولوجية حتي تصبح مصدر للأمان البشري  وليس احد الوسائل التي تهدد بقاءه خلال العنصرية بين الافراد.

التحسين الجيني بوصفه انتخاباً اصطناعياً:

يبدو أن فكرة الصراع من أجل البقاء باتت تحمل دلالة جديدة، لأن الانتخاب أصبح لا ينتظر الطبيعة البشرية أن تتطور تلقائيا بعد أن أضحت إلى حد ما تحت سطوة العلم، وهنا يكمن الفرق بين الانتخاب الطبيعي والاصطناعي، لأن ما يطلق عليه وصف (طبيعي) كان نتيجة لتقنيات تقليدية أصبحت بمرور الوقت مألوفة، إلا أن ما هو غير مألوف الانتخاب الاصطناعي الذي يتم بتقنية التحسين الجيني الذي يعرف بأنه “تحسين مجموعة متنوعة من الجينات المرغوبة، بما في ذلك القدرة المعرفية، إذ تستخدم الهندسة الوراثية لإزالة الجينات أو إدخالها في الجنين المبكر، في بعض الحالات، قد يكون من غير الواضح ما إذا كانت النتيجة هي فرد جديد أو الفرد نفسه مع تحسين وراثي”([lxxxiv]). وهذا النوع من التحسين في الجينوم يمثل تحديا فلسفياً للقيم الإنسانية العميقة، إلا أن له فوائده التي تتمثل بالتحرر من الأمراض الوراثية، وامتلاك عقل يمكنه التعلم بسرعة أكبر أو التمتع بنظام مناعة أقوى، ومثل هذه المزايا تستحق أن تأخذ هذه الآمال على محمل الجد.

أما اذا لم يتم اللجوء إلى التحسين الجيني فإن بوستروم يضع افتراض أخر وهو الاختيار بين أمرين:

  1. السماح للبشر الحاليين بالاستمرار في الوجود.
  2. قتلهم ومن دون وخز ضمير واستبدالهم بستة مليارات إنسان جديد متشابهين جداً، ولكن غير متطابقين للأشخاص الموجودين اليوم، إلا أن مثل هذا الاستبدال يجب أن يقاوم بشدة على أسس أخلاقية، حيث سيترتب عليه الموت غير الطوعي لستة مليارات شخص، لذلك من المهم أن تصبح الفرصة بعد الإنسان متاحة لأكبر عدد ممكن من الناس، بدلا من مجرد استكمال السكان الحاليين أو استبدالهم بسلالة جديدة من ما بعد الانسان، لأن المثل الأعلى لما بعد الإنسانية يتحقق بتقاسم فوائد التقنيات على نطاق واسع([lxxxv]).

لكن الخيارين السابقين الذكر لا يميل إليهما بوستروم، بل يميل إلى خيار ثالث يتناسب مع مشروعه الفكري وهو التحسين الجيني، وعادة ما تكون بداية التحسين من البيئة التي ينشأ بها الجنين، فالبيئات المخصبة طرق بسيطة ومقبولة على أوسع نطاق يمكن القول أن بيئة الرحم لن تساعد على تجنب أمراض محددة فقط. إنما من المحتمل أن تحسن نمو الأجهزة بطرق تحسن قدراتها الأساسية([lxxxvi]).

ويعتقد أن هناك اختلافاً في عمليات التحسين الجيني، فأما يتم استخدام التشخيص الوراثي قبل عملية الزرع للاختيار بين الأجنة، التي تحدد اختياراتنا أياً من الأشخاص المحتملين سيظهر إلى الوجود، أو يتم التدخل جينياً بالجنين، إذ تؤثر تدخلاتنا على نوع الشخص الذي سيتطور إليه هذا الجنين والقدرات التي سيمتلكها.

ومن منطلق مبدأ المنفعة الانجابية ومفاده إذا عرض على الآباء الذين سيحصلون على أطفال الأنابيب التشخيص الوراثي قبل الزرع لفحص أجنتهم المتعددة لمعرفة الاستعدادات الوراثية للمرض والحالات غير المرضية ملزمون أخلاقياً باختيار الطفل الذي يمكن توقعه للحصول على أفضل حياة، على سبيل المثال، إذا كان لديهم خيار زرع واحد من اثنين من الأجنة المتماثلة وراثيا باستثناء أن أحدهما مهيا وراثيا للذكاء العالي، فإن الوالدين ملزمون أخلاقية باختيار هذا الجنين على الآخر، حيث من المرجح أن يتمتع الطفل الأكثر ذكاء بحياة أفضل من الطفل الأقل ذكاءه([lxxxvii]).

حيث أن المدافعين عن ما يسمى بـ “علم تحسين النسل الليبرالي” الذي ينص على السماح للآباء باتخاذ هذه الخيارات بأنفسهم وأن حرية الإنجاب يجب حمايتها، ويجب على الدولة دعم التحسينات للآباء الذين لا يستطيعون تحمل تكاليفها، دون التعدي على الحرية الإنجابية.

إن هذه البنود كانت على أثر برامج تحسين النسل التي كانت ترعاها الدول في القرن الماضي مرفوضة لأنها أضرت بالناس إما بقتلهم أو عن طريق تقييد حريتهم في الإنجاب، لذلك يجب أن لا يكون علم تحسين النسل قسريا أو استغلاليا: في قبرص، هناك برنامج غير قسري ترعاه الدولة للقضاء على الثلاسيميا منذ أكثر من عشرين عاما، ويحظى بدعم واسع من القبارصة، يخضع الآباء المحتملون لفحص جين المرض، لكنهم أحرار في التكاثر إذا رغبوا في ذلك والإجهاض الممول من الدولة متاح إذا أظهر اختبار ما قبل الولادة أن الجنين يميل للإصابة بالمرض([lxxxviii]).

في حالة تحسينات الخطوط المشيجية، تكون المكاسب المحتملة هائلة. ومع ذلك، نادرًا ما تتم مناقشة المكاسب المحتملة، ربما لأنها واضحة جدًا بحيث لا تكون ذات أهمية نظرية كبيرة. على النقيض من ذلك، فإن الكشف عن الطرق الدقيقة وغير التافهة التي يمكن أن يؤدي بها التلاعب بالجينوم لدينا إلى تقويض القيم العميقة هو من الناحية الفلسفية أكثر صعوبة.

لكن إذا فكرنا في الأمر، فإننا ندرك أن الوعد بالتحسينات الجينية ليس بالأمر الهين. سيكون التحرر من الأمراض الوراثية الشديدة أمرًا جيدًا، وكذلك امتلاك عقل يمكنه التعلم بسرعة أكبر، أو امتلاك جهاز مناعة أكثر قوة. قد يتمكن الأشخاص الأكثر صحة وذكاء وسعادة من الوصول إلى مستويات جديدة ثقافيًا. إن تحقيق تعزيز كبير للقدرات البشرية يعني الشروع في الرحلة العابرة للبشر لاستكشاف بعض أساليب الوجود التي لا يمكن لنا الوصول إليها كما تم تشكيلنا حاليًا، ربما لاكتشاف وإثبات قيم جديدة مهمة. على المستوى الأساسي، تمتلك الهندسة الوراثية إمكانات كبيرة لتخفيف المعاناة البشرية غير الضرورية. إن كل يوم يتأخر فيه إدخال التحسين الوراثي البشري الفاعل هو يوم ضياع الإمكانات الفردية والثقافية، ويوم عذاب لعديد من المصابين بأمراض كان من الممكن الوقاية منها. يخلص دعاة ما بعد الإنسانية إلى أن التحدي لم يتم مواجهته([lxxxix]). إلا أن التحسين الجيني سيقضي تماما علي مفهوم الانتخاب الطبيعي ويصبح  من الممكن اختيار كل الصفات الجيدة والرفض للصفات السلبية وهذا يمثل خللا في التكوين الداخلي للوجود الإنساني لأن بعض الصفات الايجابية تنمو خلال وجود الفكرة المضادة لها كيف يكون الحال في عدم  وجود ذلك المضاد ؟ وهل سيدرك البشر غياب هذه الصفات حتي لو كانت أمراضا ؟ إما أن معرفة الإنسان في تلك الفترة ستكون قائمة علي عدم أدراك الماضي بكل ما كان فيه.

هل ينبغي تنظيم التكاثر البشري؟

تتمثل إحدى طرق المضي قدمًا في الهندسة الوراثية في السماح بكل شيء، وترك جميع الخيارات للآباء. في حين أن هذا الموقف قد يكون متسقًا مع ما بعد الإنسانية، إلا أنه ليس أفضل نهج لها. الشيء الوحيد الذي يمكن قوله عن تبني موقف تحرري فيما يتعلق بالتكاثر البشري هو السجل الحافل للمحاولات المخطط لها اجتماعيًا لتحسين تجمع الجينات البشرية. تتراوح قائمة الأمثلة التاريخية لتدخل الدولة في هذا المجال من أهوال الإبادة الجماعية للنظام النازي، إلى برامج التعقيم شبه القسرية الأكثر اعتدالًا ولكن لا تزال مشينة للأفراد المعاقين عقليًا التي يفضلها العديد من الاشتراكيين ذوي النوايا الحسنة في القرن الماضي، إلى البرنامج المثير للجدل ولكن ربما المفهوم للحكومة الصينية الحالية للحد من النمو السكاني. في كل حالة، تتدخل سياسات الدولة في الخيارات الإنجابية للأفراد. إذا تُرك الآباء لاتخاذ الخيارات بأنفسهم، فلن تحدث أسوأ التجاوزات لحركة تحسين النسل. مع وضع ذلك في الاعتبار، يجب أن نفكر مرتين قبل تقديم دعمنا لأي اقتراح من شأنه أن يجعل الدولة تنظم نوع الأطفال المسموح لهم بإنجابهم والطرق التي يمكن استخدامها لإنجابهم([xc]).

لقد بدأت مخاطر اليوجينيا السلبية أو علم تحسين النسل السلبى تتضح مع أواخر عشرينيات القرن العشرين، وعلى وجه الخصوص “حينما تم تمرير قوانين التعقيم اليوجيني، فقد نسب عديد من القوانين اليوجينية، وأعلن عن دستوريتها في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1927م في حكم المحكمة العليا في قضية “باك ضد بيل” عندما أعلن القاضی “اوليفر وينديب هولمز” أن من رأيه “أن ثلاثة أجبال من البلهاء تكفي”([xci]).

نحن نسمح حاليًا للحكومات بأن يكون لها دور في الإنجاب وتربية الأطفال، وقد نتسبب بالتبعية في أنه سيكون هناك أيضًا دور في تنظيم تطبيق تكنولوجيا الإنجاب الجينية. وتضطلع الوكالات الحكومية والهيئات التنظيمية بدور داعم وإشرافي في محاولة لتعزيز مصالح الطفل. وتتدخل المحاكم في قضايا إساءة معاملة الأطفال أو إهمالهم. وتوجد بعض السياسات الاجتماعية لدعم الأطفال المنحدرين من خلفيات محرومة ولتخفيف بعض أسوأ أوجه عدم المساواة التي يعاني منها الأطفال الذين يعيشون في منازل فقيرة، مثل توفير التعليم المجاني. ولهذه التدابير نظائر تنطبق على تكنولوجيات التحسين الوراثي. على سبيل المثال، يجب أن نحظر التعديلات الجينية التي تهدف إلى إلحاق الضرر بالطفل أو الحد من فرصه في الحياة، أو التي يُعتقد أنها محفوفة بالمخاطر للغاية. إذا كانت هناك تحسينات أساسية ستكون مفيدة للطفل ولكن بعض الآباء لا يستطيعون تحملها، فعلينا أن نفكر في دعم تلك التحسينات، تمامًا كما نفعل مع التعليم الأساسي. هناك أسباب للاعتقاد بأن النهج التحرري أقل ملاءمة في مجال التكاثر مما هو عليه في أماكن أخرى. وفي مجال الإنجاب، فإن أهم المصالح المطروحة هي مصالح الطفل، الذي لا يستطيع إعطاء موافقته المسبقة أو الدخول بحرية في أي شكل من أشكال العقود. كما هو الحال، فإننا نوافق حاليًا على عديد من الإجراءات التي تحد من حريات الوالدين. لدينا قوانين ضد إساءة معاملة الأطفال وإهمال الأطفال. لدينا تعليم إلزامي. في بعض الحالات، يمكننا فرض العلاج الطبي المطلوب على الطفل، حتى ضد رغبات والديه([xcii]).

يستمر الاهتمام الاجتماعي المعاصر الذي انبثق عن تكنولوجيا التناسل كموضوع أو كمحور رئيس في تاريخ الإنسان ، ففيما يتعلق بأمور العلاقات الجنسية والتناسل لم يسبق للجنس البشري أن رضي بترك الطبيعة في مسارها دون تدخل منه ، أما عن كل الأعمال المتعلقة بالخصوبة ، والتي تسهم في استمرارية المجتمع وعضويته طوال عصور التاريخ المسجل، فكانت تعد عند القبيلة والقرية والدولة والكنيسة أمورة غاية في الأهمية والقوة ، تمتاز بأنها شديدة القابلية للاستقلالية والخروج على العرف لدرجة لا يمكن معها تركها تحيا دون تحكم أو حدود، وفي بعض الأحيان، كما هو الحال في القرن العشرين ، كانت الحدود التي تقام حولها بصفة رسمية مفروضة من جانب الحكومات المحلية والوطنية ، أما الحدود الثقافية فقد كانت بنائية كما في مراسم وشعائر المجتمعات التقليدية التي تتناقلها الأجيال ، وربما كانت نوعية ومقننة مثل التعليمات التي يعلنها بعض المتحدثين المعنيين باسم الأديان أو نيابة عن الكنيسة كما فرضت حدود أيضا من جانب الذكور أو الرجال الذين كانت مكانتهم الشخصية أو أوضاعهم الاقتصادية مرتبطة بملكيتهم لنساء ولودات وإنجاب عدد كبير من الأبناء، وكانت هناك بعض محاولات للتنظيم عن طريق الحد من الجماع (أو الممارسة الجنسية التي تهدف إلى إنجاب الأطفال ، ومنع استخدام وسائل منع الحمل ، أو إنهاء الحمل بإجراء عمليات الإجهاض ، وفي ظل هذه الظروف كان على المرأة أن تدافع عن نفسها ضد أخطار وأعباء الحمل المتكرر بكثرة من جهة، وضد عدم الخصوبة وما يترتب عليها من هجر الزوج لها من جهة أخرى ، وفي المناطق غير الصناعية ، دافعت المرأة عن نفسها باللجوء إلى وسائل تنظيم النسل باستخدام المواد المحلية أو الأساليب التقليدية ، التي كانت مجهضة ومانعة للحمل مما لم يكن لها في بعض الأحيان نتائج مؤكدة ، كما كن يلجأن إلى استشارة المعالجين الشعبيين أو الشامانيين ، وكذلك بقتل المواليد وهجر الأطفال ، ولكي تحمي المرأة حياتها وصحتها كان لابد لها في بعض الأحيان من أن تخفي وتكتم استعمالها لوسائل تنظيم النسل عن أقرانها وعن الرجال ذوي النفوذ في الأسرة([xciii]).

هل تدخلات الخط المشيجى خاطئة لأنها لا رجعة فيها؟

هناك اعتراض آخر كثيرًا ما يُسمع ضد الهندسة الوراثية للخط المشيجى وهو أنها ستكون خطرة بشكل فريد لأن التغييرات التي ستحدثها لا رجعة فيها وستؤثر على جميع الأجيال القادمة. سيكون من غير المسؤول والمتعجرف للغاية منا أن نفترض أن لدينا الحكمة لاتخاذ قرارات بشأن ما يجب أن يكوّن الدساتير الجينية للأشخاص الذين يعيشون أجيالًا عديدة. إن قابلية الإنسان للخطأ، بناءً على هذا الاعتراض ، يعطينا سببًا وجيهًا لعدم الشروع في تدخلات الخط المشيجى. ولأغراضنا الحالية، يمكننا أن ننحي جانبا مسألة سلامة الإجراء، المفهومة بشكل ضيق، وأن نركز على أن خطر الآثار الجانبية الطبية قد انخفض إلى مستوى مقبول. ويتعلق الاعتراض قيد النظر بعدم إمكانية الرجوع عن تدخلات الخطوط المشيجية وعدم إمكانية التنبؤ بنتائجها طويلة الأجل ؛ ويجبرنا على التساؤل عما إذا كانت لدينا الحكمة اللازمة لاتخاذ خيارات وراثية نيابة عن الأجيال القادمة([xciv]).

إن قابلية الإنسان للخطأ ليست أرضية قاطعة لمقاومة التحسينات الجينية للخط المشيجى. والادعاء بأن مثل هذه التدخلات لا رجعة فيها غير صحيح. يمكن عكس تدخلات الخط المشيجى خلال تدخلات خط مشيجى آخر. بالإضافة إلى ذلك، بالنظر إلى أنه من غير المرجح أن يتوقف التقدم التكنولوجي في علم الوراثة بشكل مفاجئ في أي وقت قريب، يمكننا الاعتماد على قدرة الأجيال القادمة على عكس تدخلاتنا الحالية في الخط المشيجى بسهولة أكبر مما يمكننا تنفيذه حاليًا. مع التكنولوجيا الجينية المتقدمة، قد يكون من الممكن حتى عكس عديد من تعديلات الخطوط المشيجية مع العلاج الجيني الجسدي، أو مع التكنولوجيا النانوية الطبية([xcv]).

من القضايا المهمة التي يشدد عليها بوستروم هي اختيار السمات لأطفالنا، فهناك بعض السمات التي نقدرها اليوم ربما لن تكون ذات قيمة في السياق الثقافي للمستقبل، ويستشهد بوستروم بقول ل الفيلسوف الاسترالي (جون ماكي)، إذ يقول الأخير “إذا كانت الهندسة الوراثية متاحة في العصر الفيكتوري ، لكان الناس قد صمموا أطفالهم ليكونوا وطنيين وأتقياء، ربما كانت الروح الوطنية والتقوى من السمات التي تم تقديرها في العصر الفيكتوري، لكنها أقل قيمة في مجتمعات مثل المملكة المتحدة، وبما أن القيم متقلبة، سيكون من غير العدل فرض قيم الآباء وتفضيلاتهم على الأبناء، لهذا السبب، عند التدخل في التركيب الجيني للطفل، من الواجب أن يتم تقديم المصالح الفضلي للطفل، ومن المرجح أن تخدم خصائص مثل الذكاء والسعادة والصحة هذه الغاية أكثر من خصائص مثل التقوى والقدرة التنافسية والبراعة الرياضية([xcvi]).

لم يكن من اليسير قبول تخليق كائن جديد (ما بعد انسان)،” ذلك أن الأنواع المختلفة من التحسينات طرحت تحديات اجتماعية مختلفة لبعض الأشكال المستقبلية للهندسة الوراثية التي يمكن أن تؤدي إلى إنشاء نوع جديد من الجنس البشري”.

فبغض النظر عن مسألة الضرر الذي يلحق بالجنين أو الطفل الناتج، يعتقد أن هناك شيئاً شريراً في الرغبة في تكوين أشخاص يتمتعون بجودة وراثية معينة، ذلك أن الرغبة في إعادة تشكيل الطبيعة البشرية، لخدمة أغراضنا وإشباع رغباتنا تدمر التقدير للطبيعة الموهوبة للقوى والإنجازات البشرية، فضلاً عن أن الرغبة في إنجاب طفل بجودة وراثية معينة لا تتوافق مع نوع الحب الفطري الذي يكنه الآباء لأطفالهم، هذا لأن تقدير الأطفال كهدايا يعني قبولهم عند قدومهم، ليسوا كأشياء من تصميمنا أو منتجات لإرادتنا أو كأدوات لطموحنا([xcvii]).

لذلك أكد منتقدو التحسينات الجينية أن إنشاء “أطفال مصممون” سوف يفسد الآباء، الذين سيعتبرون أطفالهم مجرد منتجات، يخضعون للتقييم على وفق معايير مراقبة الجودة بدلاً من القبول المحبوب غير المشروط، هل المجتمع مستعد للتضحية على مذبح النزعة الاستهلاكية حتى تلك القيم العميقة التي تتجسد في العلاقات التقليدية بين الطفل والوالدين؟ هل البحث عن الكمال يستحق هذه التكلفة الثقافية والأخلاقية؟([xcviii])

لهابرماس قلق خاص بشأن استقلالية الطفل، الذي لا يمكنه إعطاء موافقته المسبقة أو الدخول بحرية في أي شكل من أشكال العقد، حيث لا يوجد مجال تواصلي للطفل الذي يتم اختياره جينيا أن يتم التعامل معه كشخص ثان ولإشراكه في عملية تواصلية، لذلك يتحفظ حول الحرية النسالية عند الأهل، فهذه يجب ألا تدخل في صراع مع الحرية الأخلاقية عند الأولاد، … فالمعالجة التي تصيب السمات الوراثية تنهي التمييز بين الطبيعي والاصطناعي، إلا أن بوستروم يعتقد أن هذا الاعتراض في غير محله، تؤثر العوامل الوراثية – إلى جانب العديد من التأثيرات الأخرى – على ما يمكننا تحقيقه في الحياة بغض النظر ما إذا كانت جيناتنا قد تم اختيارها خصيصا لنا. لذلك، فإن الطفل الذي تم اختيار جيناته، لا يقل حرية أو استقلالية عن الطفل المولود بأية بنية جينية، بل الطفل الذي ولد نتيجة للتدخل الجيني بتحسينات في القدرات مثل الذكاء والصحة العامة من المرجح أن يتمتع باستقلالية أكثر بدلا من أقل، لأنه سيكون أفضل استعدادا لتحقيق الخطط والطموحات لحياته([xcix]).

من الممكن أن تختار الأجيال القادمة الاحتفاظ بالتعديلات التي نقوم بها. إذا تبين أن هذا هو الحال، فإن التعديلات ، رغم أنها ليست لا رجعة فيها ، لن يتم عكسها فعليا. قد يكون هذا شيئًا جيدًا. إن احتمال حدوث عواقب دائمة ليس اعتراضًا على تدخلات الخط المشيجى أكثر من كونها ضد الإصلاحات الاجتماعية. وإلغاء الرق وإدخال حق الاقتراع العام قد لا يتم عكسهما أبدا ؛ في الواقع ، نأمل ألا يكونا كذلك. ومع ذلك، هذا ليس سببًا لمقاومة الناس للإصلاحات. وبالمثل، فإن احتمال حدوث عواقب أبدية، بما في ذلك تلك التي لا يمكننا التنبؤ بها حاليًا بشكل موثوق، لا يشكل في حد ذاته سببًا لمعارضة التدخل الجيني. إذا تم نقل المناعة ضد الأمراض المروعة والتحسينات التي توسع فرص النمو البشري إلى الأجيال اللاحقة على الدوام، فسيكون ذلك سببًا للاحتفال وليس للندم([c]).

هناك بعض أنواع التغييرات التي نحتاج إلى توخي الحذر بشأنها بشكل خاص. وهي تشمل تعديلات على محركات ودوافع أحفادنا. على سبيل المثال، هناك أسباب واضحة تجعلنا نعتقد أنه من المفيد السعي للحد من ميل أطفالنا إلى العنف والعدوان. ومع ذلك، سيتعين علينا أن نحرص على ألا نفعل ذلك بطريقة تجعل الناس في المستقبل مستسلمين أو راضين بشكل مفرط. يمكننا تصور سيناريو بائس على غرار رواية عالم جديد شجاع Brave New World، حيث يعيش الناس حياة ضحلة ولكن تم التلاعب بهم ليكونوا راضين تمامًا عن وجودهم دون المستوى الأمثل. إذا نقل الناس قيمهم الضحلة إلى أطفالهم، فقد تعلق البشرية بشكل دائم في حالة غير جيدة جدًا، بعد أن غيرت نفسها بحماقة لتفتقر إلى أي رغبة في السعي لتحقيق شيء أفضل. ستكون هذه النتيجة بائسة لأن وضع حد أقصى دائم للتحسين البشري من شأنه أن يدمر أمل ما بعد الإنسانية في استكشاف عالم ما بعد الإنسان. لذلك، يركز دعاة ما بعد الإنسانية على التعديلات التي، بالإضافة إلى تعزيز رفاهية الإنسان، تفتح أيضًا إمكانيات أكثر مما تغلق وتزيد من قدرتنا على اتخاذ الخيارات اللاحقة بحكمة. تعد فترات العمر النشطة الأطول والذاكرة الأفضل والقدرات الفكرية الأكبر مرشحين معقولين للتحسينات التي من شأنها تحسين قدرتنا على معرفة ما يجب علينا القيام به بعد ذلك. سيكون مكانًا جيدًا للبدء([ci]).

تعقيب:

*- مرحلة ما بعد الإنسانية هي مرحلة بعد مرحلة الحداثة يحاول العلماء فيها التوصل إلي الحلول فيما يتعلق بالأمراض الوراثية التي يعاني منها الإنسان الحالي ،إلا أن هذه المحاولات يصاحبها  عديد من التغيرات التي تطرأ علي المجتمع البشري من تغيرات فكرية وروحية ووجودية .

*- علي الرغم من محاولات أنصار مرحلة ما بعد الإنسانية من أرسال رسائل اطمئنان  حول طبيعة هذه المرحلة إلا أنه مازال أمامهم عديد من التساؤلات حول مصير الإنسان الحالي وكيف يتم التعامل معها في تلك المرحلة .

*- علي الرغم من القواعد العلمية التي يسعي أنصار مرحلة ما بعد الإنسانية إلي نشرها ودعمها، إلا أنها قواعد ومعايير تخلو من الضمان والقواعد الاخلاقية ، فليس هناك ما يضمن أن هذه المرحلة رغم ما فيها من تطور تكنولوجي أنها تحافظ علي كرامة الإنسان وحريته، ولهذا من الممكن أن يتحول الإنسان من كونه حر إلي مجرد آلة يجري عليها التجارب .

*- كما أن هناك مخاطر تتعلق بمرحلة ما بعد الإنسانية تتعلق بأننا سيكون علينا مواجهة أساليب حياة جديد وفقا لقواعد علمية جديدة لا نعلم عنها شئ والخطأ فيه كفيل أن يقضي علي الحياة البشرية بالكامل .

*- الحياة البشرية بكل ما فيها من الايجابيات والسليبات حياة مقدسة لا يجوز أن تكون موضع الاختبار والتجربة ، ولكننا في المقابل لا نستطيع الهروب من المراحل القادمة أو بالتحديد مرحلة تجاوز الإنسان، ومع هذا علينا التأمل الدقيق قبل أن تتحول الحياة البشرية إلي مجرد محاولة داخل معامل .

*-  يدعي أنصار مرحلة ما بعد الإنسانية أنه من خواص هذه المرحلة هي المحافظة علي حرية الإنسان وزيادة شعوره وإدراك بذاته ،إلا أنه كيف يتحقق ذلك وهم من البداية حددوا ما يجب أن تكون أو ستكون  عليه البشرية مما يمثل القضاء الكامل علي جوهر حرية المجتمعات البشرية تحت نداءات التطور العلمي والتكنولوجي .

*- يفقد الإنسان في مرحلة ما بعد الإنسانية الاستقلالية منذ اللحظة الأولي له في هذه المرحلة  خلال التحكم في الجينات الوراثية التي تعمل علي زيادة معدل الذكاء والقضاء علي الأمراض الوراثية .

*- إن مرحلة ما بعد الإنسانية يتعلق بها المخاوف والقلق أكثر من أي مشاعر أخري ولهذا لأنها سوف تعمل علي استبدال الحياة البشرية بحياة أخري، فمن هنا يكون القلق كيف يتم هذا الاستبدال، هل هو استبدال آمن إما من خلال القضاء علي الحياة البشرية وإما سوف يظل البشر كما هم مع ظهور مجموعة بشرية جديدة أكثر ذكاء قادرة علي التحكم في الحياة علي الأرض حتي يكون البقاء لهم.

*- إن محاولات مقارنة التحكم في الجينات في مرحلة ما بعد الإنسانية بمحاولات تحسين النسل في المرحلة الراهنة هي محاولات مضللة، لأننا اليوم نعمل علي تحسين فقط، أما في مرحلة ما بعد الإنسانية فالوضع مختلف لأنها تعمل علي استبدال كائن محل كائن أخر مع البقاء علي مخاوف هل هو الشخص نفسه  أم أنه نسخة أخري منه.

*- في الحقيقة وبشكل عام يمكننا القول أننا أمام مرحلة مختلفة بتحديات مختلفة علي الحياة البشرية الآنية ، في المقابل لا نستطيع أن نقف أمام حركة التقدم العلمي السريع ولكننا نريد أن نخضع هذه المرحلة وكل ما فيها من محاولات إلي الضوابط الأخلاقية التي تحافظ علي قديسة الحياة البشرية دون حداث أي خلل.


([i])Nick Bostrom, Human Genetic Enhancements: A Trans humanist Perspective, The Journal of Value Inquiry  Kluwer Academic Publishers. Printed in the Netherlands, 2004, P. 493.

([ii])MJ McNamee and S D Edwards, Transhumanism, medical technology and slippery slopes

J Med Ethics, Sep 2006, P. 513.

([iii])Ibid, P. 513.

([iv])Ibid, P. 513.

([v])Ibid, P. 513.

([vi])Ibid, P. 514.

([vii])Ibid, P. 514.

([viii])Ibid, P. 514.

([ix])Dömmez, Basak, Agm, “Tamar Sharon, Human Nature in an Age of Biotechnology, The Case for Mediated Post humanism, ” Cankaya University Journal of Humanities and Social Sciences 11.1: 151-154, P. 187.

([x])Allen Poryer, Bioethics and Transhumanism, The Journal of Medicine and Philosophy, Published: 11 May 2017, P. 238.

([xi])Ibid, P. 238.

([xii])Ibid, P. 238.

([xiii])Ibid, P. 238.

([xiv])سوزان شنايدر: مسح المخ وتعزيز مخ الإنسان، ضمن كتاب الخيال العلمى والفلسفة، تحرير سوزان شنايدر، ترجمة عزت عامر، المركز القومى للترجمة (1859)، القاهرة، 2018، ص384، 385.

([xv])Allen, Porter, P. 239.

([xvi])Ibid, P. 239.

([xvii])جورج أناس: الإنسان على القمر، ضمن كتاب الخيال العلمى والفلسفة، تحرير سوزان شنايدر، ترجمة عزت عامر، المركز القومى للترجمة(1859)، القاهرة، 2018، ص372.

([xviii])المرجع نفسه، ص373.

([xix])المرجع نفسه، ص373.

([xx])المرجع نفسه، ص374.

([xxi])Dönmez, Başak Ağin. “Tamar Sharon, Human Nature in an Age of Biotechnology: The Case for Mediated Posthumanisin.” Cankaya Un Journal of Humanities and Social Sciences, P. 187.

([xxii])Nick Bostrom, Human Genetic, P. 493.

([xxiii])Ibid, P. 493.

([xxiv])مصطفی کيحل: تحولات مفهوم الإنسان في فلسفة الحداثة وفلسفة ما بعد الحداثة من مأزق إنسان التأليه إلى مأزق إنسان التشويه، بحث ضمن مجلة إسلامية المعرفة، السنة الرابعة والعشرون، العدد 95، 2019، ص116.

([xxv])Nick Bostrom, Human Genetic, P. 494.

([xxvi])Calum Macklin, Cyborg Mind, What Brain- Computer and Mind Cyberspace Interfactes mean for Cybersroethicy, First Pub in 2019 by Berghahn Books, P. 131. P. 160.  

([xxvii])Ibid, P. 160.

([xxviii])Ibid, P. 161.

([xxix])مايكل بروكس: ثلاثة عشر شيئاً غير مفهوم، ترجمة فتح الله السماحي، فتح الله الشيخ، المركز القومى للترجمة(2271)، القاهرة، 2014، ص166.

([xxx])فرنسيس فوكوياما: نهاية الإنسان، عواقب الثورة البيوتكنولوجيا، ترجمة أحمد مستجير، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2002، ص17.

([xxxi])Nick Bostrom, Human Genetic,  P. 494.

([xxxii])Ibid, P. 495.

([xxxiii])دانييل كيفلس، وليروي هود، الجينوم البشري – القضايا العلمية والاجتماعية، ترجمة: أحمد مستجير، عالم المعرفة(217)، الكويت، 1997، ص14.

([xxxiv])إبراهيم الشريف: مفهوم الموت وإشكالياته، رسالة الدكتوراه، كلية الآداب، جامعة المنصورة، 2012، ص185.

([xxxv])بوني ف. فرمجن: القانون الطبي والأخلاق، ترجمة: نجيب الحصادي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، المركز القومى للترجمة، القاهرة، 2012، ص473.

([xxxvi])Bostrom, Nick, Ethical Issues in Human Enhancement, Published in New Waves in Applied Ethics, eds. Jesper Ryberg, Thomas Petersen & Clark Wolf (Pelgrave Macmillan, 2008, P. 1.

([xxxvii])دانييل كيفلس، ليروى هور: ص14.

([xxxviii])موسى الخلف: العصر الجينومى، استراتيجيات المستقبل البشري، عالم المعرفة (294)، الكويت، يوليو 2003، ص179.

([xxxix])Bostrom, Nick, & Julian Savulescu, Introduction Human Enhancement Ethics: The State of the Debate, chapter from human enhancement, ed Savulescu& Nick bostrom, Oxford university press, P. 1-22.

([xl])Bostrom. Nick, and Anders Sandberg, Global Catastrophic Risks Catastrophic Survey, Future of Humanity Institute University, of Oxford, 2008, P.378.

([xli])Bostrom, Nick, Ethical Issues in Human Enhancement, P. 1-2.

نقلاً عن نوال طه: أخلاقيات تحسين الإنسانية عند نيك بوستروم، دار المنظومة، المجلد 13، العدد 49، 2022، ص48.

([xlii])نيفين فاروق محمد: القيم والثورة العلمية والبيولوجية، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية البنات، جامعة عين شمس، 2006، ص67-68.

([xliii])Pogers, A., & Jorde, R, B: Genetic Enidence and Modern Human Origins, Human Biology, Oxford University Press, Oxford, 1995, P. 613.

([xliv])Ibid, P. 642.

([xlv])جوزيف كوانس وآخرون: أفاق الهندسة الوراثية، ترجمة إبراهيم البجلاتى، الثقافة العالمية، الكويت، العدد91، نوفمبر 1998، ص62.

([xlvi])المرجع نفسه، ص62.

([xlvii])Nick Bostrom, Human Genetic,  P. 495.

([xlviii])Ibid, P. 495.

([xlix])فيليب بري: تعزيز الإنسان والهوية الشخصية، ضمن كتاب موجات جديدة في فلسفة التكنولوجيا، تحرير جان كير، إيفان سلنجر، سورين ريس، ترجمة شوقي جلال، المركز القومي للترجمة (2808)، 2018، ص241.

نقلاً عن هند مداح: المقاربات الفلسفية لطبيعة الإنسان فى عصر البيوتكنولوجيا، رسالة ماجستير، كلية الآداب – جامعة المنوفية، 2020، ص273.

([l])سلامة موسی : نظرية التطور وأصل الإنسان، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر – القاهرة، 2012، ص216.

([li])Nick Bostrom, Human Genetic,  P. 496.

([lii])سعيد الحفار: البيولوجيا ومصير الإنسان، عالم المعرفة (83)، الكويت، 1984، ص182.

([liii])سوزان شنايدر، ص385.

([liv])المرجع نفسه، ص386.

([lv])المرجع نفسه، ص386.

([lvi])المرجع نفسه، ص387.

([lvii])المرجع نفسه، ص387.

([lviii])المرجع نفسه، ص388.

([lix])علي الحواتي: أخلاقيات التعامل من التقانات الحديثة أي تقانة؟ وأي تعامل؟ ولأي مجتمع؟، مقال ضمن كتاب أخلاقيات التعامل من التقانات الحديثة، تحرير فريال صالح، عبد العزيز البونى – المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، تونس، 2008، ص27.

([lx])محمد توفيق الضوي: نظرية الهوية الشخصية ، دار الوفاء، الإسكندرية ، ص52.

([lxi])President’s Council on Bioethics (US). Human cloning and human dignity: an ethical inquiry. President’s Council on Bioethics, 2002. , P. 104.

([lxii])Ibid, P. 105.

([lxiii])رجيس جوليفيه: المذاهب الوجودية من كيركجارد إلى جان بول سارتر، ترجمة فؤاد کامل، مراجعة محمد عبد رجیس الهادي أبو ريدة، ط1، دار الآداب، بيروت – لبنان، ۱۹۸۸م، ص63 ،64.

نقلاً عن: هند مداح، ص317.

([lxiv])فيليب بري: تعزيز الإنسان والهوية الشخصية، ص270.

([lxv])Nick Bostrom, Human Genetic,  P. 496.

([lxvi])فرنسيس فوكوياما: نهاية الإنسان، ص14.

([lxvii])Nick Bostrom, Human Genetic,  P. 496.

([lxviii])فرنسيس فوكوياما: نهاية الإنسان، ص15.

([lxix])المرجع نفسه، ص16.

([lxx])المرجع نفسه، ص16.

([lxxi])”The Future of Genomic Medicine,” Génetic Engineering and Biotechnology News, vol. 40, no. 9 (Septembe 220), p. 39.

([lxxii])فاطمة القرقورى: مستقبل الطب وعلم الوراثة والجينوميات، ضمن مجلة استشراف للدراسات المستقبلية، قطر، 2021، ص317.

([lxxiii])المرجع نفسه، ص318.

([lxxiv])دانييل كيفلس، لبروي هود: ص286.

([lxxv])هانى رزق: بيولوجيا الاستنساخ، ضمن كتب الاستنساخ جدل العلم والدين والأخلاق، دار الفكر المعاصر، دمشق، بيروت، 1997، ص113.

([lxxvi])المرجع نفسه، ص114.

([lxxvii])هانى روق: المعالجة الجينية، طب الجينات وجراحتها، عالم الفكر، العدد 2، المجلد 35، الكويت، 2006، ص105.

([lxxviii])بوغالم جمال: مشروع الجينوم البشري بين التقدم العلمى والمأزق الأخلاقى، مجلة أبعاد، مجلد 6، العدد2، قطر، 2020، ص287.

([lxxix]) ناهدة البقصمي: الهندسة الوراثية والأخلاق، عالم المعرفة، الكويت، 1993، ص206.

([lxxx])Nick Bostrom, Human Genetic,  P. 497.

([lxxxi])Ibid, P. 497.

([lxxxii])Nick Bostrom, Human Genetic, P. 498.

([lxxxiii])Ibid, P. 498.

([lxxxiv])نوال طه، ص52.

([lxxxv])المرجع نفسه، ص53.

([lxxxvi])Bostrom, Nick & Anders Sandberg, Cognitive Enhancement: Methods, Ethics, Regulatory Challenges, Springer Science + Business Media B.V. 2009, p. 314.

([lxxxvii])نوال طه، ص53.

([lxxxviii])المرجع نفسه، ص54.

([lxxxix])Nick Bostrom, Human Genetic, P. 498.

([xc])Ibid, P. 499.

([xci])Cook- Deegan, R., The Gene Wars: Science, Politics and The Human Genome, W.W. North, New York, 1994, P. 503.

نقلاً عن إبراهيم الشريف، ص186.

([xcii])Nick Bostrom, Human Genetic, P. 499.

([xciii])ايوجين برودی: تقنيات الطب البيولوجية وحقوق الإنسان، ترجمة يوسف يعقوب السلطان، مراجعة محمد صالح العبد، مؤسسة الكويت التقدم العلمي، الكويت، 1996، ص 124.

([xciv])Ibid, P. 503.

([xcv])Ibid, P. 504.

([xcvi])نوال طه: ص54.

([xcvii])المرجع نفسه، ص55.

([xcviii])المرجع نفسه، ص55.

([xcix])المرجع نفسه، ص55.

([c])Nick Bostrom, Human Genetic, P. 504.

([ci])Ibid, P. 505.

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video