قيل أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون أوصى بضرورة وجود راو للحكايات في مدينته الفاضلة، وتشير الآثار المنقولة عن الفيلسوف اليوناني سقراط بأنه أشرك الأطفال واليافعين والناشئة في بعض النقاشات الفلسفية مؤمنا بأن الفلسفة للجميع ولبست حكرا على فئة عمرية دون غيرها، فهل أدب الأطفال قديم قدم الفلسفة؟!
إن الفلسفة هي حب الحكمة بمعناها اللفظي وبمعناها العميق هي البحث والنقد والشك والتفكير بالمسائل الوجودية وتدخل في أصول كل العلوم، فإذا هل نناقش الفلسفة في قصص الأطفال أم قصص الأطفال في الفلسفة؟!
إن أدب الأطفال فن وليد جاء نتيجة التطور الفلسفي الإنساني وبروز الضرورة للإجابة عن تساؤلات واحتياجات الطفل معرفيا وعاطفيا وسلوكيا.
ولأن الفلسفة أم العلوم وأصلها فمن الأولى أن نضع الوعاء الصغير داخل الوعاء الكبير ونقول: أدب الأطفال في الفلسفة أو قصص الأطفال في الفلسفة وليس العكس.
إننا نعرف أدب الطفل على أنه أدب تربوي وبطريقة ما هو يتصل مع علم التربية، وبالتالي حين نقول (الفلسفة للأطفال) فإننا نعني تشارك علم الفلسفة وعلم التربية في تهذيب الطفل وتطوير التفكير الإبداعي والنقدي لديه.
لقد لمع مصطلح الفلسفة للأطفال في مطلع التسعينيات من القرن الماضي حين أسس له الفيلسوف وأستاذ المنطق الأمريكي ماثيو ليبمان والذي كتب أول رواية فلسفية تستهدف الأطفال والناشئة بعنوان (اكتشاف هاري ستولمير) والتي أراد بها تبسيط مفاهيم التفكير الفلسفي العملاني القائم على المنطق، وبعد ذلك انتشر مفهوم الفلسفة للأطفال في العالم.
لقد انتبه المعنيون في أدب الطفل العربي مؤخرا إلى أهمية الطرح الفلسفي في أدب الأطفال وارتفعت الأصوات مطالبة بأدب طفل فلسفي، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل أدركنا بالضبط معنى الطرح الفلسفي في أدب الطفل؟! وهل حقا ثمة أدب فلسفي خالص موجه للطفل؟! وهل يتوجب علينا أن نفرد مكانا خاصا لأدب الطفل الفلسفي بين رفوف مكتباتنا؟!
لقد ظهرت محاولات عديدة من أدباء كتبوا في حياة الفلاسفة أو طرحوا تساؤلات كبرى محاولين اختزال الفلسفة بالشك والبحث في أصل الوجود فلمسوا ظاهر الفلسفة دون الوصول إلى نبعها العميق الصافي، وهذا غالبا يأتي نتيجة محاولة اقتناص الفرصة واللحظة الراهنة وتعبئة الفراغ بما يتراءى للناطر المهتم بأنه أدب فلسفي فنصيب بذلك الفكرة التي تنادي بأهمية وضرورة الفلسفة للطفل، ونخطئ الهدف الذي هو أن نبسط الفلسفة للطفل ونمكنه من استخدام أدوات التفكير الفلسفي الإبداعي في مواجهة النص الأدبي وبالتالي في مواجهة تحديات الحياة.
إن من الخطأ أن يطلب من المؤلف غير المختص وغير المطلع أن يتصدى لمهمة ملء الفراغ الفلسفي في أدب الأطفال، هذا إذا افترضنا أنه ثمة فراغا حقيقيا وليس وهميا، كما من الخطأ أن يحمل المؤلف قلمه ويقول: سأكتب قصة فلسفية في أدب الطفل، وذلك لأن الفلسفة كالأوكسجين ذات وجود طبيعي متداخلة مع كل العناصر التي تشكل الهواء فنستنشقها دون أن ندرك ماهيتها في كثير من الأحيان، أي أننا نجد الفلسفة في كل قصة، فالفلسفة هي جملة الاستفهام، وجملة التعجب، والنهاية المفتوحة في كل قضة، والغلاف الذي يدعو للتفكير، والفكرة التي تدعو للتفكر، إن القصة الطفلية كالماء والفلسفة ذائبة فيه كالأوكسجين، وإن تحرير هذا الأوكسجين الفلسفي يحتاج لعملية مخبرية يقوم بها القارئ أو المربي أو الراوي أيا كان.
إذا كيف يكون الطرح فلسفيا في قصص الأطفال؟!
سأجيب عن هذا التساؤل مقسما قصص الأطفال على شكل أربع جرعات فلسفية.
تبدأ الجرعة الأولى قبل قراءة القصة عبر التفكير بالعنوان وما يوحي إليه ومحاولة البحث في بيئة القصة وطرح التساؤلات والاحتمالات التي تمهد لفهم عميق مريح للمضمون، كما أن مناقشة الغلاف مناقشة إبداعية هو جزء من عملية التفكير الفلسفي لمحتوى الكتاب.
والجرعة الثانية تكمن بين سطور القصة نفسها بحيث يترك الكاتب للمتلقي هامشا للتفكير والاستنتاج والبحث والمقارنة كما على الراوي أن يراعي ذلك أثناء القراءة لتكون الوجبة القرائية تفاعلية يستخدم فيها المتلقي أدوات التفكير الفلسفي الإبداعي وذلك عبر طرح التساؤلات وإثارة الشك وفتح أبواب الاحتمالات.
والجرعة الثالثة تكمن في فلسفة اللوحة واللون والفراغ، فأدب الأطفال عامة وقصص الأطفال خاصة تنتج مصحوبة برسوم ملونة، ولتلك الرسوم أشكال وأحجام وأبعاد وفلسفة خاصة، وبالتالي فإن على الرسام أن يتحلى بنظرة فلسفية للنص وهذا سينعكس على اللوحة، فلا تكون اللوحة معبرة تماما عن الكلمات، بل تأتي مفخخة بالأسئلة التي تفجر مكامن التفكير الخيالي الإبداعي والنقدي لدى المتلقي.
وأما الجرعة الفلسفية الثالثة فتأتي بعد الاستماع للقصة وتكون عبر تعزيز التفكير النقدي عند الطفل بمحاكمة العنوان، والشخصيات، والأحداث، والرسوم.
وبذلك نحقق أهداف التفكير الفلسفي إبداعيا ومعرفيا ونقديا أيا كان مضمون القصة الموجهة للطفل.
إن استخدام التفكير الفلسفي يساعد الكاتب والراوي والقارئ على امتلاك خيوط الحكاية والتحكم بها لتكون وجبة دسمة تتكامل عناصرها فيطيب مذاقها فوق مائدة هي الفلسفة وعليها تتوزع أطباق الإبداع، والنقد، والشك، والمعرفة.