Ayoon Final logo details-3
Search

ابستمولوجيا الفضيلة

محمد بن رضا اللواتي

قليلا ما نتساءل:

ما الذي يجعل المرء يمتنع عن قبول معرفة جديدة..؟

لماذا يشعر “بالتخمة” المعرفية فلا يقبل أن يضفي على أفكاره أفكارا أخرى..؟

لماذا يشعر بأن ما اعتنقه من تصورات باتت في خطر إذا ما دُعي إلى الاستماع إلى الرأي الآخر المخالف..؟

هكذا أسئلة قليلا ما نسأل عنها لأننا قد نكون بعض أؤلئك الذين تتساءل هذه الأسئلة عن أحوالهم شخصيا، وتقصدهم تحديدا، لأنه من العسير أن نجد انفتاحا على الفكر المخالف، رغم أننا نعلم جيدا إن هذه الحالة تُعد السبب الأبرز في عدم اندماج المجتمعات فيما بينها.

إنها تصنع سداً منيعا يحول دون التداخل المجتمعاتي، وتؤدي مع مرور الوقت إلى مقت الآخر المختلف والتعامل التعسفي معه. وكان الظن في السابق يُحمّلُ “الدوغمائية” مسؤولية هذه الحالة، ويرى أن كل “يقين معرفي” هو المسؤول عن انبثاق هذا الشعور، لذا نادى أصحاب هذا الظن أنه يجب منع الدوغمائية ومحاربتها باعتبار أنه لا يمكن التحقق علميا من صدق أية معرفة ومطابقتها للحقيقة والواقع كما هو!

لكن هذا الظن مع مرور الوقت ذهب أدراج الرياح، وانتبهت بعض بؤر المعرفة وبيوت الثقافة إلى أن هذه الدعوى فضلا عن مخالفتها لطبيعة الإنسان، فهي تفتح باباً لشك مريع تجاه كل علم، وتدعو إلى نفض اليد عما لا يقبل عقل الإنسان المزود بالقدرة المنطقية على التفكير، أن لا يعده غير يقيني. 

وإذن.. أين تكمن المشكلة؟

“ابستمولوجيا الفضيلة” احدى النظريات التي تقترح حلولا لأجل أن يعُّمَ “الوفاق المعرفي” بين البشر، وهذه النظرية (يؤشر لها بحرفي VE: Virtue Epistemology ) التي تشير إلى مجموعة من “الأخلاق التي ينبغي أن نتحلى بها عندما نتعاطى مع الأفكار”. (ابستمولوجيا الفضيلة: زهراء الخزاعية).

الصدق مثلا والنزاهة فضيلتان تعززان قدرتنا على اكتشاب المعرفة وتعمل على ازدهارنا الفكري. (الفضائل الفكرية وطبيعتها في الابستمولوجيا). 

تُعد (ابستمولوجيا الفضيلة) من أركان نظرية (التواضع الفكري) والتي يقابلها من جانب (الغطرسة الفكرية) ومن جانب آخر (التردد الفكري).

يُقصد (بالغطرسة الفكرية) الحالة التي يشعر بها المرء بأنه لم يعد يعتقد بوجود فكرة على وجه المعمورة تقبل أن تجلب انتباهه فضلا عن أن يعتقد بصحتها.  أما التردد الفكري فيُقصد بها الحالة التي يعجز فيها المرء عن أن يعتنق فكرة ما ويكتشف صحتها.

في حين يُقصد (بالتواضع الفكري) الحالة التي بها يفسح المرء المجال للعقل لأن يفهم ويعي المعارف الأخرى فلعل ما عنده ليس بصحيح أو غير كاف. بينما تعني (الرذيلة الفكرية) كبرياء في غير محله والمبالغة بالانتفاخ المعرفي والقوة العلمية. (التواضع الفكري: مقدمة في الفلسفة والعلم).

ولكن: ألا تكون هذه محاولة خفية أخرى لأجل تمرير الفكر المخالف في أذهان من لا يؤمنون به؟ أليست هذه محاولة “أكاديمية” هذه المرة لأجل أن تحقق ما عجزت عنه الآلة الاعلامية والضغوطات السياسية والتهديدات الاقتصادية لأجل اخضاع الآخر المخالف إلى ما لا تقبله معتقداته وقيمه مبادئه؟

مؤخرا، شاهد العالم كيف حاولت بعض الدول الغربية هدم سمعة بلد عربي إسلامي وخنقها اقتصاديا لأنها رفضت الانصياع إلى ضغوطات قبول “مجتمع الميم” المنحل أخلاقيا والترحيب بشعاراته.

شاهدنا جميعا دعاة الحريات وقد كشروا عن أنيابهم، وباسم الحريات يريدون فرض ثقافتهم التي لم يُعثر على أثر لها حتى في عالم الحيوان! شاهدناهم وقد ألقوا بثقلهم كله على “قطر” لكي تتراخى عن التمسك بمبادئ معتقداتها وقيمها تحت تهديداتهم التي كانت تشبه أحرف الموت، وتترنح تحت ضربات آلاتهم الاعلامية المقيتة فتسمح بعبور الثقافات المنحطة انسانيا أثناء اقامتها الناجحة للمونديال.

ومن المؤسف أن البعض لم يفق بعد من ترديد نشيد “وجدنا الاسلام في الغرب دون المسلمين” رغم كل هذه الجلبة اللا اخلاقية والصخب المنحل والغوغاء اللا انسانية.

أليست “ابستمولوجيا الفضيلة” شعار جديد لتمرير ما تأباه قيم الناس ومعتقدات المجتمعات على تنوعها واختلافها؟

هؤلاء الباحثين يقولون: كلا.

فمثلا: ما فاتنا أن 4+4=8 ولا يمكن رفع اليد عن هذه الحقيقة اليقينية.

وليس هذا فحسب، إذ لا بد من وجود أفكار معينة لدى الناس لا يمكنهم التنازل عنها بتاتا، سواء أكان ذلك السبب دينيا أم منطقيا، ومصادرة حقهم في الاعتقاد بها لا يمكن أن يكون ذلك فضيلة.

ولكن يسأل هؤلاء:

هل هذا يعني بالضرورة أن لا أكون “متواضعا فكريا”؟

هل ذلك يعني أن أكون “متغطرسا فكريا”..؟

ألا تجتمتع “الدوغمائية” “بالتواضع الفكري”؟

ألا توجد هنالك أوقاتا يمكننا فيها أن (نتفق) على أننا نختلف في تقييم فكرة ما؟

بحر الأفكار المتلاطم يضرب بأمواجه سواحل أذهاننا كل لحظة، وهنالك “فن العوم” في هكذا بحر متموج، والدعامتان الأساسيتان لهذا الفن هما: “اللُطفُ” و”الصِدقُ”.

إنهما يشعراننا:

  • بأن من ينقد أو يُعارض أفكارنا ليس بالضرورة يهاجم شخصياتنا.
  • بأنه لا مانع من أن نراجع أفكارنا وفق هذا التطور المعرفي الهائل في شتى حقول العلم.
  • بأن الآخرين أيضا لهم آراء تستحق الاحترام وحقوق لاعتناق الأفكار. (يُراجع المصدر السابق).
  • بأن تواضعنا الفكري يساهم في نمونا المعرفي، وهو يصلح لأن يكون ركيزة لتأسيس معرفة. (مصدر سابق).

“ابستمولوجيا الفضيلة” ولكي تكون كذلك، لا بد لها أن لا تغض النظر عما ينبغي أن لا يُقبل ولا يُعتنق أيضا. فثمة أفكار، الوقوف في وجهها ومنع تدفقها يكون “فضيلة” بلا شك، كتلك الأفكار التي تدعو إلى مقت الآخر، وتلك الحزمة من الأفكار التي اعتنقتها قوى الاستكبار في العالم، والتي بواسطتها تبيح لنفسها الاحتلال ونهب الثروات واباحة الحُرُمات.

وأفكارا شبيهة بتلك، والتي مؤداها قطع النسل البشري بركوب موجة الشذوذ الاخلاقي والتحلل من طور الانسانية.

إننا نعتقد أن ما قاموا به لأجل فرض الانحلال الاخلاقي على بلد لا يعتقد به ويراه مخالفا لقيمه، شكل من أشكال الغزو الثقافي والهيمنة الفكرية، ولا شك أن قاموس مصطلحات “ابستمولوجيا الفضيلة” يجب أن يودع تلك الضغوطات تحت بند “الأفعال المشينة ابستمولوجيا”.

**

“لا شيء يضاهي صعوبة ألا يخدع المرء نفسه” : (فتغشتاين -1980م).

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video