Ayoon Final logo details-3
Search

فكرة معرفة التقشف

عائشة الدرمكي

(إذا لم ترتكز المعرفة على بناء متين، فما بالك بمعرفة المعرفة؟)

هكذا يبدأ إدغار موران مناقشته للمعرفة في كتابه (المنهج معرفة المعرفة؛ أنثربولوجيا المعرفة) باعتبارها (وجهة النظر المتطورة) بحسب نظرية غوديل التي تنطلق من مبدأ أن ” المنظومة التقعيدية المركَّبة لا يمكن أن تجد في ذاتها برهانا على صحتها”. وهي نظرية تعترف بالقصور الدائم في أية منظومة معرفية؛ إذ لا يمكن – بحسب النظرية – أن تكون أية منظومة كاملة في ذاتها، ولا يمكن لها أن تستقيم انطلاقا من أدواتها المعرفية الخاصة، بل أن التخلي عن (التمامية) و(الحصرية) هو شرط من شروط المعرفة.

   الأمر الذي يجعل من القواعد والمبادئ والبيانات والدليل المفهرس والمنطق والرياضيات وغيرها، التي  تتحكم بمعرفتنا بحيث “تستطيع أن تصبح موضوع اختبار لمعرفة ثانوية (أي المعرفة المتعلقة بأدوات المعرفة)، (حتى) تمتلك مفاهيم تتعلق بالمفاهيم ومقولات تتعلق بالمقولات نفسها…” – كما يقول موران –، هكذا إذن تتمحور كل فكرة في أذهاننا لتصبح موضوع تصوُّر، ولهذا فإن تلك التصورات والموضوعات التي نؤسسها بناء على معطيات وبيانات تتشكل وفق مجموعة من الأنماط المعرفية والعمليات الدماغية المرتبطة بتوليد تلك المعارف، وبالتالي تمكننا من الوصول إلى المعرفة وتحديد النسق الذي ستنشأ وفقه تلك المعرفة اجتماعيا أو اقتصاديا أو غير ذلك.

   إن الوصول إلى المعرفة على قصورها أو عدم تمامها، وصول مبني على مجموعة من القواعد والبيانات والمعطيات الممكنة، التي تجعل من التطبيقات المبنية عليها معطيات تقود إلى ما يسمية موران (معرفة المعرفة)، ولهذا فإن تلك القرارات التي تتخذها الدول أو السياسات التي تفرضها على مجتمعاتها قائمة على مثل تلك المعارف ذات النهج المتدارس على مستوى المعطيات الآنية، والمستقبلية، والمعارف العلمية والنظريات التي تقود تلك المعطيات نحو نتائج مفترضة من ناحية، ومكتشفة من ناحية أخرى، لأنها تنشد مستقبل المجتمعات بناء على المعطيات والمنهجيات التي تقود المستقبل.

   ولأن العالم يُخطط اليوم وفق مجموعة من المعطيات الآنية اقتصاديا وصحيا واجتماعيا وبالتالي ثقافيا فإن هذا التخطيط يقوم على تلك المعطيات التي تشكل المعرفة للوصول إلى (معرفة المعرفة) وفق منظور مستقبلي ينشد الإفادة من تلك الانهيارات التي حدثت خلال الفترة الماضية للأنظمة الصحية والاقتصادية في المرتبة الأولى، الأمر الذي دفع آنذاك العديد من دول العالم نحو فكرة (التقشف) باعتبارها الملاذ الآمن للانتعاش الاقتصادي؛ فبعد تدارس المنظومات الفكرية الخاصة بالمجتمعات، والبيانات والمعطيات الآنية والمتغيرات المستقبلية قرَّرت الدول أن (التقشف) هو الفاعل الذي سيُنعش أسواق المال ويقود نحو الرفاه الاجتماعي.

  في كتابه (التقشف. تاريخ فكرة خطرة) يأخذنا مارك بليث إلى آفاق هذه الفكرة (الخطرة) على المجتمعات، ليقدم لنا الأوضاع الاقتصادية التي حصلت للولايات المتحدة بعد أن خسرت تصنيفها الإئتماني (AAA) في العام 2011م، وما أحدثه ذلك من انتكاسات مالية، الأمر الذي دعاها بعد ذلك إلى فرض سياسة (التقشف)، ليناقش بعدها الآثار المترتبة على فرض هذه السياسة، منطلِقا من فكرة التقشف نفسها وتاريخها الفكري. إن ما يعنينا هنا هو فكرة (التقشف) من منظور ثقافي فكري؛ فعلى الرغم من ارتباطه بالأوضاع الاقتصادية باعتباره فكرة اقتصادية أصلا، إلا أن تاريخه الفكري يرتبط بالنظريات الفكرية؛ فـ (بليث) يربط تاريخ هذه الفكرة بالفكر الليبرالي والذي نما كردة فعل، وتطوَّر وفقا للمتغيرات التي أحدثها السوق.

   إن المنظور الفكري الثقافي لفكرة (التقشف) في ارتباطه بالليبرالية الفكرية التي تجعل من (الأسواق) مسؤولية خاصة بالدولة؛ فهي المسؤولة عن إنشائها والحفاظ عليها، وبالتالي فإن (التقشف) باعتبارها فكرة يشترك في تنفيذها المجتمع، ستكون عامل قلق وتوتر، وهو القلق الذي يعتبره (بليث) المسؤول عن إيجاد “الظروف الملائمة لظهور التقشف كأيديولوجيا اقتصادية متميزة عندما تصبح الدول في حد ذاتها كيانات كبيرة بما فيه الكفاية على صعيد الموازنة فتبرر تقليصها”.

  والحال أن التقشف باعتباره واقعا تشارك فيه الدول مجتمعاتها، فإنه واقع فكري قبل أن يكون واقع اقتصادي؛ ذلك لأنه سيعرض مجموعة من الأفكار المعرفية التي تُعد جديدة على بعض المجتمعات، وسيقدم معطيات وبيانات تشاركية تناقش أهمية هذه الفكرة وقدرتها على تحقيق الأهداف، وبالتالي فإن (التقشف) يشكل الواقع المشترك الذي يجب معايشته ضمن المعطيات الاقتصادية والاجتماعية الآنية والمتغيرات المتوقعة في المستقبل.

  ولذلك فإن (بليث) يناقش فكرة التقشف في مقابل فكرة الحوافز المالية؛ باعتبارها بديلا يمكنه “في الأجل القريب حفز النشاط الاقتصادي”، والتي يعرضها ضمن نظرية الاقتصاد الكلي المعاصرة. الأمر الذي سيجعل من تاريخ فكرة (التقشف) مرتبط بالنمط النظري لتلك الأفكار المعرفية التي يقدمها الاقتصاديون في سبيل مناقشة الخيارات والبدائل؛ فكل تلك الأنماط البديلة المقترحة ستؤدي وفق مجموعة من المتغيرات إلى “تضخم أو تتبدد من دون إحداث متغيرات حقيقية” – بحسب بليث – الأمر الذي يقدم أفكارا تبدو أكثر خطورة من فكرة (التقشف) نفسها.

   إن (التقشف) في ارتباطه بالتاريخ الفكري للمال والأسواق والمتغيرات الاقتصادية من ناحية، وبالمجتمع ونمط تشكلُّه من النواحي الاجتماعية والثقافية من ناحية أخرى، يقدم مجموعة من المتغيرات في شكل أنماط معرفية قادرة على النمو والتحوُّل بحسب الزمان والمكان ووفق التصميم المُعد من قِبل الفاعلين، وعليه فإن فكرة (التقشف) لا يمكن أن تتحقق سوى بالتعايش معها باعتبارها أحد الخيارات لا كلها؛ وأن التشكيك الذي يناقشه (بليث) في كتابه بشأن إرادة الدول لهذه الفكرة مع وجود خيارات أخرى، أمر يمكن طرحه من النواحي الاقتصادية لا الفكرية.

   ولهذا فإن هذه الفكرة تعتمد في سبر تاريخها على المجتمعات وقدرتها على صياغة مجموعة من البيانات والمعطيات التي تجعل منها فكرة قادرة على تنظيم العلاقات بين الدول والأفراد، بل وتنظيم حياة الأفراد في المجتمع أيضا، لما تمثله من مفهوم اجتماعي وثقافي قادر على الحياة بين الناس، ليكون أسلوب حياة لا حالة طارئة، لنستطيع بعدها القول أن لـ (التقشف) تاريخ معرفي، ونصل به إلى معرفة المعرفة وفق منظومة الأفكار التي ستتوَّلد منها ومن مجموعة المفاهيم المترابطة والمتكافلة التي تنتظم في علاقات منطقية لتشكل المفهوم العام المعرفي للتقشف.

 في كتابه (ما المعرفة؟) يستعرض دنكان بريتشارد لنا محاولة مهمة في تعريف المعرفة وقيمتها ومصادرها، وتحت عنوان (الحقيقة والموضوعية) يُقدِّم (الحقيقة) باعتبارها (هدفا للبحث) المعرفي من ناحية و(الأصالة) بوصفها (قيمة للحقيقة) من ناحية أخرى، والأمر هنا يتعلق بالإمكانات الواقعية الظاهرية في العلاقة التي تربط بين الطرفين، والتشكيك في موضوعية الحقائق التي توصل إلى الأصالة، ووفقا لمبدأ (النسبية) فإنه “إذا كانت النسبية صحيحة فلا مكان للمعرفة” – بحسب دنكان –، مما يعني أنه إذا كان (التقشقف) باعتباره تاريخ معرفي يوصل إلى منافذ واقعية للتطبيق من الناحية الجوهرية، فإن قيمته المعرفية ستُحتِّم إيجاد أشكال موضوعية مرتبطة بالبحث والتقصي في تاريخه باعتباره (فكرة معرفية).

  إن (المعرفة الافتراضية) باصطلاح دنكان تُعَّد من (متطلبات امتلاك المرء للمعرفة)، فهو اعتقاد بالافتراض والاعتقاد بالحقيقة، ومن ذلك؛ فإن مطلب المعرفة يقوم على مجموعة من الافتراضات التي تجعل من فكرة (التقشف) في مقابل فكرة (الاستهلاك) كافية لـ (إصابة الحقيقة)، والأمر من المنظور الفكري البحت لا ينطلق سوى من (الإدراك)، وهذا ما جعل هيغل في (موسوعة العلوم الفلسفية) يقرِّر أن “أشياء الوعي يجب أن تُعرف بأنها محدَّدة من داخلها وبأنها وحدة خصائص مميَّزة”، وهو ما أطلق عليه (واقعية المضامين)، وضمن مفهوم الإدراك المعرفي فإن مناقشة التقشف باعتباره تاريخ معرفي عليها أن تتحدَّد وفق مجموعة من الموضوعات القابلة للإدراك الحقيقي لا المفُترض.    وإذا كانت فكرة التقشف باعتباره معرفة وُلدِت في المضمون الاجتماعي والاقتصادي، إلاَّ أنها في الأصل تنطلق من مفاهيم فلسفة الواقع وعلاقته بالافتراض والفكرة وأشكال ارتباط الإنسان بالمجتمع وما حوله، وبالتالي ارتباطه بالماديات، ولهذا فإن روجيه غارودي يصرِّح في كتابه (النظرية المادية في المعرفة)، أن المادة هي “الواقع الأول، وليست إحساساتنا وفكرنا سوى نتاج هذا الواقع وانعكاساته”، وبالتالي فإن المعرفة المثبتة بالتجربة وبالممارسة يمكن أن (تنفذ نفاذا تاما إلى العالم وقوانينه). إنها (الفكرة الثابتة) الراسخة في أذهاننا وفقا لما ندركه من حقائق وافتراضات، وبالتالي فإن (التقشف) باعتباره (مادة) معرفية، يمكن أن ينفذ إلى الواقع، لكنه سيظل دوما قابلا للتشكيك في محاولات مستمرة لبلوغ (الوعي المطلق)، إذ يجب أن نتفق مع موران في ضرورة التخلي عن التمامية والحصرية للوصول إلى (المعرفة).

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video