Ayoon Final logo details-3
Search

التفسير السوسيولوجى للمعرفة العلمية عند كارل مانهايم

أد/ ناصر هاشم محمد

مقدمة

ولد كارل مانهايم  فى بودابست 1893 وتوفى فى المملكة المتحدة 1947 ، وهو أحد أبرز أقطاب فلسفة الحياة ، وأحد مؤسسى علم الاجتماع الكلاسيكى ، وعلم اجتماع المعرفة ، من مؤلفاته  الهامة التى لعبت دورا كبيرا فى فلسفة العلوم الاجتماعية وعلم اجتماع المعرفة كتابه الهام ” الأيديولوجيا واليوتوبيا ” ، وكتابه ” مقالات فى علم اجتماع المعرفة “، وكتابه ” الأيديولوجيا و*الطوبائية “، وضع مانهايم نظرية الأجيال generation  Theory OFأو “علم اجتماع الأجيال ” ، ووفقا لهذه النظرية فإن الأشخاص يتأثرون بشكل بارز بالبيئة الاجتماعية التاريخية التى تسيطر على شبابهم ، مما يشكل على أساس تلك التجربة أجيالا اجتماعية أصبحت بدورها عوامل للتغيير، وتعطى فرصة لبروز أحداث تشكل الأجيال المستقبلية ( 1)

و كان لأبحاث مانهايم الفضل الأكبر فى ظهور علم اجتماع المعرفة مع مطلع القرن العشرين، ويسعى هذا العلم إلى فهم الصراع الأيديولوجى اليوتوبى الكلى للتفكير الاجتماعى، فمانهايم يعد من الأوائل الذين حددوا المعرفة الاجتماعية كرؤية جديدة فى التحول الإبستمولوجى إلى علم الاجتماع المعرفى ( 2) الذى أهتم علماؤه  بفكرة المواقف الكلية أو المواقف السوسيوتاريخية ، فهم ينظرون إلى كل موقف تاريخى بوصفه يعبر عن روح العصر وسماته الفكرية، ومن ثم تصبح حتمية المواقف هى المصدر الوحيد للفكر والمعرفة، والمرجع الأساسى لتفسير كل منهما” ( 3)

تأثر مانهايم تأثرا كبيرا بكارل بماركس فى تعريفه للأيديولوجيا  فى معناها الكلى والجزئى، وفى تأكيده على العلاقة بين شكل المعرفة من ناحية، ونمط المجتمع من ناحية أخرى ،كما تأثر به فى ربطه للعنصر الأيديولوجى بمفهوم الطبقة الاجتماعية ، فالطبقات  الاجتماعية عند ماركس ومانهايم هى صاحبة الأيديولوجيات ،ولذلك فإن الأيديولوجيات العظمى هى أيديولوجيات الطبقات ، إلا أن مانهايم يختلف عن ماركس فى اعتقاده بأن التناقض بين الفكر والمعرفة ، وبين الأوضاع الاجتماعية التاريخية ليس محصورا بين المراحل التاريخية المختلفة والطبقات الكبرى، وإنما ذلك يتعدى إلى الجماعات الإنسانية الأخرى، بل إلى الفرد الواحد فى الجماعة الواحدة ، وهكذا تطرق مانهايم فى مفهوم الأيديولوجيا إلى درجة لم يتطرق إليها ماركس ولا تلاميذه ، فمانهايم هو مؤسس علم اجتماع المعرفة ووضع له الصياغة النظرية .

وقد جمع مانهايم فى فلسفته بين تعاليم المدرسة السلوكية ، والمدرسة السوسيولوجية الفرنسية التى تعود أصولها إلى أوجست كونت1857، وتطبيقات دوركايم1917  على ” سوسيولوجيا المعرفة ” ،خاصة فى كتابه الشهير ” البدايات الأولى للحياة الدينية ” والذى أشار فيه  إلى وجود مشكلة هامة من مشكلات المعرفة، ألا وهى مسألة الأصول الاجتماعية النشأة للفكر الإنسانى فقال ” إن العلية والسببية ترجع إلى أصل موضوعى ، والعلية عنده من صنع العقل الجمعى  ليرى من خلالها أو يدرك ما بين الأشياء والظواهر من علاقات ، وعلى ذلك فالحقيقة والمعرفة أساسها الدين والمجتمع، وأن الفرد ينمى  ويغذى معارفه ومدركاته على أفكار المجتمع وتصوراته(4)  ، ويقول فى موضع آخر ” إن أفكار الزمان والمكان والقوة والتناقض وغيرها تختلف من جماعة إلى أخرى ، بل تختلف داخل الجماعة الواحدة  بين فترة زمنية وفترة زمنية أخرى، ويكشف هذا التنوع عن حقيقة مؤداها أن المقولات والقواعد المنطقية الأساسية تعتمد على عوامل تاريخية بالتالى عوامل اجتماعية(5)

أن المجتمع عند دوركايم  ومانهايم هو مصدر النظم ،وهو من يقدم تفسيرا سوسيولوجيا للمقولات المنطقية والفكر والاستدلال ،وتعتبر المبادئ العقلية من نتاج المجتمع ، وأن الجماعة هى التى منها أسس التفكير المنطقى ، وأن الظروف الاجتماعىة هى التى تؤدى إلى ظهور العلم وإلى التحول الذى يطرأ على أنماط الفكر .

وتعرف “دائرة المعارف الفلسفية ” علم اجتماع المعرفة بأنه ” العلم الذى يهتم بدراسة محددات مشاركة الإنسان فى الحياة الاجتماعية ،حيث تؤثر هذه المحددات فى معرفته وفكره وثقافته .

أما مصطلح “علم اجتماع المعرفة”  فيعد ماكس شيللر أول من صاغه ونظر إليه على أنه فرع من فروع علم الاجتماع الثقافى، وتصور المعرفة تصورا سوسيولوجيا ،وعلم اجتماع المعرفة عنده ليس تأريخا للأفكار فى سياقها الاجتماعى وليس تعبيرا عن الحقيقة الاجتماعية للفكر، ولا سيطرة للثقافة المادية على اللامادية ، ولا يعنى بصحة الأفكار وصدقها ،ولكنه تحليل للعلاقات الاجتماعية للمعرفة ، حيث يهتم بدراسة الطابع الاجتماعى للمعرفة والتوزيع السوسيولوجى للمعرفة من خلال بعض المؤسسات الاجتماعية الخاصة كالمدارس والصحافة ،ثم دور المصالح والاهتمامات الاجتماعية فى تكوين الأنواع المختلفة من المعرفة(6)

 إذا كلن مصطلح علم اجتماع المعرفة  قد صك فى القرن التاسع عشر ، لكن ترجع أصوله تاريخيا إلى الفلسفة الكلاسيكية القديمة ، والتعريف العلمى لهذا المصطلح يقوم على شرطين إحدهما: يتمثل فى الموضوعية الكاملة وذلك باستبعاد العناصر القيمية ، فالهدف الأول لعلم اجتماع المعرفة هو فهم أصول الأفكار وليس دلالتها السياسية أو صدقها.

والثانى : يقوم على استبعاد الإفتراضات الميتافيزيقية عن العلاقة فى البناء الاجتماعى والبناء العقلى.

 إذن يجب على هذا العلم إن يتجنب العبارات  الدوجماطيقية إذا أراد أن يصبح دراسة علمية  حول مسألة الحتمية والحرية فى الفكر، وأن يصبح بالتالى منهجا لتفسير معانى الأفكار فى ضوء المواقف الاجتماعية(7)

  إن علم اجتماع المعرفة  يقع فى منطقة وسط بين علم الاجتماع والفلسفة، فهو يخدم العلوم الاجتماعية وباحثيها، كما يخدم العلوم الفلسفية وباحثيها للحصول على نتائج موضوعية تخدم الإثنان، فهو بحق علم وضعى أو تشيد على نحو اجتماعى، بمعنى أن المجتمع هو مصدر المعرفة المختلفة ،وبين السياق الاجتماعى والثقافى الذى تمخضت عنه، فهو يعنى بالظروف الاجتماعية للمعرفة.

 وكان الفيلسوف البرجماتى  الكبير ماكس شيللر يرى أن البناء التحتى هو مصدر كل أشكال المعرفة .

ويرى مانهايم أن شيللر أراد من خلال تحليلاته السوسيولوجية أن يركز على ثلاثة أنماط مختلفة من المعرفة الدينية ،والمعرفة الميتافيزيقية ،والمعرفة الوضعية ، وأن هذه المراحل الثلاثة التى تمر بها المعرفة قد انتهت بعد التقدم العلمى السريع ، ولم يعد العلم وحده قادرا على أن يكون النموذج الوحيد فى المعرفة ، وأن الهيمنة الحالية للعلم الطبيعى ، لا تثبت أن العلم أعلى درجات المعرفة ، حيث تعتمد المعرفة على عوامل سوسيولوجية ويتم ذلك عبر التنظيمات السائدة فى المجتمع (8 )

ويتفق عالم الاجتماع البلجيكى جاكس ماكيت Jacques Macquet  مع شيللر فى تعريف علم اجتماع المعرفة  فيرى أن المهمة الرئيسة لعلم اجتماع المعرفة تتمثل فى دراسة  النتاج الإدراكى والفكرى فى ضوء اعتماده على العوامل الاجتماعية والثقافية ، وإن الانتاج الاجتماعى لا يقوم فقط بالتأثير على الإدراك ، ويخدم فيما يتعلق به كأحد العوامل الخارجية ، إنه أساس المعرفة وقوتها الدافعة الحقيقية ،والمصدر النهائى لأى مصلحة فى السعى إلى الاستكشاف ، إن آفاق الفضول الإنسانى محدد تاريخيا ، وهى أوسع من تلك التى يشملها المفهوم البيولوجى عن ” البيئة ” ، وهى فى نفس الوقت محددة بدقة بقدر ما يتفاعل الناس عند اكتسابهم للمعرفة ، فقط مع تلك المجالات من الواقع التى تشارك بشكل مباشر ، وكان الماركسيون يرون أن المعرفة الإنسانية حتى فى أشكالها الأكثر بساطة وبدائية هى نتاج اجتماعى، و نفس الشئ يجب أن يقال عن أشكال الفكر الشاملة : المقولات -قوانين المنطق والبيهيات

ينتقد مانهايم ماكس شيللر فى تحديده لأصل الفكر والمعرفة باعتبار أن نظرية شيللر من وجهة نظر مانهايم هى نظرية آحادية الجانب ، ولم يفعل شيللر أكثر من استخدام المظهرية الفينومينولوجية فى الفصل بين الواقعى والعقلى ، ولم يخرج شيللر عن التصور الأفلاطونى القديم ، حيث ميز بين الواقعى والحقيقى ولم يستطيع شيللر أن يتخلص من رؤيته الفلسفية حين ميز بين الإنسان الحقيقى  أو الإنسان الجوهرى والإنسان الواقعى، كما أنه وضع تمايزا فلسفيا بين ماهو تاريخى أو زمانى من جهة، وبين ما هو فوق زمانى أو لا تاريخى من جهة أخرى، ويرى مانهايم فى ذلك بأنها مسحة ميتافيزيقية خالصة غلبت على نظرية شيللر فى المعرفة(9)  

 إن مانهايم ينطلق من الفكرة الماركسية القائلة بأن ” الفكر انعكاس للوجود المادى، حيث افترض مقابلا لها، وهو عدم التطابق بين الفكر ( المعرفة) والوجود الذى سماه فى ما بعد وعيا زائفا، يعكس ايديولوجيات معينة قائمة على قيم المصلحة والتبرير والتقويم ، إن نزع هذا المركب الأيديولوجى فى تصور مانهايم  ومن حاز الفكر هو تأسيس للمعرفة الموضوعية نظريا (10) ، ويربط مانهايم من خلال هذا العلم بين المعرفة والواقع والمجتمع ، أى أنه ربط الفكر بالمجتمع ، وجعل الفكر ذو طابع اجتماعى ، وربط الفرد بأفكار عصره ودوافعه الذى يعيش ويحيا فيه ، فقد ركزت كتاباته بشكل كبير على المشاكل السياسية والاجتماعية والأخلاقية التى ينطوى عليها بقاء الديمقراطية والحرية ، لقد كان لمانهايم دورا بارزا فى تحسين المجتمع ،حيث رأى أن التعليم والتخطيط أمران أساسيان لتحسين المجتمع ، وكان التعليم هو مصدر القلق الرئيسى لمانهايم ، وهو بذلك عمل على حل مشكلات عصره الذى كان يعيش فيه ، ومن هذا المنطلق تتعدد طرق الفكر وأساليب المعرفة لأنها تتعدل وتتغير طبقا لتغير المواقف على مر العصور، الأمر الذى يؤكد نسبية المعرفة والفكر، لقد عاش مانهايم فى عصر سيطرت عليه أربعة اتجاهات فكرية يمثلها أربعة فلاسفة مزقوا أطر الفكر التقليدية ، وحطموا السدود التى تمنع الفكر من الانطلاق وهم تشارلز داروين 1883 وكارل ماركس وسورين كيركجارد1882 وسيجموند فرويد1939، وكان مانهايم من جيل المفكرين الذين عنوا بالثقافة والقيم الإنسانية أكثر من أى موضوع أخر ، ويصنف مانهايم على أنه تابعا لمدرسة فرانكفورت  النقدية  وإتباعه لمنهجها النقدى .

ورغم تأثر مانهايم بماركس  والماركسين فى تأكيدهم على أن المعرفة الإنسانية حتى فى أشكالها الأكثر بساطة وبدائية هى نتاج اجتماعى، وقولهم أن نفس الشئ يقال على أشكال الفكر الشاملة : المقولات، قوانين المنطق ، البديهيات ، نراه ينتقد انصار سوسيولوجيا المعرفة ، ويتخذ موقفا مغايرا لهذا ، لأنهم يصلون إلى استنتاج غير مقبول بالنسبة له  وللسوسيولوجيين لأنهم يعتبرون ماهو ” اجتماعى ” فقط تلك الأشكال المتنوعة والطرق  التى تتجلى بها المعرفة ، ولكن ليس جوهرها ، فقد اعتبر مانهايم الجانب الاجتماعى خاصية مميزة  لنفس محتوى المعرفة ، واتخذ مقدمة سلوكية  Behaviorist كنقطة انطلاق له ، وبالنسبة له ، فإن صورة العالم هى ليست نتيجة لنشاط معين للذات التى تسعى جاهدة لعكس الواقع إدراكيا ، ولكنها وظيفة لسلوكه- ومع ذلك من وجهة نظر مانهايم ليس الفرد نفسه هو الذى يظهر بدور الذات النشطة ، ولكن المجموعة التى ينتمى إليها ذلك الفرد  تتجدد المعرفة  بشكلها ومحتواها برأيه، بأهداف المجموعة  وتوقعاتها ، تنحل علاقة المعرفة بالمجتمع نفسه إلى علاقة مفاهيم الفرد بوجود ” وعى المجموعة ” فى لحظة معطاة”.

إن مانهايم يرى أن الميزة الأساسية للمقاربة السوسيولوجية للمعرفة تكمن فى حقيقة أنها ” تضع نهاية لخرافة انفصال الفرد عن الجماعة التى يفكر ضمن إطارها وحسب نسيجها(11)

ومع ذلك فبعد أن ساعدنا مانهايم باقتحام المعبد المقدس ( محتوى المعرفة ) يقوم على الفور بطرد آلهة منه ( الحقيقة) ، بالتأكيد إذا كانت صورة العالم هى وظيفة نشاط الجماعة  ، وعليها يستند الفهم الشخصى للوضع ، وإذا كانت أهدافه ومهماته المتنوعة تختلف ، فإن لكل مجموعة الحق الكامل لأن تعتبر منظومة وجهات نظرها صحيحة ، ليس هناك معنى من الجدال حول حقيقة وجهات نظر المجموعة ، كل ماهو ضرورى هو ربط العلاقة بين وجهات للنظر ، أى علاقة ” القول ” ب ” تفكير المجموعة “

فمن وجهة نظر مانهايم  يجب استبدال تقييم الأفكار بما يسمى ” التفريد ” Individualization  ، أى تحديد المجموعة التى تنتمى إليها الفكرة المعطاة ، إن المقاربة السوسيولوجية للمعرفة عنده ليس لها معنى أكثر من ذلك ، فيقول: ” العلاقات التى تقيمها سوسيولوجيا المعرفة بين القول والقائل ، لا تقول لنا شيئا بخصوص مقدار الصدق فى القول ، لأن الكيفية التى ينشأ بها قول ما،لا تؤثر على صحته وصدقه وسواء كان القول فى طبيعته وفى حد ذاته ليبراليا أو محافظا فإن هذه الصفة فيه لا تحمل أى دليل على صحته وصدقه (12 ) ، بتعبير آخر  بعد أن يواجه المرء نظاما كاملا من وجهات النظر فى العلوم الاجتماعية من الضرورى والكافى تحديد المجموعة التى تنشأ منها ، وإذا  ثبت أن منظومتين من وجهات النظر المتماثلة  نشأت فى مجموعات ، فمن غير الصحيح  مقارنتها ببعضها البعض والبحث عن الحقيقة ، يصبح كل نظام من وجهات النظر على مستوى واحد من أنظمة الآراء الأخرى ، إن لها قيمة ..فقط فى حدود منظومة المسلمات المعطاة والتى تشكل أساس ” وعى المجموعة ” ، ما يظهر لدينا هنا هو نسبوية Relativism  ، ولكنها نسبوية من نوع خاص ، يمكن للمرء أن يطلق عليها ” النسبوية السوسيولوجية ” يكمن دورها فى حقيقة أنها تفسر وضع مجموعات الحقيقة على مستوى واحد بواقع وجود مجموعات مختلفة فى المجتمع .

لقد أكد مانهايم على التوجيه الاجتماعى للأفكار ، فالفرد حسب مانهايم عندما يجد نفسه محكوما بظروف جاهزة وسابقة على وجوده ، بالتالى فهذه الظروف فى سياقها الاجتماعى والتاريخى تحدد نمطية المعرفة لدى أفراد المجتمع ، كما ركز مانهايم على دراسة  العلاقة بين المجتمع والعلم .

الإبستمولوجيا والسوسيولوجيا

ربط مانهايم بين الإبستمولوجيا والسوسيولوجيا فإذا كانت الإبستمولوجيا هى تفكير فى المعرفة العلمية ، فلا توجد معرفة علمية من دون دورة انتاجية ، وتتحدد الدورة الانتاجية للمعرفة العلمية بواسطة ذات الباحث من جهة وبواسطة الموضوع المعطى من جهة أخرى ، وحسب الاتجاه المعرفى الذى تنخرط فيه الدورة الانتاجية للمعرفة العلمية يكون الموضوع المعطى ، أما العلامات الخارجية التى يراها الباحث ويشاهدها ويلاحظها ويشعر بها خارج الموضوع ، وأما ماهية الموضوع  وكنهه وحقيقته التى تجر الباحث إلى معرفة ما يكمن فيه من حقائق داخل الموضوع ، وتضبط العمليات فى الدورة الانتاجية لصناعة المعرفة عن طريق العلاقات والروابط المتبادلة بين عقل الباحث وبين حواسه من جهة ، وبين الباحث والموضوع من جهة ثانية، وبين ما تنتجه العلاقات والروابط المتبادلة بين عقل الباحث وبين حواسه وبين الباحث والموضوع وبين مؤسسة العلم من جهة ثالثة .

إن الانتاج الاجتماعى لايقوم فقط بالتأثير على الإدراك ، ويخدم فيما يتعلق به ، كأحد ” العوامل الخارجية ” أنه أساس المعرفة وقوتها الدافعة الحقيقية ،والمصدر النهائى لأى مصلحة فى السعى إلى الاستكشاف ، إن آفاق الفضول الإنسانى البيولوجى محددة تاريخيا ، وهى أوسع من تلك التى يشملها المفهوم البيولوجى عن ” البيئة ” وهى فى نفس الوقت محددة بدقة بقدر ما يتفاعل الناس عند اكتسابهم للمعرفة ، فقط تلك المجالات من الواقع التى تشارك بشكل مباشر أو من خلال سلسلة طويلة من التوسطات فى منظومة نشاطات المجتمع العملية الموضوعية ( 13)

إن سوسيولوجيا مانهايم تقوم على وضع العقل داخل الظواهر المجتمعية ( والنظر إليها على أنها كليات ) وبما أن الظواهر المجتمعية تختلف فى كل مرة عند الإنتقال من ظاهرة إلى أخرى ، ومن مجتمع إلى أخر  ومن خصوصية مجتمعية إلى خصوصية مجتمعية أخرى، ومن محسوس مجتمعى إلى محسوس مجتمعى آخر، ومن فعل مجتمعى إلى فعل مجتمعى آخر ، فيعنى ذلك أن الخصوصية ، خصوصية الشئ كموضوع  تضرب فى جذور طبيعة المنهج ، وبما أن المنهج لا يوجد ولا يظهر، ولا يمكن أن يستخرج إلا بعد حضور الموضوع وقيامه إزاء ذات الباحث فى ترك الموضوع يتجلى فيها ( فى ذات الباحث ) بكل هذه الأسباب تعنى السوسيولوجيا ( سوسيولوجيا الموضوع- فى خصوصيته الكامنة فى فهمه )، وعليه تمثل لحظة التعرف إلى السوسيولوجيا ، لحظة تالية للحظة معرفة الموضوع ، لأن ذات الباحث تقدم على أنها من موضوع البحث وفيه من جهة ، ومن جهة أخرى تعتبر لحظة التعرف إلى السوسيولوجيا لحظة تسبق لحظة التعرف إلى المنهج ، لأن العقل فى المنهج يجيب عن التساؤل كيف أبحث فى الموضوع بعديا، أى اللحظة التى فيها يتعرف العقل على الموضوع والعلم ) ( 14)

إذن ليس ثمة خلاف على أن تطور المعرفة العلمية يرتبط بنسق العلاقات الإرتباطية بين فلسفة العلم وسوسيولوجيا العلم ، وتاريخ العلم والإبستمولوجيا ، حيث نجد أن فلسفة العلم تثير التساؤلات ، وتحدد مناهج البحث لها ، وتمدنا برؤية نقدية لفهم التقدم، ويقدم تاريخ العلم فهما لمراحل تطور هذه التساؤلات، وحالة المعرفة العلمية الراهنة ، وكيف حدثت الانقطاعات وفقا لآلية التصحيح أو التفنيد، أما الإبستمولوجيا فتقدم الأدوات العقلية والوسائل اللازمة لإرادة العمليات العقلية للوصف والتحليل واختبار الواقع والتفسير، وتمدنا سوسيولوجيا المعرفة العلمية بأدوات لفهم الشروط الاجتماعية الملائمة لإنجاز العلم ، وكيف تتأثر هذه الشروط مرة أخرى بالمنتج العلمى، غير أن العلاقة بين الإبستمولوجيا وسوسيولوجيا العالم تحتاج إلى مزيد من البحث وهى العلاقة التى ظلت تقريبا خارج اهتمامات الميدانيين على السواء ، فكلاهما اكتفى بوضع مبادئ عامة لهذه العلاقة ، وعلى الرغم من أن جورج غيرفيتش أثبت ضرورة العلاقة بين الفلسفة وعلم اجتماع المعرفة ، فهو قد وضع أمام المهتمين بهذه العلاقة عقبة تمنع محاولة التطوير .

فى هذا الصدد يقول جورج غيرفيتش *: ” فى كتابه ” الأطر الاجتماعية للمعرفة” ” إنه لايجوز أبدا لعالم اجتماع المعرفة أن يطرح مسألة صلاحية  وقيمة الإشارات والرموز والمدارك والأفكار والأحكام التى يصادفها فى الواقع الاجتماعى المدروس”  ( 15)

كما أنه يرفض أن يقوم علم الاجتماع بإبطال المعرفة الزائدة ، وكشفها وتحريرها .

إن غيرفيتش ينتهى إلى أن العلاقة بين السوسيولوجيا والإبستمولوجيا هى علاقة تجاوز وتعاون ،

والحقيقة أن العلاقة بين سوسيولوجيا المعرفة والإبستمولوجيا تتجاوز أفكار غيرفيتش- حيث يذهب إلى أن الباحث فى علم اجتماع المعرفة ينبغى أن يجمع فى شخصية واحدة السوسيولوجيا والفلسفة، وأن يتقن اللغة السوسيولوجية واللغة الفلسفية على حد سواء (16)

إن البحث فى سوسيولوجيا المعرفة ينطلق من الدراسة الإبستمولوجية لا محالة ليصل فى ما بعد  إلى مجال ربط المفاهيم بالواقع المعاش ، أى أن العلاقة بين سوسيولوجيا المعرفة والإبستمولوجيا على الرغم من استقلالهما، فإنه من الضرورى أن يضمهما ميدان دراسة واحد ، وخاصة فى بعض الظروف التاريخية التى تشهد تدهورا فى عمليات انتاج واكتساب المعرفة ، وأن الإرتكان إلى علاقة التجاور يؤدى إلى حجب المنفعة العلمية ، فالإبستمولوجى  لن يفتش بانتظام فى منتجات علم الاجتماع ليكشف مدى صحة فعل المعرفة السوسيولوجية ، وبالمثل فإن السوسيولوجى لن يسأل الإبستمولوجى عن الأفكار التبسيطية التى يقدمها متجاوزا بها الشرط الاجتماعى ، إن المتغير السوسيو ثقافى  يؤثر بالضرورة فى المتغير الإبستمولوجى ، ولأن هذه الحالة نادرة الحدوث فى السياق الغربى المنتج للعلم بسبب أن التنشئة العلمية التى يتلقاها الفرد تحض على التفكير والإبتكار، وتعتمد على تنمية وتطوير المهارات الإبستمولوجية منذ المراحل الأولى للتعليم فمن الطبيعى أن تظل العلاقة السوسيو- إبستمولوجية مهمشة  لا تمثل إشكالية بحثية ، بعكس أهميتها البؤرية بالنسبة إلى سياقنا العربى (17 )

إن الحالة المتدهورة فى الإنتاج العلمى بصفة عامة ترتبط فى جانب منها بضعف الوعى بالشروط الإبستمولوجية المتنوعة فى الانتاج العلمى ، وبالتالى ترتبط باهمال الأسباب السوسيولوجية اللازمة لتطوير هذا الوعى الإبستمولوجى ، والإرتقاء بالنماذج الخطابية لتطوير العلمية  السائدة فى الانتاج العلمى ، وأن هذا الوضع التاريخى هو الداعى إلى ضرورة وجود الحقل السوسيو- ابستمولوجى ، ولا يحتج بأنه لا حاجة إلى مثل هذا الحقل  طالما أن المجال العلمى العربى قادر على تقديم حالات إبداع حقيقية فى كل حقل من حقول المعرفة العلمية ، لأن التطور الذى يلحق بمنظومة العلم لا يعتمد بأى حال على إبداعات إستثنائية مبعثرة ، وإنما يعتمد على الجهد الجمعى فى اكتساب العلم وانتاجه ، ويكون الإبداع الفردى فى هذه الحالة  محفزا للجهد الجمعى ، وليس بديلا منه ، ويمكن وضع تعريف إجرائى مبدئى للعلاقة السوسيو إبستمولوجية- بأنها ” العلاقة الجدلية التى تربط الأبعاد الاجتماعية والأبعاد الإبستمولوجية ، وتكون مقاربة هذه العلاقة بالتحليل النقدى للنص فى كل مرحلة من مراحل تشكله وتطوره ، ثم تصنيفه فى صورة أنواع خطابية ، ثم محاولة الكشف عن الشروط السوسيولوجية التى أدت لوجود هذه الأنواع (18)

ويمكن القول أن نظرية المعرفة الاجتماعية هى مجموعة واسعة من المناهج التى يمكن اتخاذها فى دراسة المعرفة البشرية على أنها انجاز جماعى ، وهناك طريقة أخرى لتوصيف المعرفة الاجتماعية هى تقييم الأبعاد الاجتماعية للمعرفة أو المعلومات أحيانا ويتم تبسيطها لتعنى تبريرا اجتماعيا للإيمان .

إن أحدى الصعوبات التى تواجه تعريف نظرية المعرفة الاجتماعية  التى تنشأ هى محاولة تحديد معنى كلمة ” المعرفة ” فى هذا السياق ، هناك أيضا تحد فى الوصول إلى تعريف ” اجتماعى ” يرضى الأكاديميين من مختلف التخصصات ، قد يوجد علماء المعرفة الاجتماعية يعملون فى العديد من تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية الأكثر شيوعا فى الفلسفة وعلم الاجتماع ، بالإضافة إلى تمييز حركة متميزة فى المعرفة التقليدية والتحليلية ، ترتبط المعرفة الاجتماعية بالمجال متعدد التخصصات لدراسات العلوم والتكنولوجيا

وفى القرن العشرين وتحديدا عام 1936 حول كارل مانهايم نظرية ماركس  عن الأيديولوجية ( التى فسرت الجانب الاجتماعى فى نظرية المعرفة على أنها ذات طبيعة سياسية أو اجتماعية إلى تحليل لكيفية تطور المجتمع البشرى  ووظائفه فى هذا الصدد ، وكان الفيلسوف البرجماتى شارلز بيرس 1914 قد أشار إلى الحاجة إلى نظرية المعرفة الاجتماعية ، لإعادة الاتصال بالقضايا الأكبر لانتاج المعرفة التى حددها بيرس على أنها الاقتصاد المعرفى، ويمكن تتبع الرؤية الأساسية للمعرفة التى حفزت ظهور نظرية المعرفة الاجتماعية كما ينظر إليها اليوم إلى أعمال توماس كون 1996وميشيل فوكو 1984، والتى اكتسبت اعترافا فى نهاية الستينات ، وكلاهما أثار مخاوف تاريخية مباشرة على المشاكل المرتبطة لفترة طويلة بفلسفة العلم ، ولعل القضية الأبرز هنا هى طبيعة الحقيقة التى وصفها كل من كون وفوكو بأنها فكرة نسبية ومحتملة على هذه الخلفية، كان العمل المستمر فى علم اجتماع المعرفة العلمية وتاريخ وفلسفة العلوم قادرا على تأكيد عواقبه المعرفية .

ولو عدنا تاريخيا سنجد أن النظر فى الأبعاد الاجتماعية للمعرفة بدأ فيما يتعلق بالفلسفةعام 380 قبل الميلاد وهو ما يبدو فى حوار أفلاطون : شارميديس، ويتساءل فيه عن درجة اليقين التى يمكن أن تكون غير مهنية فى مجال ما تجاه إدعاء الشخص بأنه متخصص فى نفس المجال ، بما أن استكشاف الاعتماد على شخصيات موثوقة يشكل جزءا من دراسة نظرية المعرفة الاجتماعية ، فإنه يؤكد وجود الأيديولوجية  فى العقول قبل أن يتم تسميتها بوقت طويل ، وقد كان مانهايم يرى أن التفسير هو الأساس فى موضوع العلم ، وقد طبق مانهايم المعنى الضمنى للتفسير فى المعرفة، لكنه لم يقدم تقييما شاملا لما تعتبره معرفة بالنسبة للبحث الفيزيقى، وتعتبر اللغة ليست مجرد كلمات مجردة ،ولكنها ممارسة اجتماعية وتشكل هدفا أمبريقيا  لدراسة علم اجتماع المعرفة ( 19)

وتشير مقولة تفسير المعرفة عند مانهايم إلى المعالجة العلمية البحتة للقضايا الثقافية ، وتتضمن الفرضية الأساسية عنده أن كل الأشياء لايمكن معالجتها  من خلال مناهج العلم الطبيعى ، وقد استخدم مانهايم فكرة ” التحليلات البنائية ” وطبقها على موضوعات تاريخية ، فهو يرى أن هذه النظرية تعتبر الفن والفعل الاجتماعى  والسياسى  بمثابة أشياء غير عقلانية نشعر بها ولا نستطيع تحليلها .

وقد تطورت مناهج دراسة علم اجتماع المعرفة على يد مانهايم عندما استخدم مناهج العلوم الطبيعية  فى بعض الموضوعات بالرغم من تناقض مفاهيم الثبات فى العلم الطبيعى والرياضيات مع مفاهيم الدينامية  فى التاريخ والعلوم الاجتماعية ، ويؤكد مانهايم على أهمية المنظور الجشطلتى* ( الكلى ) فى فهم العقل الاجتماعى ، فنحن لا نفهم الجزء بدون فهم الكل ، ولكى نفهم فعل لشخص ما يجب أن يكون لدينا منظور واسع نرى من خلاله الناس ككل (20 )

ويعتمد علم اجتماع المعرفة عند مانهايم على التمييز بين منهجين مستندين على التحليل الاجتماعى  ومؤديين إلى الانتاج العقلى وهما : منهج التحليل الداخلى ، ومنهج التفسير الخارجى بحيث يعتمد الأول على الوعى العقلى الذى يساعد على فهم الانتاج العقلى ، ويعتمد الثانى على ظاهرية الانتاج العقلى لكى يصل إلى قوة العقل الواقعية ليحدد درجة الحتمية ويضعها على سلم الانتاج العقلى ، حيث تعامل مانهايم مع المنهجين ، ولكن تعامله لم يكن بنفس الدرجة ، بل ركز على منهج التفسير الخارجى أكثر من الداخلى لاعتقاده بأن العارف إذا أراد فهم الواقع عليه أن يدرس ظاهره لكى يصل إلى جوهره وليس العكس ، إذ يرى أن الإنسان لا يقف خلف الظاهرة ،لأنها حقيقة مستمرة فى الوجود وملتصقة بديمومة الحياة.

وقد استخدم مانهايم المنهج التطورى الإرتقائى* الذى يدرس العناصر الثقافية فى دراسته للمعرفة الاجتماعية

لكى يصل إلى صياغة قانون التغيير الذى يتحكم بصيرورة التغير ، كما استخدم *المنهج العضوى الأفقى الذى يدرس الوظيفة الأساسية بين عناصر الثقافة من أجل أن يصل إلى غايات الثقافة دون استخدام رموزها ومعانيها ، وهو ما عرضه للإنتقادات ، وأشهرها أنه أهمل دراسة التفاعلات الداخلية للأحداث الاجتماعية.

سوسيولوجيا المعرفة بين المنهج والنظرية:

تعتبر سوسيولوجيا المعرفة نظرية من جانب ، ومنهج تاريخى فى البحث من جهة أخرى، وهى بصفتها نظرية تتخذ شكلين بحيث يكون الشكل الأول بحثا تجريبيا صرفا قائما على الوصف والتحليل البنيوى للأساليب التى تتأثر بها العلاقات الاجتماعية تأثيرا  فعليا على الفكر، وبعد ذلك قد تتحول سوسيولوجيا المعرفة إلى الشكل الثانى وتصبح تحقيقا فى نظرية المعرفة ، وتهتم فلسفة العلوم بهذه العلاقة المتبادلة بين الوضع الاجتماعى والفكر، ومن المهم أن نلاحظ أن هذين النمطين ( البحث من جانب والتحقيق من جانب آخر ) لا يكونوا مترابطين بالضرورة وأن المرء يمكن أن يتقبل نتائج البحث التجريبى دون أن يبنى عليها استنتاجات خاصة بنظرية المعرفة وفلسفة العلوم(21)

ويمكن القول أن سوسيولوجيا المعرفة عند مانهايم ستحل محل التحقيق الذى تقوم به فلسفة العلوم ، وتقوم به فلسفة الفكر، وأن نظرية المعرفة قد توصلت إلى اكتشافات معينة لها أكثر من مجرد صلة واقعية بالمعرفة وهى اكتشافات لا يمكن معالجتها  بشكل كافى إلا إذا أعيد النظر فى بعض التصورات والتحيزات الموجودة فى فلسفة العلوم ، ولهذا أكد مانهايم على الطابع الاجتماعى للمعرفة فى مقابل التفسيرات الفلسفية والميتافيزيقية التى قدمها سابقوه ، وأنه بهذا الجهد دفع بالنظرية السوسيولوجية إلى آفاق جديدة مع تأثره بمن قبله .

ويمكن القول أيضا أن سوسيولوجيا المعرفة عند مانهايم هى نظرية تجريبية قائمة على الملاحظة والاختبار بشأن العلاقات الفعلية بين المعرفة والوضع الاجتماعى ، ولاتكون فلسفة من أجل الفلسفة أو أنها مهتمة بدراسة المجردات فقط ، بل إنها فلسفة اجتماعية فى المقام الأول ،تقوم على دراسة المشكلات الاجتماعية العملية ولم تكن فلسفة مثالية بحتة ، فعلم اجتماع المعرفة هو علما مكملا للإبستمولوجيا ومصححا لوجهات النظر التقليدية  فى المعرفة ، فهو يبحث فى الإنسان الاجتماعى وليس المجرد ، ويرفض النظريات القديمة والميتافيزيقية ، والتفسيرات النظرية القديمة التى قامت بتفسير النظريات المعرفية الأخرى وقام بنقدها فى ثوب جديد .

إن الفكر البشرى عند مانهايم لايعمل فى فراغ اجتماعى، ولكن فى بيئة اجتماعية محددة ، وقد ارتبطت مقولة المعرفة عند مانهايم بممارسة التفكير أو الإدراك لكنه حاول أن  يتجنب التحول السيكولوجى لفكر الفرد حيث يقصد هنا ” أسلوب الفكر ” فالفرد يتعلم من خلال جماعته ، وقد تعامل مانهايم مع نموذج المعرفة باعتبارها أساسيات اجتماعية وتظهر اجتماعية المعرفة عن طريقين هى أنها تقدم فى مجتمع تتم فيه عملية التنشئة الاجتماعية ، وتعد المعرفة أيضا مصدر مشاركة الأعضاء فى المجتمع حيث تعطى الفرد الدراية الفكرية الذاتية لجماعته الاجتماعية لكن ما هو موروث لا يعد مضمونا معرفيا خالصا، ويتمثل الأساس الاجتماعى للمعرفة فى بعض المقولات التى تساعدنا على إدراك أو فهم العالم ( 22)

وقد حدد مانهايم أربعة مبادئ لعلم اجتماع المعرفة على النحو التالى (23):

المبدأ الأول: أن علم اجتماع المعرفة ليس كالفلسفة ، إذ أن الفلسفة تبدأ من دراسة الفرد الواحد وأفكاره ثم تنتقل إلى البحث فى القيم التجريدية إلا أن علم اجتماع المعرفة يسعى لفهم البيئة الاجتماعية فى إطارها التاريخى الذى يعبر عن التطور التدريجى للفكر.

المبدأ الثانى : علم اجتماع المعرفة لا يفصل الفكر عن سياقه الاجتماعى الذى نشأ فيه إذ يقول : ” النشاط الجماعى هو ذاته الخيط المرشد الذى ينبثق منه مشاكلهم ومفاهيمهم وأنماطهم الفكرية .

المبدأ الثالث: العوامل الاجتماعية تساهم فى تفسير هيمنة أنماط فكرية فى المجتمع دون غيرها .

المبدأ الرابع : التقسيم الطبقى فى المجتمع يبين أن لكل طبقة اجتماعية نظام تفكير، يختلف عن الطبقة الأخرى .

إن الجديد فى فلسفة مانهايم أنه جعل للفكر طابعا اجتماعيا خالصا لا عقليا فقط ، وأعطى للفرد مكانة بين أقرانه لأنه هو من يصنع الفكر، ويعمل به ليستفيد منه باقى أفراد عصره ، وقد جمع مانهايم فى فلسفته بين المثالية والواقعية ، فقد اهتم بدراسة  المشكلات الواقعية العملية الملموسة فى المجتمع، وعمل على ايجاد حل لها ، ولم يدرس المعرفة من ناحية مثالية بحتة ، ولم يعتبرها نظرية فلسفية فقط ، بل درسها وناقشها بطريقة احتماعية  وعملية ،وذلك من خلال ربطه بينها وبين حياة الفرد وعقله وتفكيره ، فجعل لها دور ووظيفة إنسانية تخدم الإنسان الفرد ، وتجعله قادرا على حل مشكلاته الواقعية ، فهو بحق فيلسوف المعرفة الواقعية .

إن جميع الأفكارعند مانهايم تتأثر بالوضع الاجتماعى والتاريخى الذى نشأت فيه، لهذا يصف علم اجتماع المعرفة بأنه نظرية لاخضاع الوجود الاجتماعى والتاريخى للتفكير، وبذلك فقد ربط جميع الأفكار بمكان وجودها الاجتماعى وزمانه بحيث نجد أن جماعة اجتماعية معينة فى زمان معين تتوفر لها مقدرة أكثر من غيرها على فهم المظاهر الاجتماعية إلا أنه يقرر استحالة وجود جماعة تستطيع أن تدعى وصولها إلى الفهم الكامل .

إن المعرفة عند مانهايم هى ظاهرة اجتماعية، فإذا كانت المعرفة هى معرفة الواقع أو الوجود عموما فقد اعتمدت الفلسفة خلال تاريخها الطويل على أن المعرفة عملية عقلية بحتة لا دور للأطر الاجتماعية فيها ،

ولذلك كانت تبحث دائما فى ملكة العقل من حيث هى المنتجة لتلك المعرفة ، وقد أدى هذا البحث إلى انقسامها إلى مذاهب ومدارس يحاول كلا منها تحديد طبيعة المعرفة ، فلم تعد دراسة ماهية المعرفة ومفاهيمها مسألة فلسفية بحتة  بقدر ما أصبحت مسألة اجتماعية ، وأصبح للمعرفة أصول وبيان اجتماعى بحيث ظهرت دراسة العوامل الاجتماعية للمعرفة بدلا من المنبع الفلسفى العقلى (24)

وهكذا بدأت عملية البحث عن الأبعاد الاجتماعية للمعرفة تأخذ دورها فى الدراسات الاجتماعية والعلمية والفلسفية والسياسية ومختلف العلوم الإنسانية ، وكل هذا أدى إلى اتساع رقعة موضوعات علم اجتماع المعرفة ، بحيث أصبحت تشمل العلاقة بين الأطر الاجتماعية والمعرفة .

وبذلك يشير مصطلح ” المعرفة ” عند علماء الاجتماع  إلى كل نمط فكرى يمتد مداه من المعتقد الشعبى إلى العلم الوضعى، وهذا العلم يهدف عند مانهايم إلى تقييم الجذور الاجتماعية للمعرفة ، ويعمل على تحرير المعنى والوعى من تبعيتهما للبناء التحتى ومناقشة العلاقة الجدلية بين الفكر والمعانى والوعى بالبناء الاجتماعى والواقع الاجتماعى، فالمعرفة وسيلة تكيف الإنسان مع محيطه وفى الوقت نفسه تكييف هذا المحيط بما يتناسب مع حاجاته وأغراضة، ولأن هذا المحيط البيئى متغير فلا بد نتيجة العلاقة الجدلية مع تغير مواز فى المعرفة (25)

ولو رجعنا إلى جذور هذا العلم أو الإرهاصات الأولى فى تأسيس هذا العلم سنجد  أنها بدأ عند الفيلسوف الإنجليزى فرنسيس بيكون ( 1626) الذى وضع الخطوط العامة لهذا العلم وهو ما يتضح من قوله ” إن الطبيعة تفرض على العقل انطباعات عدة عن طريق السن والنوع والوطن أو الأقليم والصحة والمرض والجمال والقبح وما شابه ذلك من أمور فطرية وغير خارجية ، وأيضا عن طريق بعض الأمور التى تسببها العوامل الخارجية العبودية والثراء والرغبة والحرية والانعزالية والرخاء  والمحن وما إليها .

وقد أكد أوجست كونت ” على العلاقة الوثيقة بين أشكال البناءات الاجتماعية  وأنماط المعرفة ” (26)

ويرى أن تطور المجتمعات الإنسانية تكون واحدة وكامنة فى صميم طبيعة الإنسان ، ومن ثم نجد مجتمعات إنسانية تمر بمرحلة تطور اجتازتها مجتمعات أخرى  منذ قرون ، يقول كونت ” الظروف الراهنة للجنس البشرى توجد كل درجات الحضارة فى مناطق مختلفة ، من البدائيين فى نيوزيلنده إلى المتحضرين الفرنسيين والإنجليز ….الخ ” ( 27),

ومن ثم يتكلم كونت عن حضارة  إنسانية وتطور العقل الإنسانى ومراحل تطور المجتمع ، ويحدد مراحل هذا التطور ويربطها بتطور الفكر ونوع المعرفة السائدة  فى المجتمع ، فوحدة التحليل عنده هى المجتمع الإنسانى الواحد والحضارة الإنسانية الواحدة والعقل الإنسانى الواحد والعنصر الحاكم والمحورى فى عملية التقدم هو العقل : الفكر والمعرفة ، يرتبط به وينسق معه ما ينتج عنه من تطور اجتماعى ( اقتصادى- سياسي -ثقافى )

يقول كونت ” كل مفهوماتنا ، كل فرع من فروع معرفتنا تمر على التوالى بثلاث حالات مختلفة ..اللاهوتية …الميتافيزيقية أو المجردة ، والعلمية أو الوضعية ، فى المرحلة اللاهوتية يبحث العقل الإنسانى عن الطبيعة الجوهرية للكائنات ، معتقدا أن كل الظاهرات تنتج من الفعل المباشر لقوى مافوق الطبيعة ، أما المرحلة الميتافيزيقية يفترض العقل قوى مجردة قادرة على انتاج كل الظاهرات ، وأخيرا المرحلة الوضعية حين يتجاوز العقل مراحل البحث العشوائى وراء أفكار مطلقة عن أصل ومصير العالم وعلل الظواهر، ويغلب على دراسة قوانينها( 28)

وبذلك ربط كونت بين المعرفة والأنساق الاجتماعية الأخرى ، وبذلك أصل المعرفة فى الوجود الاجتماعى ، ولو أنه أعطى السبق للعقل فى إطار الكل الاجتماعى المتغير، أى أنه يربط بوضوح بين بنية الفكر وبنية المجتمع ، بين نسق المعرفة السائد والنظام الاجتماعى ، بين مرحلة التطور الفكرى ونوع التنظيم الاجتماعى كما يعلل التفكك الاجتماعى بالميوعة الفكرية والفوضى الثقافية ، وهو ما أكد عليه مانهايم فى القرن العشرين، فإرتباط الفكر بالوجود الاجتماعى وإرتباط تطور العقل بتطور الظروف الاجتماعية هو إرتباط عضوى ، وينعقد هذا الرباط فى كل مرحلة إلى أن يحين زمان التغيير فيسبق العقل إلى التطور ويبدأ الفكر فى التحول ، ومن ثم تأتى مرحلة مخاض اجتماعى حرجة تعقبها ولادة تنظيم اجتماعى جديد يحشد نسق الأفكار والمعتقدات الجديدة ويتناغم مع المجتمع .

ولكن لابد أن نشير هنا سبق العلامة العربى عبد الرحمن ابن خلدون إلى تفسير عوامل تقدم المعرفة وإرتباطها بالشكل الاجتماعى ، فيعود ابن خلدون إلى نماذج من التاريخ ليس  انطلاقا من الحلم بعودة حقبة تاريخية معينة بل ليجد تفسير الواقع والأحداث وفقا لمنهج عقلانى يكشف أسباب التقدم وأسباب التأخر وقوانين التطور ، فالمعرفة والفكر عنده  مرتبطان مع بعضهما البعض فى علاقة جدلية تؤدى إلى إرتقاء  الفكر وتطور الواقع .

لقد اعطى ابن خلدون المعرفة طابعا بنيويا وتراكميا وارجعها إلى موضعها فى حركة الأشكال لمجتمعية ( 29)

و إذا كان مانهايم قد نجح فى علم اجتماع المعرفة كنظرية للشروط الاجتماعية للمعرفة واعتمدها آداة فى التحليل وفق منظور العلم الاجتماعى ،فإن ابن خلدون قد اكتشف هذه النظرية قبله وبنى دراسته فى المقدمة على أساسها من تحليل للتاريخ والاجتماع الإنسانى إلى إعطاءه معانى قواعد اجتماع المعرفة بمتضمناتها الاجتماعية والسياسية والعلمية ، وهذا الأمر يتجلى بوضوح حينما نناقش معارف العالم القديم مع انتاج ابن خلدون الاجتماعى (30 )

كما وقف ابن خلدون بعلمه أمام أرسطو من جانب تحويره للمنطق الأرسطى وإيمانه بجوهر المنطق لا بشكله ، فناسب ” ابن خلدون ” بين الفكر والواقع وظهر بمنطق جدلى أساسه المجتمع وليس الشكل الذهنى، ومن ثم خلص إلى قاعدة التناسب فى اجتماع المعرفة (31 )

وفى محاولته بناءعلم اجتماع المعرفة أختار مانهايم التركيز على بناء الفكر وأنماطه فى علاقتها التبادلية والجدلية بالبناء الاجتماعى ، وجعل من هذه العلاقة التعبير عن الحقيقة التاريخية ، فالبناءات الفكرية للجماعة  تعبر عن تصورها للحقيقة الاجتماعية  فى الوقت الذى ترتبط فيها هذه الأفكار والتصورات بالواقع الاجتماعى للجماعة، وينسحب هذا الربط بين البناءات الفكرية والواقع الاجتماعى ليشمل صحة ومصداقية المعرفة (32 )

ومن هذه الظروف بروز النسبية فى ميدان علم الفيزياء على يد اينشتاين  وتعميمها على ميادين المعرفة والمجتمع بالإضافة إلى بروز العقلانية فى عصر الأنوار، وما نتج عنها من تبدل أساسى طرأ على نظام القيم السائدة ، وبالنسبة لمانهايم لو ظهرت تلك الظروف فى عصور سابقة لكانت الدراسات الاجتماعية للمعرفة قد ظهرت منذ تلك العصور ( 33)

يرى مانهايم أن نظرية النسبية أحدثت أثرا قويا فى العلوم الاجتماعية  يقول : ” إن الفكر والمعرفة يتقرران فى الأوضاع الاجتماعية التاريخية فإننا فى حقيقة الأمر ندعى بأن كل مرحلة تاريخية لا بل كل جماعة إنسانية تعيش فى عالم من الآراء والأفكار والتى تختلف  وأحيانا تتناقض مع نظم التفكير لدى الجماعات الأخرى ، وهذه النظم المختلفة من التفكير تلخص وتختزل أنماطا مختلفة من التجارب المعاشية العملية فى نفس الواقع الواحد ( 34)

إن كل مرحلة تاريخية تعيد كتابة التاريخ حسب منظورها ودرجة نموها والمصالح السائدة فيها ، فالأمم المختلفة تنظر إلى الأشياء بطرق مختلفة وكذلك الجماعات والطبقات فى المجتمع الواحد تنظر إلى الأمور بطرق مختلفة يسميها  مانهايم طرق التفكير

مجالات المعرفة عند مانهايم :

ميز مانهايم بين نوعين من المعرفة :

 الأول: وهى المعرفة التى تستمد من البيانات العلمية

والثانى : المعرفة القائمة على الطبقة مثل الأشكال الدينية والفلسفية والتقليدية للمعرفة، وكان لكلا من سلفه من أمثال ” ماكس فيبر  وجورج لوكاش ” المعاصرين تأثيرا قويا على عمل مانهايم ( 35)

إن مانهايم ذكر فى كتابه الأيديولوجيا واليوتوبيا أن سوسيولوجيا المعرفة ألزمت نفسها بواجب ايجاد حل لمشكلة التأثير الاجتماعى فى المعرفة، وذلك بواسطة الاعتراف بوجود هذه العلاقات وإدخالها فى أفق العلم نفسه ثم استعمالها كضوابط لنتائج البحث وطالما بقيت التوقعات الخاصة بتأثير الخلفية الاجتماعية غامضة ومغلوطة ومبالغ فيها ، فإن على سوسيولوجيا المعرفة أن تختصر النتائج المستمدة من تلك التوقعات بحيث لا يبقى منها إلا الحقائق التى يمكن إثباتها والدفاع عنها ، وبهذا تزداد سوسيولوجيا المعرفة اقترابا من السيطرة المنهجية على المشاكل التى تكون قيد البحث ( 36)

وذهب مانهايم إلى أن تفسير الموضوعات الثقافية يجب أن يتم ” من أعلى ” طالما أن الصورة الفنية ليست إلا واحدة من المقومات المجردة للمحتوى الروحى ، وأن تفسير الجزء المجرد لا يكون ممكنا وله ما يبرره إلا إذا انطلق بداية من الكل ، والحقيقة كان هذا المبدأ المنهجى هو ما عزل علم الاجتماع الذى قدمه مانهايم عن التراث الوضعى ، ومن هنا تقبلت منهجية البحث فى علم اجتماع المعرفة عند مانهايم العلوم الوضعية قبولا جزئيا وغير كامل ( 37)

فالمنهج الميكانيكى الذى يفتت الكل إلى وحدات جزئية ودقيقة لا يتلاءم فى نظر مانهايم مع العلوم الاجتماعية ، كما أن المفاهيم الثابتة عن العلم الطبيعى والرياضيات تتعارض مع المفاهيم الدينامية للعلوم الاجتماعية والتاريخية .

إن العلم الاجتماعى يشتمل على دراسة معانى خبرة وتجربة الأفراد الذين يكونون موضوع الدراسة، أما العلوم الطبيعية لا تواجه بمثل هذه المشكلة ، فالذرات مثلا لا تأخذ هذه المعانى حين تجرى عليها التجارب

الذرية ، وفى مقابل رفض مانهايم للمنهج الوضعى فقد أكد على المدخل الجشطلتى  لفهم العقل ، فهو يرى أننا لن نفهم الجزء ما لم نفهم الكل ، ولذلك لكى نفهم فعل الفرد فعلينا أن نتبنى مدخلا يضع فى اعتباره وجهة النظر الإنسانية الكلية ،إن استشراف العالم ككل مسألة ضرورية إذا أراد الفرد أن يفهم فعل أى جزء من العالم ومن خلال هذه النظرة نستطيع أن نبدأ بدراسة مسلمات ومبادئ الجماعات المتصارعة فى العالم كما يستطيع أن نتتبعها لنتعرف على طبيعة وأهداف الجماعات التى تتمسك بها ( 38 )

مانهايم ونسبية المعرفة :

مثلت مشكلة النسبية فى الكتابات المبكرة لمانهايم المشكلة الرئيسية لعلم اجتماع المعرفة لأنها هى التى تضع فى تصوره حدود علم اجتماع المعرفة ذاته ، وكان الحل فى تصور مانهايم هو التمييز بين النسبية ( بمعنى أن تنسب كل الأفكار إلى موقف ما ) وبين الإرتباطية ( وهى تعنى أن الأفكار وإن ارتبطت بسياقات معينة لا يحكم ببطلانها من منظور الصدق والكذب )،غير أن مانهايم ينتهى إلى الأخذ بمنظور تاريخى هيجلى مفاده أنه وإن كان علم اجتماع المعرفة يربط الأشكال المختلفة للفكر بمواقف اجتماعية معينة ،إلا أن صدق محتوى المنظورات المختلفة يكمن فى إرتباطها بحقيق تاريخية ، ومن ثم يستخلص الخطأ والزيف فى المنظورات المختلفة عن نطاق التاريخ لتصبح مهمة أساسية يضطلع بها المثقفون ، وتفاديا للنسبية التى تتضمنها هذه الصياغات السابقة ( 39)

لقد طور مانهايم منهجا للتحليل يربط بين المعنى التوثيقى للأشكال والصور الثقافية بكل من السياق التاريخى والاجتماعى وبالوحدة الداخلية للكل ذاته ، كما اقترح مانهايم حلا تاريخيا أى تصورا ديناميا للحقيقة كمستوى مطلق عن طريقه يمكن الحكم على مدى ثبات المنظورات المختلفة وصدقها، وتبنى مانهايم مفهوم الشمول ” الكل ” وذهب إلى أنه على الرغم من إرتباط الأشكال المختلفة للمعرفة بمواقع اجتماعية مختلفة ،إلا أن أى منظور جديد يظهر فى مجرى التطور التاريخى يحتوى فى الواقع على أفكار جديدة لها قيمتها بالنسبة للحقيقة والواقع التاريخى .

إن مانهايم يلجأ إلى مقولة الكلية ولديه إشارات عديدة إلى مفهوم الحالة الكلية  فيقول ” نريد معرفة أكثر شمولية بالشئ ، وهو بذلك يقيم الجدل ضد الوضعية التى تمجد الفلسفة بينما هى تبعدها عن ثمار البحث التجريبى وبالتالى تتجنب مشكلة الكل” ( 40)

ويقول فى موضع أخر ” يجب أن نجد نقطة انطلاق مسلم بها أكثر أساسية ، موقعا يكون ممكنا انطلاقا منه تركيب الحالة الكلية فقط عندما نكون واعين تماما بالمجال الضيق لكل وجهة نظر تكون على الطريق إلى المفهوم المنشود للكل ” ( 41)  

ويتكلم مانهايم عن السعى إلى نظرة كلية ” أن يرى المرء نفسه فى سياق الكل يمثل بصورة مصغرة للدافع المتسع على الدوام باتجاه مفهوم كلى وليس مفهوم مانهايم للكلية مطلقا متعاليا ، لكنه يلعب نفس دور المتعالى على وجهة النظر الخاصة ( 42)

ومن ناحية أخرى لم ينجح مانهايم فى تقديم حل مقنع بالنسبة لمشكلة النسبية التى تمثل المشكلة الرئيسة فى علم اجتماع المعرفة فمنهجه فى الإرتباطية ليس حلا ، وإنما طريقة لتجنبها ، فالإرتباطية حسب تعريفه ” لا توصلنا ( وربما لا تساعدنا ) إلى ايجاد العلاقة السببية بين الفكر والواقع ، وكل ما نستطيع قوله باستخدام منهج مانهايم هو أن هناك ترابطا بين الفكر والواقع الذى تولدت فيه، وهذا لا يتعدى التقرير الوصفى لهذه العلاقة فليس لدينا الدليل الكافى لكى نقول بأن واقعا اجتماعيا بمواصفات معينة سينتج آراء ومعتقدات بمواصفات يمكن التنبؤ بها أو استنتاجها ، فالإرتباطية حسب تعريف مانهايم تقع بالفعل فى مصيدة النسبية ولا تتجنبها فإذا كانت الفكرة صحيحة صادقة فهى تعكس الواقع المحدد(43)

بصورة صحيحة وتعبر عنه بصدق فكيف إذن نستطيع التوصل إلى أسس عامة ومعايير مشتركة للصحة والصدق فى الفكر والمعرفة ؟

صحيح أنه لايجوز الحكم على قيم وآراء مرحلة تاريخية أو عصر من العصور من منظور مرحلة لاحقة أو عصر غيره وهو ما يعرف اليوم ” بالمغالطة  التاريخية ، إذ ينبغى أن نقرأ مراحل التاريخ قراءة تزامنية حيث إن الفكر والمعرفة يتغيران ويتحولان  تبعا لما يحدث من تغير فى العلاقات الاجتماعية ، بل إن مانهايم محق فى اعتباره بأن ماهو سياسى أكثر عرضة للتزييف والتحريف الأيديولوجى ، فوجود الفرد فى مجتمع رأسمالى أو مجتمع اشتراكى أو مجتمع مسيحى أو اسلامى سيقرر الكثير من آراء هذا الفرد وقيمه واحكامه سواء علم هذا الفرد أو لم يعلم (44)

يقول مانهايم ” فى الواقع كلما زاد وعى المرء بالإفتراضات المسبقة الكامنة وراء فكره من أجل البحث التجريبى الحق ، إزاداد وضوحا بأن هذا الإجراء التجريبى ( فى العلم الاجتماعى على الأقل )  يمكن تحقيقه فقط على أساس أحكام وتوقعات  وفرضيات ما بعد تجريبية ، وجودية وميتافيزيقية نابعة  منها (45)

إن فكرة الأيديولوجيا يتم تحديدها من خلال المقارنة بين المعرفة الاحتمالية فى سياق معين مع المعرفة غير الاحتمالية فى سياق غير معين ، وأن إمكانية تحقيق هذا الفصل كان موضوع العلم الذى أسسه مانهايم فى الأيديولوجيا واليوتوبيا والذى يتمثل فى أن المعرفة  لها سوسيولوجيا وأنها تكون ناتج سوسيولوجى ولذلك هى احتمالية وهنا تكون المعرفة مثل العلم الطبيعى يفترض أن تكون محايدة موضوعية وفوق القوى المتصارعة فى المجتمع والثقافة(46)

إن النسبية هى من نتاج المنهج السوسيولوجى التاريخى الحديث القائم على الاعتراف بأن كل التفكير التاريخى مرتبط بالمركز الملموس للمفكر فى الحياة ، وتضم النسبية هذا الاستبصار السوسيوجى التاريخى مع نظرية قديمة فى المعرفة تدرك التفاعل بين ظروف الوجود وأنماط الفكر، وكانت تصوغ المعرفة على شكل نماذج أصلية ساكنة متمثلة فى الافتراض القائل أن 4= 2+2 ، بحيث كان هذا النموذج القديم للفكر يعتبر مثل هذا المثال نموذجا لكل الفكر بالضرورة  يرفض كل أشكال المعرفة التى كانت تعتمد على وجهة النظر الذاتية وعلى الوضع الاجتماعى للشخص العارف والتى كانت لذلك مجرد معرفة نسبية(47)

إذن إن النسبية تدين بوجودها للتناقض القائم بيت هذا الاستبصار الذى تم الفوز به حديثا ونظرية المعرفة التى لم تكن تأخذ هذا الاستبصار الجديد فى الحسبان ، وإذا كنا نرغب فى تحرير أنفسنا من هذه النسبية فلابد أن نفهم بمساعدة سوسيولوجيا المعرفة، إن ما يتعارض مع النمط الفكرى الذى يأخذ الوضع الاجتماعى بعين الاعتبار ليس الإبستمولوجيا بأى معنى مطلق ، وإنما هو نمط معين من الإبستمولوجيا سريع الزوال تاريخيا ؟ يقول مانهايم ” إن ظرف عدم عثورنا على حالات مطلقة فى التاريخ يدل على أن التاريخ يكون أبكم وخاليا من المعنى فقط لمن لا يتوقع أن يتعلم منه شيئا ” ، ومن هنا يزودنا مانهايم بالمعايير التى لم يعد ممكنا توفيرها من قبل منهج متعالى أو تجريبى ( 48)

يقول مانهايم ” فى الواقع أن الإبستمولوجيا واقعة فى شراك العملية الاجتماعية تماما مثل تفكيرنا كله وهى لا تتقدم إلا بمقدار ما تسيطر على المضاعفات الناجمة عن التغيرات فى بنية الفكر ” (49)

ويؤكد مانهايم أن الأبحاث العملية والتجريبية بشكل خاص يمكن القيام بها بشكل مستقل تماما لكن الحصول على نتائج نظرية المعرفة من الأبحاث العملية وإن كانت ممكنة إلا أنها لا تعد شيئا يذكر بحيث يمكن أن تعد ضرورية لإكمال البحث العلمى ، وبناء على ذلك فإن علم اجتماع المعرفة  فى البعد العملى كما يراه مانهايم عبارة عن ” نظرية التعين الاجتماعى أو الحياتى للنفكير الواقعى ( 50)

وتبدو هذه النظرية مخالفة لرأى هيجل حيث يكون نمط التفكير فى تطوره التاريخى كتابع لعمل القوانين الثابتة والباطنية للعلم ، أي ينظر إليه بأنه ينطوى على نوع من الديلكتيك الداخلى ، وعلى العكس من ذلك فإن علم اجتماع المعرفة لمانهايم يوضح كيف أن ظهور وصياغة أنواع الفكر يخضع لتأثير عوامل من خارج نطاق العلم أى العوامل الاجتماعية (51)

فالظروف الاجتماعية فى كل مرحلة هى التى تحدد نوع العلم أو نمط التفكير فى تلك المرحلة ، ويرى مانهايم أن هذا الأمر لا يصدق فقط فى مسألة ظهور الأفكار بل إن هذه العوامل الوجودية تترسخ أيضا داخل النموذج ومحتوى الأفكار، وأشهر هذا الرأى النسبية.

إن المعرفة عند مانهايم تمثل الجزء الأكبر من فلسفته لأنه لم يعتبرها معرفة من أجل المعرفة أو معرفة مجردة عن الواقع ومشكلاته ، بل جعلها معرفة واقعية تخص الإنسان وتبحث فى علاقته مع مجتمعه وواقعه الذى يعيش فيه ، فهو ربط بين معرفة الفرد بواقعه وعصره ،ولم يجعله فى حالة عزلة أو اغتراب عن أحداث مجتمعه ومجريات الحياة فهى معرفة علمية وعملية فى نفس الوقت ، إن مانهايم فى حديثه عن المعرفة وعلم اجتماع المعرفة كان يعالج المعرفة بطريقة علمية فلسفية ، كانت المعرفة عنده معرفة علمية اجتماعية بناءة تسعى لحل مشكلات الفرد بينه وبين العصر الذى يعيش فيه معتمدا على المجتمع والجماعة والبيئة التى يعيش فيها الإنسان الفرد فهو بحق فيلسوف إنسانى حيث تميزت فلسفته بالواقعية والموضوعية وكان حريص على الإنسان الفرد وهويته ، يقول مانهايم : ” تاريخ الفلسفة أو تاريخ حقل خاص من حقول المعرفة كالرياضيات أو الفيزياء ، ولكن مع بروز وظهور علم اجتماع المعرفة ظهرت أنماط فكرية لا يمكن أن تفهم فهما كافيا طالما ظلت أصولها ومنابعها الاجتماعية مجهولة أو غامضة ، صحيح حقا أن الفرد فقط هو القادر على التفكير إذ أنه لايوجد كيان ميتافيزيقى كعقل الجماعة ، حيث يتجاوز الأفراد ويفكر فوق رؤسهم بحيث لا يفصل الأفراد شيئا سوى تكرار أفكاره ، ومع ذلك فإننا نخطئ إذا استنتجنا من هذا أن أصل الأفكار والمشاعر التى تحرك الفرد موجودة فى الفرد وحده أو أنه يمكن شرح تلك الأفكار والمشاعر على اساس خبرته الخاصة بالحياة فقط (52)

لقد اهتم مانهايم بدراسة العلاقة بين المعرفة والقوى الاجتماعية فى المجتمع والطبيعة الاقتصادية والسياسية والثقافية لهذا المجتمهع ، وتلك الطبيعة الاجتماعية للمعرفة يستدل عليها مانهايم من شواهد وأحداث تاريخية ، فقد فرضت الحاجات الاجتماعية فى المجتمع الصناعى أن تكون الأفعال الاجتماعية والفردية متسقة ومرتكزة على نسق أفكار تتميز بالعقلانية والرشد.

إن جملة آراء مانهايم أنه ” يعتقد بوجود علاقة سببية مباشرة بين أشكال الفكر والقوى الاجتماعية والأوضاع الاجتماعية ، وها هى الطبقة الوسطى فى المجتمع تتخذ من الوسطية الفكرية تعبيرا عن وسطيتها الاجتماعية ، ويتركز اهتمام كل مفكر علة مقولات محددة تتفق مع وضعه ومصالحه الاجتماعية مع ملاحظة أن الفكر يحمل دائما طابعا أيديولوجيا، ويقرر مانهايم أن ” فى الحياة الاجتماعية حقيقتان أساسيتان لابد من اخذهما بعين الاعتبار حين نقوم بدراسة المعرفة :

 الحقيقة الأولى: هى أن الحياة الاجتماعية والسياسية بل والحياة المادية أيضا هى فى حالة صيرورة دائمة التغير  موجود ومستمر حتى لو كنا لانراه .

 الحقيقة الثانية : هى أن الناس ينزعون إلى تنشيط هذا التغير عند حدود معينة أو على الأقل إبطاء سيرة وتيرته ، ويقرر مانهايم أيضا أن فعل التعرف كان يتم بين  قطبين أساسين هما موضوع المعرفة والذات العارفة(53)

إن سوسيولوجيا المعرفة عند مانهايم  نشأت أثناء محاولة تطوير ميدان بحث خاص بها ، ومناسب لها لتدرس فيه الترابطات الداخلية العديدة التى أصبحت واضحة جلية فى أزمة الفكر الحديث ولا سيما الروابط الاجتماعية بين النظريات وأنماط الفكر، ومن ناحية ثانية تهدف سوسيولوجيا المعرفة إلى ايجاد معايير علمية لتحديد العلاقات المتبادلة بين الفكر والعمل  فهى تسعى إلى تفهم الفكر فى بيئته المادية الملموسة فى الوضع الاجتماعى التاريخى  الذى يبرز منه بتدرج بطئ جدا الفكر الفردى المتميز(54)

وهكذا فإن الذى يقوم بالتفكير ليس الناس عموما ولا حتى الأفراد المعزولون بل الناس فى جماعات معينة كانت قد طورت لنفسها أسلوبا خاصا فى التفكير عبر سلسلة لا متناهية من ردود الفعل تجاه أوضاع نموذجية معينة يتميز بها مركزها المشترك ، كما تتميز سوسيولوجيا المعرفة أيضا فى كونها لا تفصل أنماط الفكر البشرى بشكل مادى عن سياق العمل الجماعى الذى من خلاله نكتشف العالم بمعنى عقلى لأول مرة(55)

 وسوسيولوجيا المعرفة عند مانهايم هى أيضا نظرية تجريبية قائمة على الملاحظة والاختبار بشأن العلاقات الفعلية بين المعرفة والوضع الاجتماعى دون أن نثير أية مشاكل خاصة بفلسفة العلوم ، ونشير إلى أن سوسيولوجيا المعرفة بطبيعتها ستحل محل التحقيق الذى تقوم به فلسفة العلوم وتقوم به فلسفة الفكر، ولقد توصلت سوسيولوجيا المعرفة إلى اكتشافات معينة لها أكثر من مجرد صلة واقعية بالمعرفة ،وهى اكتشافات لا يمكن معالجتها بشكل كاف ،إلا إذا أعيد النظر فى بعض التصورات والتحيزات الموجودة فى فلسفة العلوم المعاصرة (56)

لقد قدم مانهايم فى مناقشته لنظرية المعرفة ثلاث أفكار رئيسية ، فقد حاول أن يقصر مجال الإبستمولوجيا الوضعية على مجال العلم الطبيعى فقط ، كما حاول أن يضع الخطوط الأساسية لإبستمولوجيا إرتباطية بديلة للفكر السوسيوتاريخى المحدد على نحو وجودى إلى جانب طرحه لإمكانية الدعوى بأن الإبستمولوجية القديمة لا تتلاءم على نحو تام مع العلوم الفيزيقية المتقدمة ، كما استطاع أن يحل مشكلات شكوكه حول إمكانية المعرفة العلمية دون أن يهاجم أو يتحدى الإبستمولوجيا التقليدية .

ومن الأسباب التى جعلته لايذهب إلى أبعد من ذلك هى أنه اعتمد اعتمادا كليا على أعمال مؤرخى العلم فى رؤيته للتطور العلمى ، ومع ذلك نجد أن جانبا كبيرا من فكر مانهايم كان قد صيغ فى ضوء التمييز الإبستمولوجى بين المعرفة العلمية والمعرفة السوسيوتاريخية ، لذا فإن أى محاولة جادة لتعديل أو مراجعة الإبستمولوجيا المرتبطة بالعلم الطبيعى تحتم ضرورة المراجعة والتعديل الشامل لنتاجه السوسيولوجى برمته (57)

إن علم اجتماع المعرفة عند مانهايم لم يقتصر على إدراك علاقة معايير الفكر بالعوامل الثقافية والاجتماعية ، لكنه يهتم أيضا بنقد الإبستمولوجيا القديمة وهدم نظرية المعرفة التى صاغها الفلاسفة ، حيث وجد علماء سوسيولوجيا المعرفة أن الإبستمولوجيا التقليدية عجزت عن اكتشاف الجديد فى ميدانها فقد انحصرت وجهات النظر الإبستمولوجية منذ ” أرسطو ” و ” ديكارت ” و” كانط ” بين قطبى الذات والموضوع ” (58)

فى حين أن وجهة النظرالجديدة فى سوسيولوجيا المعرفة تقوم بتغيير الإبستمولوجيا التقليدية ،وأن تتمرد على تلك الحدود القاصرة التى انحصرت فيها الميتافيزيقا ، وفى رأى مانهايم ” أن حلول الميتافيزيقا للمشكلة الإبستمولوجية قد بدأت فى الزبول ، ولذلك يصبح علم اجتماع المعرفة علما مكملا للإبستمولوجيا ، ومصححا لوجهات النظر التقليدية فى المعرفة ، فهو يبحث عن الإنسان الاجتماعى وليس المجرد

، الإنسان الذى يختلف من عصر لعصر ومن مجتمع إلى مجتمع ، فمن خلال روح العصر وبنية المجتمع نستطيع أن نعرف كيف يفكر هذا الإنسان وفيم يفكر ، فمن الخطأ من وجهة نظر سوسيولوجيا المعرفة أن نميز بين الإنسان باعتباره ” ذاتا مدركة ” من ناحية وعقلا مفسرا للعالم الخارجى من ناحية أخرى ، ومن الظلم أيضا اهمال البعد الاجتماعى الكامن فى الفكر والوعى الإنسانى(59)

والخلاصة ليس ثمة خلاف على أن تطور المعرفة العلمية يرتبط بنسق العلاقات الإرتباطية بين فلسفة العلم وسوسيولوجيا العلم ، وتاريخ العلم حيث أن نسق العلاقات هذه يفضى بنا إلى التمايزات ، وتكامل التمايزات يفضى بنا إلى نسق العلاقات ،حيث نجد أن فلسفة العلم تثير التساؤلات وتحدد مناهج البحث لها وتمدنا برؤية نقدية لفهم التقدم ، ويقدم تاريخ العلم فهما لمراحل تطور هذه التساؤلات ، وحالة المعرفة العلمية الراهنة ، وكيف حدثت الانقطاعات وفقا لآلية التصحيح أو التفنيد ، أما الإبستمولوجيا فتقدم الأدوات العقلية والوسائل اللازمة لإرادة العمليات العقلية للوصف والتحليل واختبار الواقع والتفسير، وتمدنا سوسيولوجيا المعرفة العلمية بأدوات لفهم الشروط الاجتماعية الملائمة لإنجاز العلم ، وكيف تتأثر هذه الشروط مرة أخرى بالمنتج العلمى ، غير أن العلاقة بين الإبستمولوجيا وسوسيولوجيا العلم تحتاج لمزيد من البحث وهى العلاقة التى ظلت تقريبا خارج اهتمامات الميدانيين على السواء ، فكلاهما اكتفى بوضع مبادئ عامة لهذه العلاقة ، وعلى الرغم من أن اثبات ضرورة العلاقة بين الفلسفة وعلم اجتماع المعرفة ، وإن كان هناك من يرفض هذه العلاقة  ويرفض أن يقوم علم الاجتماع بإبطال المعرفة الزائفة وكشفها وتحريرها (60) ، إلا أن هذا الرأى يمكن الرد عليه وانتقاده بأن الباحث فى علم اجتماع المعرفة ينبغى أن يجمع فى شخصية واحدة السوسيولوجيا  والفلسفة وأن يتقن اللغة السوسيولوجية واللغة الفلسفية على حد سواء، وأن البحث فى سوسيولوجيا المعرفة ينطلق من الدراسة الإبستمولوجية لا محالة ، ليصل فيما بعد إلى مجال ربط المفاهيم بالواقع المعاش .

إن العلاقة بين سوسيولوجيا العلم والإبستمولوجيا على الرغم من استقلالهما فإنه من الضرورى أن يضمهما ميدان دراسة واحد وخاصة فى بعض الظروف التاريخية التى تشهد تدهورا فى عمليات انتاج واكتساب المعرفة ، وأن الإرتكان إلى علاقة التجاور يؤدى إلى حجب المنفعة العلمية ، فالإبستمولوجى لن يفتش بانتظام فى منتجات علم الاجتماع ليكشف مدى صحة فعل المعرفة السوسيولوجية ، وبالمثل فإن السوسيولوجى لن يسأل الإبستمولوجى عن الأفكار التبسيطية التى يقدمها متجاوزا بها الشرط الاجتماعى ، إن المتغير السوسيوثقافى يؤثر بالضرورة فى المتغير الإبستمولوجى ، ولأن هذه الحالة نادرة الحدوث فى السياق الغربى المنتج للعلم ، بسبب أن التنشئة العلمية التى يتلقاها الفرد تحض على التفكير والابتكار وتعتمد على تنمية وتطوير المهارات الإبستمولوجية  منذ المراحل الأولى للتعليم فمن الطبيعى أن تظل العلاقة السوسيو-إبستمولوجية مهمشة لا تمثل إشكالية بحثية ، بعكس اهميتها البؤرية بالنسبة إلى سياقنا الوعى العربى (61)

إن الحالة المتدهورة فى الانتاج العلمى بصفة عامة ترتبط فى جانب منها بضعف الوعى بالشروط الإبستمولوجية المتنوعة فى الانتاج العلمى وبالتالى ترتبط باهمال الأسباب السوسيولوجية اللازمة لتطوير هذا الوعى الإبستمولوجى والارتقاء بالنماذج الخطابية العلمية السائدة فى الانتاج العلمى ، وأن هذا الوضع التاريخى هو الداعى إلى ضرورة وجود الحقل السوسيو- إبستمولوجى ، ولا يحتج بأنه لا حاجة إلى مثل هذا الحقل طالما أن المجال العلمى العربى قادر على تقديم حالات ابداع حقيقية فى كل حقل من حقول المعرفة العلمية لأن التطور الذى يلحق بمنظومة العلم لا يعتمد بأى حال على إبداعات إستثنائية مبعثرة وإنما يعتمد على الجهد الجمعى فى اكتساب العلم وانتاجه ويكون الإبداع الفردى فى هذه الحالة محفزا للجهد الجمعى وليس بديلا منه .

إذن يمكن وضع تعريف إجرائى مبدئى للعلاقة السوسيو- إبستمولوجية بأنها: ” العلاقة الجدلية التى تربط الأبعاد الاجتماعية والأبعاد الإبستمولوجية وتكون مقاربة هذه العلاقة بالتحليل النقدى للنص فى كل مرحلة من مراحل تشكله وتطوره ثم تصنيفه فى صورة أنواع خطابية ، ثم محاولة الكشف عن الشروط السوسيولوجية التى أدت إلى وجود هذه الأنواع (62 )

ويمكن القولأنه بالرغممن اسهامات مانهايم الرائعة فى تأسيس وتطور فلسفة العلوم الاجتماعية بشكل عام وعلم اجتماع المعرفة بشكل خاص ،إلا أنه لم يسلم من الانتقادات التى وجهت لسوسيولوجيا المعرفة عنده وأول هذه الانتقادات: أنه فشل هو وأتباعه فى رؤية الأساس الموضوعى للأفكار الاجتماعية ،رغم وجود هذا الأساس ،الذى ينشأ عن ضرورة أن كل مجتمع يقوم  فى المقام الأول بانتاج الخبرات المادية بشكل يحدد أسلوب الانتاج ، فى التحليل الأخير ، فكل نشاط المجتمع يخلق الموقع الموضوعى لكل طبقة ولكل مجموعة فى النظام الاجتماعى ، بغض النظر عما إذا كان هذا مدركا  أم لا يتحدد مكان ومصالح وأهداف وتوقعات كل طبقة فى البنية الاجتماعية ، قبل كل شئ من قبل علاقتها بوسائل  الانتاج ودورها فى العمل الاجتماعى

ثانيا: أنه فشل فى رؤية أساسيات حياة البشر الذهنية الموجودة بشكل مستقل خارج وعيه ، لذلك كان يرى أنه من الضرورى من أجل الحفاظ على موقف حاسم ، أن يطابق المجتمع بالمجموعة ، ويجب عليه ربط تفكير الفرد بدقة بشكل مباشر بعقل المجموعة الموجودة ، وبالتالى اتخاذ مسار التفسير النسبوى للمعرفة ،أنه ينكر بشكل قاطع إمكانية طرح مسألة وجود معيار موضوعى للحقيقة ضمن ” سوسيولوجيا المعرفة ” بالرغم من وجود مثل هذا المعيار فعلا ،هناك آليات جديدة جعلت العقلاني تقلع حضاريا ابتداء  وتنطلق من أسس جديدة لم تكن تعرفها سابقا وتنمو بتحرير العقل عن العقل ( تحرير العقل الفلسفى من العقل اللاهوتى)، وحصل بالتالى العقل على استقلالية ذاتية ظهرت فى شكل ثورة انقلابية معروفة ، وعلى العكس من ذلك ففى مجال السوسيولوجيا يتم نقل نظريات وجدت لتحل مشكلات ظهرت فى بيئتها ، على بيئة غير بيئتها دون مراعاة لخصوصية الواقع الجديد ، ما انتج تفسيرات مشوهة لا تستطيع تشخيص المشكلات التى يفرزها الواقع الاجتماعى .

ثالثا : لم ينجح مانهايم فى تقديم حل مقنع بالنسبة لمشكلة النسبية التى تمثل المشكلة الرئيسة فى علم الاجتماع المعرفة فمنهجه فى الإرتباطية ليس حلا ، و”إنما طريقة لتجنبها ، فالإرتباطية حسب تعريفه لا توصلنا ( وربما لا تسعدنا ) إلى ايجاد العلاقة السببية بين الفكر والواقع، وكل ما نستطيع قوله باستخدام منهج مانهاين هو أن هناك ترابطا بين الفكر والواقع الذى تولدت فيه، وهذا لا يتعدى التقرير الوصفى لهذه العلاقة فليس لدينا الدليل الكافى لكى نقول  بأن واقعا اجتماعيا بمواصفات معينة سينتج آراء ومعتقدات بمواصفات يمكن التنبؤ بها أو استنتاجها ، فالإرتباطية حسب تعريف مانهايم – تقع بالفعل فى مصيدة النسبية ولا تتجنبها فإذا كانت الفكرة صحيحة صادقة فهى تعكس الواقع المحدد

الحواشى والهوامش

 (1) Jene Pilcher, Mannheim s sociology, of generation, an undervalued, 1993-

موقع واى باك مشين -بتاريخ 29-مارس 2017

*الطوبائية هى : الإشتراكية التى تحلم بمجتمع خال من الصراع وتسعى إلى تحقيق مثل عليا بعيدة عن الواقع

(2) معارك ناصر- العقلانية المؤسساتية  عند كارل مانهايم – جامعة قسطنطينة- الجزائر – ص 80

(3) انظر السيد عبد العاطى – علم اجتماع المعرفة – دار المعرفة الجامعية -2000- ص 199

( 4) Tim Dante : Knowledge, Ideology, Discourse A Sociological perspective,  

Routledge, London, 1991,p 3

( 5) المرجع السابق

( 6) حسين عبد الحميد رشوان- الفلسفة وعلم الاجتماع – ص135

(7 ) المرجع السابق

( 8) المرجع السابق- ص138

(9) Karl Mannheim : Essay on Sociology, p, 16

(10) قبارى محمد اسماعيل : علم الاجتماع والفلسفة -ص 275 –( نظرية المعرفة) -دار الطلبة العرب – بيروت،1968

(11 ) – محمد امين جيلالى – الايديولوجيا واليوتوبيا فى فكر مانهايم

https: www.istighrab.com

(12 ) مانهايم – الايديولوجيا واليوتوبيا فى سوسيولوجيا المعرفة – ترجمة محمد رجا الدلاينى – شركة المكتبات الكويتية -ط1- الكويت- 1980-ضمن105

(13) نفس المصدر  ص325

(14) ملك ابوعليا: نقد الاسس النظرية لسوسيولوجيا المعرفة ” البرجوازية” – الحوار المتمدن- العدد 6554- المحور- ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية -توقيت الدخول الساعة 11صباحا 19\10\2022

*فيلسوف وعالم اجتماع روسى انصب اهتمامه  بالدرجة الأولى على التمييز بين ما هو فردي، وما هو اجتماعي، بغية التأكيد على أن الحقيقة الاجتماعية حقيقة لا تقهر. انصب اهتمام گورڤتش بالدرجة الأولى على التمييز بين ما هو فردي، وما هو اجتماعي، بغية التأكيد على أن الحقيقة الاجتماعية حقيقة لا تقهر.

( 15) انظر-محمد حسين الرفاعى – ابستمولوجيا السوسيولوجيا -دار التنوير-2022- ص

(16) جورج غيرفيتش : الأطر الاجتماعية للمعرفة- ترجمة خليل احمد خليل- بيروت- المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- 1981- ص16

( 17) فريدريك معتوق : المعرفة والمجتمع  والتاريخ – بيروت -منشورات جروس برس- 1991- ص82

( 18) قيس مرزوق الوريامشى : الكم والكيف فى علم الاجتماع- ” اية علاقة ” -ندوة -تحرير المختابر الهراسى- سلسلة ندوات ومناظرات- الرباط- جامعة محمد الخامس- منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية – المغرب- 2002- ص 24

( 19) احمد موسى بدوى – الابعاد الاجتماعية والابستمولوجية لانتاج واكتساب المعرفة العلمية ( مقاربة منهجية)

https://www.researchgate.net

(20)Tim Dante, Knowledge, Ideology, Discourse, A Socio Logical perspective, London, 1991,p25(27 ) Karl Mannheim: Essays on Sociology Of Knowledge

*المنهج التطورى الارتقائى : هو منهج في العلوم إنسانيات الإنسانية علوم طبيعية والطبيعية يعنى بدراسة نظرية السمات السمات النفسية كالذاكرة، …

*التصميم الأفقي لمحتوى المنهج الذي يتطلب مراعاة اتساع المنهج وعمقه، والتكامل والترابط بين المجالات المعرفية والوجدانية (القيمية) والمهارية، كما يتطلب ترابط جميع عناصر المنهج ببضعها (الأهداف والمحتوى، والأساليب، والوسائط، والأنشطة، والتقويم).

*وهو شكل إنساني شامل من العلاج النفسي يركز على الشخص وعلى الحياة الحالية له، والتحديات، بدلاً من الخوض في التجارب السابقة، ويؤكد هذا المنهج على أهمية فهم سياق حياة الشخص وتحمله للمسؤولية


(21 ) Mores Bogardus, Mannheim and Sociology, p224

(22)السابق

(23)Robert,  H., Coombs: Karl Mannheim Epistemology and Sociology of Knowledge, vol 7. Published by Wiley on behalf of the Midwest’s sociological society 1960.p 229

( 24) بسام أبو عليان : مقال علم اجتماع المعرفة – جريدة سما السوسيولوجية -2015-موقع

http: //www.bassam  79,blogsbot.com

( 25) المرجع السابق

( 26) ابراهيم عيسى عثمان : الفكر الاجتماعى والنظريات الكلاسيكية فى علم الاجتماع – دار الشروق للنشر والتوزيع -ط1- الاردن- 2009- ص234

(27) نقلا عن حسين عبد الحميد رشوان – نظرية المعرفة والمجتمع  -ص206

(28) Comet Plan of the Scientific  Operation as Quoted by Kenneth Brock, theories of progress. P.61

(29) Auguste Comte, System de Politique Positive, as quoted in Caser Masters of  Biological thought,p.7

   (30) امل حسن : علم الاجتماع المعرفى -دار المسيرة للنشروالتوزيع -ط1- عمان-2015- ص20

  (31) شفيق ابراهيم جبورى – علم اجتماع المعرفة عند ابن خلدون – ص250

(32) المرجع السابق -ص246

(33) المرجع السابق -ص235

(34) رشيد الحاج صالح – المعرفة العلمية بين العوامل الاجتماعية والبنية المنطقية

(35) كارل مانهايم -الايديولوجيا واليوتوبيا -مقدمة فى سوسيولوجيا المعرفة -ص11

(36 ) Karl Mannheim: essay critical sociology    

(37) كارل مانهايم – الايديولوجيا واليوتوبيا – مقدمة فى سوسيولوجيا المعرفة – ص 309

(38) السيد عبد العاطى -علم اجتماع المعرفة -دار المعرفة الجامعية – الاسكندرية- 2000- ص200

(39) المرجع السابق ص204

(40) المرجع السابق ص100

(41) بول ريكور -محاضرات فى الايديولوجيا واليوتوبيا -ترجمة فلاح رحيم -الكتاب الجديد المتحدة للطباعة –  ط1-ليبيا -2002- ص 250

(42)المرجع السابق

(43) المرجع السابق

( 44)  عصام عبدالله-الصيرورة فى الفكر الفلسفى -كليوباترا للطباعة -د.ت -ص171

( 45) المرجع السابق ص171

( 46) بول ريكور- محاضرات فى الايديولوجيا واليوتوبيا- ص246

( 47)  سمير ابو زيد- العلم وشروط النهضة ( التصورات العلمية الجديدة والتأسيس العلمى للنهضة العربية – مكتبة مدبولى – د.ت -ص90

( 48) المرجع السابق -ص152

(49) بول ريكور -محاضرات -ص247

( 50) مانهايم-  الايديولوجيا واليوتوبيا- ص152

(51) George Allen  Sun win: The phenomenology of Mind, London, 1971.p 250

 (52) Ibid,p250

( 53) المرجع السابق

(54) مانهايم- الايديولوجيا واليوتوبيا- ص43

(55) المرجع السابق-ص85

(56) المرجع السابق

(57) مانهايم الايديولوجيا واليوتوبيا- ص327-329

(58) قبارى محمد اسماعيل – علم الاجتماع والفلسفة  ” نظرية المعرفة ” -دار الطلبة العرب – بيروت- 1968- ص111

(59 ) المرجع السابق -ص 113

(60) جورج جيرفتش : الأطر الاجتماعية للمعرفة ، ترجمة خليل أحمد خليل ، بيروت ، المؤسسة العامة الجامعية للدراسات والنشر واالتوزيع 1981، ص16

(61) فريدريك معتوق : المعرفة والمجتمع  والتاريخ – بيروت -منشورات جروس برس- 1991-ص82

(62)أحمد موسى بدوى : الابعاد الاجتماعية والابستمولوجية لانتاج واكتساب المعرفة العلمية ” مقاربة منهجية “-https:www.researchgate.ate.net(publication) 327390800

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video