بقلم : د. عماد خالد رحمة ـ برلين
لم يكن الشاعر الفرنسي غليوم أبولينير متعدِّد الوجوه ، فهو لا يخضع لتعقيد سطحي هش ، بل على قوةٍ و ثراءٍ عميق ، لأنَّه ليس من الذين يواجَهون ، كأنما له أكثر من عينين إثنتين مدورتين ، يحدِّق بهما إلى الماضي ، ويحَملِق في الحاضرِ ، ويتطلّع بكلِّيَتِهِ إلى المستقبلِ القريب المنظور والبعيد اللا منظور . حتى أصبحَ على مثال الشاعر شارل بودلير أباً للقرن العشرين في كلِّ مغامرة شعرية محَرّرَة ومتحرِّرَة ، وهل يفهم في عصرنا الحالي إذا وضعنا الشاعر غليوم أبو لينير بين قوسين؟
ولد الشاعر الفرنسي غليوم أبولينير في روما 26 آب عام 1880 م وتوفي في باريس بتاريخ 9 تشرين أوّل عام 1918 م وهو في عزّ شبابهِ، أيّ في الثامن والثلاثين من نَيْساناته ، فقال الكثير الكثير ، إلّا أنّه لم يقل لنا كل ما بجعبَتِهِ الثرية . قيل في شِعر أبولينير كما قيل في أصلِهِ، وكلاهما لِلحَيْرَةِ. أمّه بولونيّة أمّا أبوه فمن هو ؟ وإلى أيِّ أصلٍ يعود؟ وهو الذي ولد باسم فيلهلم ألبرت فلاديمير أبوليناري كوستروفيسكي ، وقيل في شِعرِهِ وأصلِهِ، هل هو أسقف موناكو، أم هو حَبرٌ من أحبار روما ،أم هو ضابطٌ في الجيش الإيطالي ومن العائلة المالكة الثرية ؟ من هنا كانت الأسطورة تكتنفه من كلِّ صوب، حتى اسمه الحقيقي فيلهلم ألبرت فلاديمير أبوليناري كوستروفيسكيWilhelm Albert Włodzimierz Apolinary Kostrowicki) ) وعرفت أمه باسم (أنجيليكا كوستروفيسكا) سليلة أسرةٍ من نبلاءِ بولندا . كان غليوم أبولينير يتحدّث ثلاث لغات، هي الفرنسية والإيطالية والبولندية ، وعرف في مراهقتهِ باسم (غليوم أبولينير) وكان اسم جدَّه من جهة امهِ (أبوليناروس) وهو اسم مشتق من اسم أله الشعر أبولون .درس أبولينير في فرنسا في مدينة (موناكو) ،و (كان) ، و (نيس). وانتقل من باريس إلى ألمانيا طلباً للرزق ، عاد بعدها إلى باريس موظفاً في البنك ، ثم مارس الصحافة وكتب الشِعْرَ والقصَّةَ والروايةَ والمسرحية ، إضافةً إلى كونه ناقداً فنياً فرنسياً وهو في الوقت نفسه بولندي الجنسية . وهو أوّل من نَحَتَ كَلمةَ (سريالية) ، وهو واحد من رواد ها الشعراء البارزين . وكتب عملًا هاماً يعَدّ من بواكير الأعمال المسرحية السريالية، وهي مسرحية (أثداء تريسياس عام 1917) م .
طفولته كانت علامة استفهام عَمِلَ هو نفسه على تركِها دونَ توضيحٍ أو جواب ،كأنَّما في شخصيتهِ ، كما في حياتهِ ، كما في نتاجهِ الأدبيّ شيئٌ ساحرٌ ملغَّزٌ ،وكأنما أصدقاؤه الذين تحدَّثوا عنه وكتبوا عنه أضفوا عليهِ هالةً جديدةً حول الأسطورةِ التي استدار فيها ، وحلّق في فضاءاتها ، أسطورة الفارسِ الطالع من بلدانٍ مبهمةٍ مسحورةٍ ، أسطورة الفارسِ المتلفِّع بالحلم والخيال . وهو الطالِع من بَلَدٍ ملَغَّزةٍ مسحورةٍ الخاطِرِ ،خَبَباً في عالمٍ قَمَريِّ الأضواء والظلال، وهو الحاملِ قلبه الجريح أيضاً على مفترقِ الشفتينِ ، العاصب جبينه المثخن بالجراحِ تَحتَ خوذةِ البطل ، يغنّي ويغنّي ليخَدِّر الألم ، ويغيب وراء سحاب وغمائم السلوان.
كَتَبَ قصيدةً جميلةً تَركَت آثارها في نفسِ كلّ من يقرأهَا جاءت تحت عنوان :
(جسر ميرابو) :
تحتَ جسرِ ميرابو إنّه السَيـن يَسيـل
وحبّنا يَسْري ماذا
أضاع الذّر مـن فكـري
كانَ السّرور يجيئ دَوماً إثرَ إرهاقٍ طويلْ
فليــقبـلِ الّلَيـــل ولْتعلِنِ السّاعة آنَ الرَّحيل
إنها الأيّام تمضي وأنا الأوحد باقٍ لا أزولْ
ولنبقَ وَجْهاً لِوَجهِ مشبوكةً مِنّا الأيادي
أذرعنا حَنِيَّة الجِسْرِ
منْ تحتها ماء الونى يسري
ماء اللَّحاظِ التي تَغيب فــي الآبــادِ
فلْيقْبــــلِ الَّليـــل وَلْتعلِنِ السَّاعة آنَ الرَّحيلْ
إنّها الأيام تَمْضي وأنا الأوحَد باقٍ لا أزولْ
الحبّ يَعْبر يَعْبر كالماء هذا العابِرِ
الحبّ يَعبر لا يَعودْ
كم هو العمر وَئيدْ
وكَمْ هو الرَّجاء يَشْتَدّ بعنفٍ قاهِرٍ
فلْيقبِل الّليل ولْتعلِنِ السّعة آنَ الرَّحيلْ
إنّها الأيّام تَمضي وأنا الأوْحد باقٍ لا أزولْ
إنها الأيّام تمضي والأسابيع تــدولْ
لا هو الماضي التَّليدْ
لا ولا الحبّ يَعودْ
تَحْتَ جِسْرِ ميرابو إنّه السين يسلْ
فلْيَبـلِ الَّليــل وَلْتعلِن السَاعة آنَ الرحيلْ
إنّها الأيّام تَمضي وأنا الأوحَد باقٍ لا أزولْ
هذه القصيدة الرائعة التي جاءت بعنوان : ( جسر ميرابو) الذي قال فيه أحد كبار النقّاد إنّ الشاعر غليوم أبولينير: ( إنَّه أمير الروح الحديثة) يبدو لنا انه من أشياع الرومانسية ، وراثةً لا تقليداً . وهذا يذكِّرنا ببحيرة لامارتين بعنوان : ( أنتَ يا دَهر حدَّ من طيرانك) .أليس هو الذي قال : (ما رَغِبْت يوماً في مغادرة المكان الذي كنت فيه أعيش ، كما أنني أرغب على الدوام في أن يتوقَّف الحاضر ويستمر. فما كآبة تنساب في أعماقي كهذه التي يخلِّفها فيَّ هرب الزمان . إنها تضاد شعوري وتعارض ماهيّتي إلى حدّ أنّها تصبح هي نفسها مَعينَ الشِعرِ ) .
أكثر الشعراء جِدَّةً أكثرهم عمقاً ورسوخاً في القِدَمْ . كون الأصالة في الشعر تعني الأصالة في التراث الغني الثرّ قبلَ الإنقلاب عليه والتنكّر له .أو إنّها الثورة من ضمن التراث العميق أي بعد استيعابه وتمثّلِهِ حتى لكأنّه فِلذةٌ من الذات. وهنا نجد غليوم أبولينير يقول : ( أفضل طريقٍ لكي يكون الشاعر كلاسيكيّاً متَّزناً ومتوازناً هي أن يكون ابنَ زمانهِ دون أن ْ يضحّيَ بشيئٍ مما كان للقدامى أن يلقِّنونا إيّاه) . إنها ثورة على الماضي بكل حمولاته، ولكن من ضمنِهِ ،وهو سعيٌّ يهدف إلى ترسيخ الحاضر ، ولكن بما ينطوي عليهِ من قِيَم دائمة ، وتطلّعٌ إلى المستقبل، في ما يتًوَقَّع منه ، لا في غيْبيَّاتِهِ المغلَّفة بالضباب والغمام، كذلك هو غليوم أبولينير أمير الروح الحديثة في كلِّ أملوحةٍ منَ الشِعرِ .
ففي شِعرِ الشاعر أبو لينير قال الكاتب والشاعر والناقد الفرنسي فيليب سوبولت Philippe Soupaul (كان يكفيه أن يكتبَ قصيدةً لكي تتوالدَ القصائد، وأن ينشر كتاباً مثل كتابه ( كحول ) لكي يتَبَدَّلَ اتجاه الشعرِ كافةً في زمانه) ، حتى إنّ الشاعر غليوم أبولينير نفسه قد تباهى يوماً بقوله : ( أنا أبذر أغنياتي كمثل البذار) .
الشاعر أبولينير واحد من القلائل الذين تركوا الشِعرَ بعدهم غيره وقبلهم ، وهنا يمكننا القول : إنَّ الشِعرَ ، ولو أنصفناه كفايةً لقلنا : إنَّ الشِعرَ هو الفن. ولكن هل الِشعرَ هو في النهاية غير مجتمع الفنون ؟ ثمَّ هل يفهم الأدب اليوم ، والفنّ بقطبيته أيضاً إذ تصادفنا عن التجربة العظمى التي تمرَّس بها الشاعر غليوم أبولينير ؟ شعره غنيّ بالجمالية التي تتنكَّرَ لجماليةِ القدامى ومن سبقوه . هذه نعنعة ماءٍ يتَحَلَّب من خصائص الجباه على سليقة ما تجود بها القريحة ، أو إنَّها بناءٌ يتعالى بتؤدهٍ تحت سلطان العقل الواعي بغض النظر عمّا نسَمِّيهِ سَعْف الحظّ. أمّا جمالية أبولينير فإنَّ فيها من الإثنتين، ولكن على تطلّبٍ للمفاجأة مستمر دون توقف . فالمفاجأة هنا مثارٌ للتعجّبِ ، والتعجّب وحده هو الشعر الرصين.
لم يكن مجال وفضاء الشِعر متسعاً يوماً ما كما اتسع مع غليوم أبولينير وبعده ، كانَ الشِعر مع الرمزيين تصفية موسيقية إنسيابية تسير وفق نسقٍ هارموني معقلَن ، وكان مع الرومانسيين حِسَّاً مشبوباً . وكان مع الكلاسيكيين أنسنةً . أمّا مع الشاعر غليوم أبولينير وبعده فقد أصبح كلَّ ذلك في آنٍ واحد . كما أنَّه أصبح غير ذلك ، لذا فإنَّ الكون والعالم يقحمان بكثافتهما في الشِعر . باعتمالٍ ذاتيٍّ لا بطريقةٍ وصفيّة . وبما أنَّ الحياةَ حركة دائمة لا تتوقَّف ، وهي في تطوّرٍ مستمر إلى الأعلى أو الأدنى ، فإنَّ الشِعرَ يزاوج هذا التطوّر ويتشارك معه في حركيَّته الموصولة. عندها تتم المفاجأة ، بمعنى آخر يتم ما لم نكن نتوقعه في الشِعرِ لا في الحياة بكل مكوناتها.
لا نغالي إذا قلنا أنَّ الشِعرَ أصبح مع الشاعر غليوم أبولينير تصويراً مكثفاً . لا بآلةِ تصوير فوتوغرافية ، ولا بريشة الفنان القديم المكتنز ، فآلة التصوير الفوتوغرافية والتصوير الموضوعي حتى الانطباعي ، تتقبَّل أكثر مما تعطي ، أما التصوير الشعري عن الشاعر غليوم أبولينير فإنّه ، شأنَه عند التكعيبيين أصحابه ، بناءٌ عقلي يجعل من التشويش والفوضى المعطى نظاماً وجدانياً مجرّداً ، قيمة المفاجأة فيه من قيمة الصدمة لا المصادفة . صدمة في الكلمات والمفردات ، وصدمة في الصور ، وصدمة في الإيقاعات والرتم الموسيقي .
لكن ما نحبّه نحن في الشاعرغليوم أبو لينير هو في كل ما قلناه جميعه . نحن نحبّ بالشاعر الغنائي لا المشعوِذْ البدائي ، ونحب فيه تلقائيته ، كما نحبّ فيه وجدانيته التي تزيد من الأصالة على شعرِهِ حيث تشدّه وثيقاً إلى كلِّ شاعر أصيل. لقد أثارنا الشاعرأبولينير بقصيدته الرائعة المعنونة (النوافذ) ، وهو الذي بعثرها على الورق في مقهى أصحابة وندمائه الأغرار الذين لم يكتشفوا الأسرار ، إنَّ فيها من الهذر أكثر مما فيها من الخدر الشعري .
في هذا السياق نذكر القصيدة التي دوَّت في سماء الشعر بعنوان : ( وإذا أنا ما متّ ثمةَ)
وإذا أنا ما متّ ثَمَّةَ
وإذا أنّا ما متّ في مقدَّمة الجيوشْ
بالدمع عينكِ حلوتي لولو بلا ريبٍ تَجيش
ولسوفَ ينطفئ أذكاريَّ مثلما تخبو القذيفة
من بعد تفجيرٍ عراها في مقدِّمة الجيوش
مثل القتات يموج بالأزهار مشرفةً وريفة
ولسوفَ هذا الذِّكر منفحجراً على وجه الفضاء ْ
بدمي يغطي الكون يكسوه بثوبٍ من نجيعْ
والبحرَ والأجيال والوديان والنجّم المضاءْ
ورؤى الشّموس تشعّ يانعةً على وجه الفضاءْ
في مثل ما ثمر النضار حوالي باراتييه يَشبعْ
ذكرٌ أنا متخلِّف أحيا بقاطبة الوجود
فأحَمِّر المنقاد َ من نهديكِ يا لون الورودْ
وأحمَّرالثَغر الفتيق وشعرك الدّامي المولَّه
لا لن تشيخي فالجمالات النشيرة في الوجودْ
ستظّلّ يافعةً لأجلِ مصيرها الغاوي المدلهْ
ودمي أنا برشاشه الحتمي ملء العالم
سيعير للشمس الشعاع مضاعفاً متألقاً
للزهر اوناً أروعاً للموج سرعةَ قاحِمِ
فيَهِلّ حبٌ عبقريّالدفق ملء العالم
والعاشق الولهان يملك جسمك المتحوّلا
هذه القصيدة نستشعر من وراءها ، ومن وراء مثيلاتها الكثير ، بأنَّ شِعرَ الشاعر غليوم أبو لينير يتعالى كالقمِّة المنيفة بين ما حواليه من الشعر في عصرهِ، وبأنّه لا يزال عمق الأثر في الشعر الحالي . وبأنَّ الحركة التي كان في بداية انطلاقها لا تزال على توثّب وهيهات أن تخمد.
لقد امتاز الشاعر غليوم أبو لينير بجرأة الاستعارات والاستدارات والتشابيه، وتحطيم الأوزان الشعرية والتفاعيل المتوارثة ، كما يمتاز أبو لينير بقدرته على تحقيق معادلة النظيم والنثير . ومجابهة النظام بالمجازفة المقصودة ، كما قام باستبدال التجديد بالتقليد .
إنها عناصر جارفة تذكِّرنا ، مثلما قرأناه في كتاب غايتان بيكون ترجمة وتحقيق أميرة الزين بأنَّ غايتان بيكون ثورة البودليرية نسبةً للشاعر والناقد الفني الفرنسي شارل بودلير ، ثورة لا تزال في شهرتها لأنَّ الفوقواقعية إنما هي امتداد لبعض صداها واعتمالاتها ، ولأنَّ الواقعية الشعرية الحالية لا تزال تتلمس في خطاها الطريق السليم في أيّامنا هذه وهي من نتاج تلك الثورة. غير متناسين للدور الكبير الذي قام به أبولينير من خلال خياله الثر الغني والجامح في آن قد لفح الغنائية والتجريد الفرنسيين بلفاح الاغتراب والفولكلور . وأنَّ سلم غنائيته يمتد من النشيدة الحييَّة حتى الملحمية النبوية المظفَّرة، وأنّ التشويش والتحطيم اللذين أدخلهما على قوالب الشِعِر كثيراً ما يلتقيان تلقائيّاً بهيكل الشعر المتكامل الذي كرّسته الأجيال المتعاقبة.
يعتبر الشاعر غليوم أبولينير أحد أكثر الشعراء الفرنسيين غنىَ وثراءً وإثارة لكوامن الذات والنفس المكتنزة بالجمال.