Ayoon Final logo details-3
Search

التلفزيون بين اليقين والبُهتان

توفيق شومان| مفكر وإعلامي لبناني
اختلطت على الإنسان تاريخيا ثقافة العين والأذن، وما بينهما من كلمة أو مشهد أو حدث أو صوت ، وطغت الكلمة المنقولة سمعا، على المعرفة أو ما يعادلها لقرون وعصور ، غير أن المشهد المرتكز على العلاقة بين العين والحدث ، جعل المعرفة يقينا ، ذلك أن ما تراه العين يغدو مسلما به ولا يقابله جدال أو نقاش ، فحين يُقال رأيت ، يعني تأكدت وأيقنت ، ومع التوكيد واليقين يذهب كل شك وريبة ، ولذلك اقترن التعبير اللغوي في لغات عدة إلى الربط بين فعل رأى وبين المعرفة واليقين .
ـ نقرأ قي القرآن الكريم التالي : ” إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين “
لنلاحظ هنا كيف اختلط معنى الرؤية بالوحي ، والرؤية من فعل رأى ، والوحي هو اليقين .
ـ في الحديث النبوي جاء : ” صوموا للرؤية وافطروا للرؤية ” ، ومرة ثانية دعونا نلاحظ العلاقة بين فعل رأى وبين المعرفة والتوكيد الواصلين إلى حد اليقين .
وفي التراث اللغوي بأفعاله واشتقاقاته نقرأ التالي عن ذاك الربط بين فعل رأى وبين المعرفة :
ـ يقال : لم أر منه إلا خيرا ، يعني لم أعرف عنه إلا خيرا ، وهنا مرة جديدة نلمس العلاقة بين المعرفة وفعل رأى .
من فعل رأى تم اشتقاق التالي : رأي بمعنى مقولة أو عقيدة فيقال رأي فلان في واقعة معينة أو حدث معين .
وإلى جانب فعل رأى تبرز أفعال مترادفة فيقال : نظر ـ بصُر ـ شاهد .
من فعل نظر : تأتي الإشتقاقات التالي : وجهة نظر ـ نظرية ـ والإثنتان لهما علاقة تربط بين النظر والمعرفة والوعي والعقل .
كذلك هي الحال مع فعل بصُر: ومنه بصير وبصيرة ، وكلاهما يرتبط بالمعرفة والحلم والحكمة والوعي والعقلانية ، فحين يقال فلان بصير يعني أنه يرى الأمور بحكمة وعقلانية.
حتى في القضاء يقال شهود ، شهود جمع شاهد ، والشاهد هو من شهد برأيه وشاهد الواقعة ، أي انه على معرفة بما حصل وما وقع .
كل هذه الأفعال لها علاقة بالعين ، لماذا ؟ لأن العين لا تخدع نفسها .
في اللغات الأجنبية ايضا : نأخذ أمثلة من اللغة الفرنسية :ونتوقف عند فعل شاهد أو نظر أو رأى :
ـ البداية من فعل رأى (verbe voir ) ومنه Visionـ رؤية ، ومنه أيضا : Point de vue/ وجهة نظر يعني رأي .
ـ ومن الفعل ذاته نلاحظ التالي : ـ Vision stratégiqueـ رؤية استراتيجية / او Vision socialeـ رؤية اجتماعية ـ أو vision en dieu رؤية في الله ـ أو رؤية مستقيمة Vision droite
أيضا : إذا أردت أن تطلع على وجهة نظر شخص من الناس أو على طريقة تفكيره ، وأرسلت شخصا إليه فتقول له : …. Allez voir
ـ ايضا : regarder/ شاهد أو نظر / يمكن أن تقول ، بل تقول على سبيل المثال : Regardez bien,/ بمعنى Écoutez / والتي تعني حكما : انظروا جيدا / انتبهوا جيدا / اصغوا جيدا / استمعوا جيدا .
أكتفي بهذه الأمثلة اللغوية التي تربط أفعال المشاهدة والنظر بالحقيقة ، على اعتبار أن العين مصدر الحقيقة التي لا يرقى إليها الشك ، وأذهب مباشرة إلى علاقة العين والحقيقة وعالم التلفزيون .
ولذلك لن أعود في هذه اللقاء ، ، إلى الإعلام كمادة علمية وتعليمية ولا إلى أجناسه وأصنافه … سأحاول أن أنقل تجربة شخصية وانطباعات وهواجس تتعلق بثقافة الصورة والإعلام التلفزيوني .
الكل يعرف أنه :
أُجْرِيَ العديد من تجارب البث التلفازي في أواخر العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي ، وكانت هيئة الإذاعة البريطانية ، وشركة سي بي إس الأميركية هما الرائدتان في تجارب البث التلفزيوني.
هيئة الإذاعة البريطانية قدمت أول خدمة تلفزيونية في منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين ، من خلال بث أطلقته من قصر ألكسندرا، في لندن.
وفي العام 1936 ، تعاونت الإذاعة الوطنية الأميركية مع شركة إن بي سي ، فوضعتا أجهزة استقبال تلفزيونية في مدينة نيويورك لحوالي 190 مشتركا.
وكانت ثمرة هذا التعاون ، بث برامج للرسوم المتحركة. وبعد ثلاثة أعوام ، بدأ البث التلفزيوني المنظم في الولايات المتحدة .
لنلاحظ هنا ، أن البث التلفزيوني ، اعتمد في بديته على المادة الترفيهية ، رسوم متحركة ، لا أكثر ولا أقل ، ولا يمكن الحديث هنا عن أي خطورة في البث التلفزيوني ، لا على المستوى السياسي ولا على المستوى الثقافي .
التطور الأساسي في البث التلفزيوني ، بدأ مع الحرب العالمية الثانية ، عانى العالم من النازية والفاشية آنذاك ، وهنا اكتشف القائمون على البث التلفزيوني ، خطورة الصورة ، خطورة الإنفعال ، وقيمة تشويه الخصم ، وحتى تحريف الحقيقة ، من خلال السيطرة على العين التي كانت مصدر الحقيقة ، لعلاقة الأخيرة بالرؤية ، فحين تقول رأيت ، فأنت أمام حقيقة ناصعة .
ومع انتشار الإعلام التلفزيوني ، ذهب القائمون على هذا العمل إلى ضرب العلاقة العضوية بين العين والحقيقة … بين العين والعقل ، واحتلت الصورة التلفزيونية عناصر المخيلة وعناصر الشك بالواقع وتحليلها ، لتقدم هذه الصورة مشهدا عن واقعة هو جزء من الحدث او جزء من الواقعة ، فحولت الجزء إلى الكل ، خاصة ان الإجتزاء يكون عادة مترافقا مع تحريك الإنفعال ، وهنا لا بد من التوقف مع أمثلة حية ، معظمنا شاهدها وعايشها :

1: في حرب الخليج الثانية عام 1991: كل الحرب تم اختصارها بمشهد وصورة تقبيل ضابط عراقي ليد جندي أميركي .
2: في حرب العام 2003 على العراق : كل الحرب تم اختصارها بمشهد وصورة إسقاط تمثال الرئيس صدام حسين .
3: في ثورة 25 كانون الثاني / يناير المصرية في العام 2011 ، تم اختصار نظام الرئيس السابق حسني مبارك بمشهد وصور واقعة الجمال والخيول في ميدان التحرير .
4: ليس بعيدا عن مصر : في ليبيا تم اختصار شخصية العقيد معمر القذافي بخطابه الأول ( فئران وجرذان زنقة زنقة ودار دار وبيت بيت ).
طبعا هذه الوقائع ، أستعرضها لإظهار مدى قدرة الصورة التلفزيونية على الترويج إلى حد احتلال اليقين ، وفقا لأفكار ومشاريع الأشخاص المجهولين الذين يقفون خلف الأضواء وفي الغرف المغلقة .
أمام هذا العرض أو السرد بالإمكان القول :

  • يجمع التلفزيون بين السمع والصوت والعين والحركة والإنفعال ، ويقدم التلفزيون نفسه ، بإعتباره ناقلا للوقائع و الأحداث، ولا يعني هذا الأمر أن الصورة التلفزيونية هي كل الواقع او كل الحدث أو أن هذه الصورة صادقة ولا يمكن دحضها .
  • ينقل التلفزيون انفعال المشاركين وردود افعالهم ، وهذه في غاية الخطورة خصوصا في مواسم الأزمات ، بحيث أن كل محطة تلفزيونية تعمل على شيطنة خصومها .
    ـ يسلب التلفزيون المشاهد لأنه يخاطب في وقت واحد حاستي السمع و البصر ويحتل الأحاسيس والمخيلة ، ويحرك الإنفعالات.
  • يورث التلفزيون قناعات سلبية للمشاهد ، فالصورة هنا تتحول إلى حقيقة ، في حين أن الصورة قد لا تكون إلا جزء من الحقيقة ، أو، ليست من الحقيقة .
    ـ أسهم انتشار القنوات التلفزيونية الى تقديم معلومات و أفكار سطحية وغير علمية وغير واقعية ، فالمشاهد يصبح أسير ما ينقله التلفزيون ، الذي يتحول إلى مصدر وحيد أو شبه وحيد للمعلومات المتدفقة .
    ـ أخطر ما في التلفزيون ، قدرته في إثارة مشاعر وأحاسيس المتلقي والتوغل في أعماقه ، فيما الإدمان على مشاهدة قناة تلفزيونية واحدة ، يجعل المتلقي مبرمجا ، محتلا ، مسلوبا ، مفتقد القدرة على الربط والتحليل .
    وهنا لا بد من القول :
    1: استطاع التلفزيون ، أن يفصل بين العين والحقيقة ، وإذا كان قديما ، تم الربط بين الحقيقة و ما تراه العيون ، فإن ما تراه العيون ، اليوم ، على الشاشات ، ليس بالضرورة أن يكون حقيقة .
    2: للتلفزيون قدرة مهولة ، على خلق وإنتاج نجوم سطحيين في مجالات الفن والثقافة والسياسة ، وللتلفزيون القدرة أيضا على إزاحة نجوم ونخب حقيقية أو التقليل من شأنها ، فمن يظهر على الشاشة له قوة اعتبارية بصرف النظر من هو وما قيمته وبصرف النظر عما يقول.
    3: يحتل التلفزيون مخيلة المتلقي ، ويحرمه من التحليل .
    4: تشتد خطورة التلفزيون في اوقات الأزمات ، فالمادة المبثوثة في هذه الأوقات تتخلى عن كونها ناقلة للخبر أو الواقع ، ويتمحور هدفها حول تحريك الغرائز والإنفعالات .
    5: من الخطورة بمكان ، أن يوافق المتلقي ، طواعية ،على أن يكون أسير قناة تلفزيونية واحدة ، فهذا يعني قبوله بإحتلال عقله ، فالحقيقة موزعة بين قنوات عدة .
    6: عربيا :العديد من البرامج التلفزيونية ، لا تعتمد توثيق المعلومة والتحقق من المصدر ، وكثير من معدي البرامج ومقدميها ، قاعدة عملهم في القنوات التلفزيونية ، الولاء وليست الكفاءة ، وهذا بحد ذاته ، يجعل المادة التلفزيونية ، أمام محنة كبيرة .
    7: أيضا عربيا : تقلص الفارق كثيرا بين الإعلام والإعلان ، فنشرات الأخبار ، والأخبار بحد ذاتها ، غادت مادة إعلانية ، لهذا الإتجاه أو ذاك .
    8: بحسب تجربتي ، أن الآتين إلى الإعلام التلفزيوني من الصحافة المكتوبة ، أكثر كفاءة وثقافة ، من الذين انخرطوا مباشرة في الإعلام التلفزيوني ، وقد لا أحيد عن جادة الصواب إذا قلت ، إن من يريد العمل في التلفزيون او الإذاعة ، عليه التدرج في الصحافة المكتوبة .
    بهذه الخلاصة ، أصل إلى نهاية قولي ، مع كلمة ختام لا بد منها : الحقيقة التلفزيونية موزعة بين كل قنوات التلفزة ، ومن يسعى إلى معرفة حقيقة الحدث ، لن يجدها في قناة تلفزيونية واحدة ، وهنا بالضبط صفوة القول : التلفزيون ضرب العلاقة العضوية بين العين والحقيقة ، ولذلك حين تقول : شاهدت على التلفزيون لا يعني أنك أدركت الحقيقة وعرفتها .

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video