الدماغ العضو الذي يقبع في سكون ظاهر في الجمجمة، ظل عصيا ومازال على فهم الانسان، فمعرفتنا بالكون وما فيه قد تفوق معرفتنا بأسرار هذا الدماغ وخباياه، لكن الانسان وطموحه الجامح وحبه على كشف المخفي عنه لا يقف عند حد، فمازال يحفر عميقا ليصل الى هذا العضو الغامض.
والواقع أننا لم نكن نولي للدماغ قيمة فيما مضى، فالفراعنة مثلا كانوا يتخلصون من الدماغ قبل عملية التحنيط ظنا منه أنه عضو لن ينفع الانسان في الحياة الأخرى، فكانوا يقومون بإخراج الدماغ من الجمجمة قبل التحنيط.
وتشير بعض المصادر الى أن ابن سينا الطبيب المسلم المشهور كان من أوائل من أشار الى أهمية الدماغ كما أشار الى ارتباطه بذاكرة الانسان.
لكن الذي ساعد وبشكل كبير في فهم آلية عمل الدماغ كان التطور العلمي في مجال تصوير دماغ الانسان الحي، فهذه التقنيات شكلت منعطفا هاما في فهم ميكنة عمل الدماغ وذلك لأنها نقلت لنا صورا لأدمغة أشخاص أحياء، فلا نحتاج أن ننتظر موته لنشرح دماغه ونربطه بحالته المرضية أو النفسية.
ان ما توصلت اليه علوم الطبيعة الى يومنا هذا ان الانسان بدماغه، فهو الذي يتحكم بمشاعره وأحاسيسه وهو الذي يقرر له وهو الذي يختزن ذكرياته ولذا فهو الذي يتحكم في شخصيته، ويمكن لك أن تتصور لو أنك قابلت صديقا بعد فراق دام سنة، وهذا الصديق تعرض لحادث في رأسه افقدته ذاكرته فلم يعد يذكر منها كل ما حدث قبل هذه السنة، فلو كنت قضيت العمر كله معه قبل هذه السنة فلن يتعرف عليك لأن دماغه محا الزمن الماضي الجميل الذي قضيته معه من ذاكرته، فما عدت معروفا لديه!، لقد انمحى الزمن الماضي من دماغه فانمحت شخصيتك أيضا!
ولذا ففي عصر التبرع بالأعضاء بإمكانك التبرع بجميع أعضائك حتى قلبك يمكنك أن تهبه للآخر ولكنك لا يمكن لك بحال من الأحوال أن تهب له دماغك!
واذا كان العلم قد توصل الى طرق يكشف فيها عن بعض تفاصيل حياة انسان مات قبل آلالف السنين، فان العلم فشل في وسائل تكشف عن مكنون أسراره التي تقبع في دماغه، لأن الدماغ لا يبقى له أثر بعد موت الانسان، فهو من أسرع الأعضاء التي تتحلل ولا يبقى لها أثر واضح، ولذا فلا تخش عن أن تنكشف أسرارك وخباياك بعد موتك، فبموتك تموت معك كل أسرارك وتموت ذاكرتك وجميع ما كتمته عن البشر وكأن الله جلت قدرته شاء أن يخفي أسرارك عن الخلائق ويستر عليك حيا وميتا.
ان التطور في فهمنا للدماغ وخباياه قلب العديد من المفاهيم وخاصة في مجال العلوم النفسية الذي نشط بشكل كبير وخاصة أحد فروعه وهو ما يعرف بعلم النفس البيولوجي والذي يسعى الى وصف سلوك الانسان من حيث كونه نتاج للمواد الكيميائية التي تنتج في الجهاز العصبي ويذهب البعض الى أقصى مدى في هذا الاتجاه وهو الذي يرى أن سبب السلوك البشري هو النواقل العصبية، بل يرى البعض منهم بأن الدماغ يقوم بترجمة التغيرات البيولوجية في الجسم كارتفاع ضربات القلب، وارتفاع مستوى تركيز السكر في الدم الى ما نسميه نحن المشاعر والأحاسيس، تماما كما يقوم الدماغ بترجمة الضوء الى الوان مختلفة ويقوم بترجمة ذبذبات الهواء الى صوت.
ولا شك أن لهذا التصور للمشاعر والأحاسيس تحديات بالغة، أولها صعوبة تقبل الانسان لذلك، اذ تتحول مشاعر الحب مثلا الى كونها مجرد افرازات كيمياوية في الجسم، وهكذا بقية المشاعر والأحاسيس، فتصبح بلا قيمة معنوية، فكل ما تغنى به شعراء الحب والغرام ما هو الا تغير في تركيز بعض تلك الناقلات العصبية في أجسامهم ليس الا!
لكن هذا الاتجاه الغارق في المادية كانت له بالمقابل بعض الفوائد العملية، فلقد استفاد الانسان من هذا التوجه في معالجة وتخفيف الأمراض النفسية المختلفة كالأمراض المرتبطة بحالات القلق المبالغ به، وحالات الاكتئاب والأرق وغيرها من الحالات النفسية التي يتعرض لها الانسان.
ومازالت سفينة الإبحار في عالم الدماغ مستمرة بل غدت غاية في الطموح، فهناك محاولات جادة مثلا لدراسة تفصيلية دقيقة للدماغ البشري وفهم آلية عمله بدقة متناهية، اذ يهدف المشروع البحثي للكشف عن جميع الخلايا العصبية خلية إثر خلية، كما يبحث في كيفية التواصل بينها، ويمكن للقارئ الكريم متابعة ما يجري في أحد أهم هذه البحوث المسمى بـ Brain Initiative وذلك عبر موقعهم (https://www.braininitiative.org/)
وهناك بحث آخر ويعرف بـ” مشروع الدماغ البشري” (https://www.humanbrainproject.eu/en/) وهو من البحوث الطموحة والمثيرة للجدل اذ يسعى الباحثون فيه لمحاولة محاكاة الدماغ البشري من خلال تصميم حاسوب ضخم واستبدال جميع الخلايا العصبية بالترانزستورات ويسعى في نهاية البحث الى تصنيع دماغ بشري غير عضوي قائم على الترانسيستور!
المشروع الأخير، قائم أساسا على فكرة مادية المشاعر والأحاسيس، بل ومادية عملية الوعي برمته، اذ يهدف الى خلق روبوتات واعية.
فهل يا ترى سيحقق غايته ويحصل على روبوتات واعية؟!
وإذا كنا نتحفظ على إمكانية وعي هذه الروبوتات فان القدر المتيقن منه هو أن هذه الروبوتات ستمتلك قدرات هائلة وإمكانات كبيرة، لذا يرى البعض أنه قد يتعذر علينا منافستها.
وهناك اتجاه آخر يسعى الى الهدف ذاته وهو فهم عمل الدماغ وميكنة نموه وذلك من خلال زراعة الدماغ في المختبر باستخدام خلايا جذعية تأخذ حية من جلد إنسان مثلا وتوضع في ظروف معينة في المختبر ويتم تغذيتها بشكل معين، وأشارت النتائج ليومنا هذا الى أن ذلك أدى إلى تكوين دماغ مصغر لإنسان في إناء في المختبر وكان هذا الدماغ يتواصل مع أجزائه بطريقة تشبه تواصل الدماغ البشري للجنين.
ترى أين سيقودنا هذا الإبحار؟ هل سيكشف لنا عن اسرار الدماغ، أم أن ثقبا أسودا كامنا فيه لن يسمح لنا بالكشف عن مكنون أسراره…
مصادر للتوسع:
- Andrew P. Wickens, A history of the brain.
- Dean Buonomano, Your Brain Is a Time Machine