Ayoon Final logo details-3
Search

الملح… ابن الآلة الحديثة

أ. د. حيدر أحمد اللواتي

الملح من الأطعمة التي لا يمكن أن تخلو منه مائدة الافطار، بل ربما لا يخلو منه طبق من أطباق الأطعمة التي تتناولها، الا إننا قد لا ننتبه اليه ولا نهتم به الا عندما نفتقد طعمه في طعام من الأطعمة أو عندما يتم الإكثار منه.

لكن الملح من الأطعمة التي حفلت بتاريخ عريق، فلقد كانت له قيمة كبيرة في فترة من فترات التاريخ تضاهي قيمة الذهب، فكانت بعض الأمم تبادل أوقية الذهب بما يساويها من الملح، وكان الملح يخزن في أوان من الذهب والفضة، بل كانت له قدسية كبيرة في بعض الحضارات فكان يستخدم في طرد العين وتجنب الحسد، فكانت بعض الشعوب تلجأ الى نثره على الارض او على المحسود، و ربما يعود السبب في ذلك الى أنه ينفرد بكونه الغذاء الصخري الوحيد الذي يتناوله الانسان، فالأغذية التي يتناولها الانسان إما ذات مصدر نباتي أو حيواني، أما الملح فمصدره الصخور.

لكن الملح الذي كان يتم تناوله في ذلك الوقت كان يختلف في تركيبته ومكوناته باختلاف موقع استخراجه، وكان في واقعه خليطا من الأملاح اذ كان يحوي على عدد من المعادن كالبوتاسيوم، والكالسيوم، والمغنيسيوم، بالإضافة الى أيونات البيكربونات والكبريت وغيرها من المعادن، ولذا فلم يكن الملح أبيض اللون بل كان مشوبا بألوان مختلفة كالأسود والأحمر، ولذا كان العرب مثلا يطلقون كلمتي أملح على البياض المشوب بسواد قليل، كما كان يقال أيضا للظبي الأبيض الميال للحمرة ظبي أملح.

وقد وردت بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه واله وسلم في الملح كقوله “سيد إدامكم الملح”، وورد عنه أيضا” من ابتدأ غداءه بالملح أذهب الله عنه كل دائه”.

ولا شك فان للملح أهمية بالغة وخاصة في المناطق شديدة الحرارة كالجزيرة العربية، فالإنسان العربي كان يفقد كميات كبيرة من الملح نظرا لارتفاع درجات الحرارة وعدم توفر وسائل التبريد، ولذا كان لابد من تعويض ما يفقده من أملاح من خلال تناوله لهذا الخليط من المعادن والذي كان يلعب دورا شبيها بدور محلول معالجة الجفاف في أيامنا هذه.

وما زال “الملح” في الوسط العلمي يحتفظ بمعناه التاريخي فهو مصطلح لا يطلق على مركب معين، بل يطلق الملح علميا على أي مركب يتحد فيه أيون موجب الشحنة مع آخر سالب الشحنة، وعند ذوبانه في الماء ينتج محلولا موصلا للكهرباء.

واحتفظ الملح بقيمته ومكانته حتى في عصر النهضة، لكن العصر الصناعي شهد بداية انهيار قيمته وسقوط مقامه، فلقد تم استبدال الطرق التقليدية لاستخراج الملح بطرق صناعية حديثة، أدت الى أمرين مهمين، الأول أن الطرق الصناعية أنتجت كميات ضخمة من الملح مما قلل من قيمته كثيرا، والأمر الثاني أن الطرق الصناعية قامت بعمليات تنقية وتكرير للملح فأصبح الملح الصناعي يتكون من مركب واحد فقط وهو كلوريد الصوديوم وعدت جميع الأملاح الأخرى شوائب يتم التخلص منها في عملية انتاج الملح، ولذا يتميز الملح الصناعي بلونه الأبيض.

وهناك كما كبيرا من الصناعات المختلفة تعتمد على الملح اليوم، ومن أهم الاستخدامات اللافتة للنظر استخدامه في الدول التي تتميز ببرودة أجواءها وخاصة في فصل الشتاء حيث يكثر سقوط الثلوج فيتم رش الشوارع بكميات ضخمة من الملح لمنع تكون الجليد، كما أنه أنه مازال يستخدم بكميات كبيرة في الأطعمة المعلبة، وفي المطاعم وخاصة مطاعم الوجبات السريعة، ولذا فان الانسان في عصرنا الحالي يتناول كميات كبيرة منه دون أن يشعر بذلك، ، وغدا في عالمنا اليوم من الأغذية التي ينظر لها بكثير من الحذر ويصفها البعض بـ”السموم البيضاء”.

إن الملح الذي يتواجد على مائدة إفطارك، والذي يتميز بلونه الأبيض هو ابن الآلة الحديثة فليس له تاريخ كبير ولم يمض على تواجده سوى قرنين من الزمن فإذا أردت أن تتناول ملحا له تاريخ عريق فربما عليك بتناول الملح البحري أو الملح الصخري فهما أقرب الأنواع الى الملح الذي كانت الحضارات البشرية المختلفة في غابر العصور تتناوله وتعظمه وأحيانا تقدسه!.

المصادر

  • الملح في التراث الشعبي، أ.د. يحيى عبد الرؤوف جبر، مجلة مأثورات شعبية/ قطر ٢٠٠٩م
  • Mark Bitterman, Salted: A Manifesto on the World’s Most Essential Mineral, with Recipes, 2010

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video