هُم أخبروني أن الشّعر المعاصر صار مفقودا في زحام العابرين، هناك على الرّصيف الخصب، يتسنّى لك أن تلمحَه وهو يعبر من ضفّة إلى أُخرى مرتديا معطفه الخشبي، منتعِلًا خُفَّهُ المُقَصَّب، حاملا حبّات قمحٍ بيمناه، وسبع حجراتٍ بشِمَاله، هو العابس المتفائل كما صوّروه لي، لكنّني لم أصدّق أحدًا من هؤلاء لأنّني أحبّ مقابلة الصّورة وجها لوجه، وأستبعد –ما استطعت- الرّكض خلف الأثر الّذي لطالما زَوّدني بالأمل الشّفاف دون أن يكشِف عن لون أو مَقَاسٍ مَلْمُوس.
عَلَى هَذا الرّصيف الطّويل الطّويل… ، أقابِلُ –أخيرا- وجْهًا مُغايِرًا للشِّعر، مُهَيّأً –كما يبدو- للنّظر إليّ بعينين “سوداويّتَيْنِ”، هُو الوَجه الشّعريّ الشّاب “عبّاس ضرغام”، الحامل لِلْملامح الشّعريّة العِراقيّة المُعاصِرة، المُفَتِّشِ عَن ألف شَمْسٍ وَشَمس، فلتنصتوا معي إلى ما ستنطق به هذه الصّورة العراقيّة المُعَاصرَة.
س١/ “عبّاس” والشّعر، ما أصلُ الحِكَايَة؟ هلّا دلَلتني على أوّل منبَتٍ لِبُذُورِكَ؟
_ج١/ عندما كنت في الإعدادية كنت مولعًا بقراءة الكتب الأدبية حالمًا أن أسلك طريق الأدب ذات يوم، وبعد قراءة ليست بقليلة اكتشفت طريق بداياتي، فكتبت وما زلت في البداية.
سلكت طريق الشعر بعد عديد من المحاولات الإنشائية، لم أكن أكف عن المحاولة، كان الشعر قمرًا أحلم أن أُسافر إليه، مجرة أخرى يغويني أن اكتشفها.
س٢/ هل تُصّدقني لو قلت لك: إن أرواح الشّعراء الماضين تَلبَسُ أجساد الشّعراء الحاليّين؟ مَن تراه من الشّعراء -قديما وحديثا- أحقّ باقتفاء أثره وتلمّس خُطاه؟
_ج٢/ لا أؤمن بالحلول والتناسخ كما يؤمن “المتصوفة” في بواكير التجربة، قد يفكر الشاعر أن يكون صدى لأصوات أخرى لكنه سرعان ما يجد صوته ويجد فضاءه الذي يشبهه وينتمي إليه، ربما أكون قد قرأت لعدد غير قليل من الشعراء، لكنني أجتهد أن أكون صوتي، لا أكون ظلّا لتجربة أخرى.
س٣/ هل تعتبر الشّعر وسيلةً لِبُلُوغ الْغَايَات الاجتماعيّة والوطنيّة والإنسانيّة عمومًا، أم أنّك تعتبِرُه هدفًا بِذَاتِه تُحَملِق فيه، فَتُشهر –أثناء ذلك- كُلَّكَ مُسدِّدًا مُقَارِبًا؟
_ج٣/ لا أتبنّى شكل الشاعر القَبَلي؛ الذي يلغي ذاته ليعيش الأنا الأخرى، ولكن أرى الهَمَّ الجمعيّ والإنسانيّ من خلال نافذتي، ليَمُرَّ مني لا أن أدور حوله.
س٤/ كُنْتُ قد قمت بحَملات استكشافيّة استطلاعيّة على أرَاضيك الشّعريّة من باب الفُضُول، فخُيّلَ لِي أنّك تحرص -لا إراديّا- على تشَكيل لُغَة خَاصّة بِك، تتبعك إذا مشيت، وتطير بك إذا أقسمت على التّحليق، حتّى قُلتَ: “إنّني أطالب الشّعر بما وراء اللّغة”، كيف السّبيل إلى ترويض هذا الْكائن اللّغويّ الإبْدَاعيّ؟ مَا المُهمّة المُوَكّلة إلَيه؟ هل هو موقوف على حمل المعنى فحسب؟
_ج٤/ اللغة في العموم هي الوسيلة التواصليّة الأولى التي ابتكرها الإنسان، وأرى اللغة المادة الأساس للشعر، ربما لا أكون متزمّتًا بلغتي ولكن لا أنكر كوني ابن هذه اللغة.
س٥/ نحن الشّعراءَ يزورنا الوطنُ، يطرق أبوابنا على دقّة السّاعة الصّفر، يدّعي الاستئذان، لكنه يقفز دائما من الشرفة المخصّصة للرّؤى، لاحظت أنّ الوطن نفسه قد زارك كثيرا، وكان له حضور لائق، إذ يرتمي على أرائِك صُوَرك الشّعرية كما يشاء، ما هو الوطن حسب اعتقادك؟ هل حدّدت ملامحه ومقاساته جيّدًا؟ هل هو الإنسان الصّارخ داخلك أم أنّه الوطَنُ الوَطَن؟
_ج٥/ الشاعر نتاج بيئته، فهو مُحَمّل بهمومها من قبل الوعي وبعده، والشعر في تكوينه الأول، سؤال الإنسان الأول على الأرض، فلذا أنا أحمل الوطن في نصوص عنه وعن المواضيع الأخرى، وأرى النصوص المبتعدة عن الأرض نصوصا دون حياة، لأن الحياة هي الأرض، والأرض هي الوطن بمفهومها الضّيّق.
س٦/ لقصيدة النّثر دويٌّ قوي داخل مَعارِكِك الشّعريّة، ما السّرّ في ذلك؟
_ج٦/ القصيدة النثر هي ما يعيش الإنسان الآن، تعطي المساحة المجانية للكاتب الذي يكتب عن نفسه وآلامه، هو في الحقيقة يحرث بالقلم نفسه، لا ليزرع شيئًا يحصده لاحقًا، لا، الأمر ليس كذلك، إنه يحاول أن يجعل من آلامه أشياء مرئيّة، أن ينظر إليها لاحقًا فيجدَها، أن يقرأها في وقتٍ لاحق ويشير إليها قائلًا: هذه آلامي.
س٧/ أنت تنفي الحَجَر عن نُموّك في مجموعتك الشّعرية الأخيرة الموسومة بـ” لن أنموَ حَجَرًا”، ماذا تقصد بالحجر؟ هل يكون للحجر حقّ في النّمو كذلك؟
_ج٧/ أعني في إحدى مقاصد عتبة عنوان ديواني “لن أنمو حجرًا” إنني أصرّ على النّموِّ، لكن ليس كما يُرَاد لي، لست حجرًا لا إرادة له في ما يدور حوله، منسجمًا مع رغبة الجيل الشعري، والجيل بصورة عامة، لا بكسر “التابوهات” والأنساق الموروثة، ليكون هذا الديوان انتفاضة نصيّة على كل ما جرى ويجري.
س٨/ استفحلت ظاهرة الغموض والألم والحزن في الشّعر العربي المُعاصِر، حتّى أصبحت قضيّة من قضايا النّقد الأدبي المُعاصر، هل ترى الحُزن والضّبابيّة بمُجمَلِهَا مَخرَجا مُخلّصًا للّذات الإنسانيّة من سجونِها المُتعدّدة؟ هل تؤمن بالحُزن المُخَلِّص للإنسَان؟
_ج٨/ لا أتبنّى الضبابية في كتابة النص الشعري، ولكن أحب لِنَصّي أن يكون مزيجًا بين المألوف وغيره، لا أميل للضّبابيّة والانغلاق، وفي نفس الوقت لا أميل للسّطحيّ من الصور والتّعابير، فأنا أقف في مسافة وسيطة بين المساحتين.
س٩/ هل تسمحُ للنّقد الأدبيّ أن يطَأَ أراضيك الشّعرية، أم أنّك تُفَضّل مرافقة الشّعرِ وحده في سماء المُطلَق؟
_ج٩/ لا أمانع من أن يَفِدَ النقد على بساتيني ليعزّز ما وفقت فيه، ويريني ما فاتني في تجربتي الشعرية، لا مناصّ للشاعر من النّقّاد، لأن العمل الذي لا يُقيَّم لا قيمة له.
س١٠/ أخيرا، أقول لك: “في قَعرِ الجُبّ ذائقة آملة في النّجاة، هلّا مددتها بالحَبل السُرّيّ لقصيدتك الأمّ؟ إليّ بــ”كليوباترا” شعرك –إن صحّ التّعبير- تَكَرُّمًا.”
ج١٠/ لم أُولَد حرَّاً _
لم أُولدْ حرّاً
إلا أنَّ الأرضَ التي بَصَقَتَنِي عالمَ ذَرّ
أجهضَتْنِي سُؤالاً مقلُوباً
سؤالًا كثيرَ الصُّراخِ
_ ولأنَّكِ من سُلالةِ الضّجيجِ لا أحدَ يسمعُك
قالَ العُشبُ:
قطعوا سِرَّ إجابتي من نحرِها
خوفًا من أنْ يُولدَ سؤالٌ آخر
لمْ أُولدْ حُرّاً
إلَّا أنَّ اللغةَ تحتضنُ أيَّةَ نكرةٍ
تبحثُ عن تعريفٍ
احتضنتني يتيماً غائماً يبحثُ عن سببٍ ليُمطِر
احتضنتني لأُمشِّطَ شعرَ الأبجديّةِ باِعتكَافي
ألبستني زينةَ هِنْدامِها
لأظهرَ على حرفِ “لامٍ”
أخذتُ أَجُولُ حقولَ الكلماتِ
مُفردَةً مُفردَةْ
واضعاً مِسْحاةً خلفَ ظهري
وكأنَّني “أل التعريف”.