دعا زكريا ربه قائلا: “رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ” فكان الجواب من ربه جل وعلا ” يا زكريا إنا نبشرك بغلام “فجاءت البشرى من الله بالذرية الصالحة.
وحينما جاء الملك للسيدة مريم قال لها ” إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا “
إذا فالذرية الصالحة هبة ومنحة من الله سبحانه وتعالى لعباده، تقرّ بها عيونهم، وتنشرح لها قلوبهم، فالعين القريرة هي الباردة الهانئة التي تسعد برؤية من تحب .
ليس هناك أقربُ للإنسان من ولده الذي فُطر على حبه، وجُبِل على الهُيام به، وكما يقول الشيخ الشعراوي: أنت تحب ابن عدوك الذكي بعقلك، وتحب ابنك الغبي بقلبك .
وحينما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرّب التشبيه لحب الله لعبده ، وعدم رغبته سبحانه وتعالى في تعذيبه قال لأصحابه أرأيتم هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟
قالوا : لا يا رسول الله
قال : لَله أرحم بعباده من هذه بولدها ” أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقد وثق الله تعالى هذه العلاقة القوية بين الٱباء والأبناء بقوله : ” ٱباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا “
بل وحينما ألقت أم موسى ولدها في اليم قال تعالى مصورا رهبتها وشتات عقلها ” وأصبح فؤاد أم موسى فارغا “
قال أغلب المفسرين : أصبح فارغا من كل شئ إلا خوفها على ولدها ، حتى أنها نسيت عهد الله إليها” ألا تخافي ولا تحزني “
أبناؤنا فِلذاتُ أكبادنا تمشي على الأرض، فالابن امتداد لأبيه، وهو من عملِه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أو ولدٍ صالحٍ يدعو له، فلم يقل أو أخ ، أو عم ، أو خال ، أو صديق، إنما خصّ الابنَ لأنه جزء من أبيه .
وقد خلّد الله تعالى ذكر إبراهيم الخليل، وقال عنه أنه أمّة لأنه جازف ولم يتردد في أمور محال أن يُقدمَ عليها امرؤ من بني البشر، منها أنه عزم على ذبح ولده الذي رزقه الله إياه بعدما بلغ من الكبر عتيا، فقد جاوز الثمانين وقتها لمجرد رؤيا منامية، وهل يوجد أبٌ يستطيع حمل سكين ويأتي بابنه ليذبحه؟
حب الٱباء للأبناء غريزة جُبلوا عليها ليست بإرادتهم، ولا بأيديهم، فالأب يفرح لفرح ابنه، ويحزن لحزنه، وقد يحرم نفسه ليعطيهم، وقد يجوع ليشبعهم، وقد يتألم ليريحهم، ويُفني عمره لتطول أعمارهم .
لذلك يا ولدي أوصيك بهذه الوصايا، وهي خلاصة تجارب الحكماء والعلماء والعقلاء لتحملها في قلبك قبل عقلك، ثم تضعها نصب عينيك مادمت حيا لتكون لك سراجا منيرا تضئ لك طرق الحياة فلا تضل ولا تشقى.
يا بني :
لا تهتم بدنياك على حساب أخراك، فتخسر هذه وتلك، ولتعلم أن تسعة أعشار العافية في التغافل .
ليس الغبي بسيد في قومه
لكنّ سيد قومه المتغابي
فلا تدقق في كل الأمور، وتجاوز عن سفاسفها .
ولا بد أن تُبتلى، وأن ذلك البلاء إما محنة، وإما منحة، فإذا صبرتَ وشكرتَ كان منحة ترفع قدرك، وتُعلي شأنك، وإما محنة ونقمة بسبب جُرم اقترفته يداك، فراجع نفسك، وفتش في عملك، قال تعالى ” فبما كسبت أيديكم “
ولتتيقن بأن طريق العلياء ممهد بالأشواك، والأحجار فلن تصل حتى تتحمل ٱلام الأشواك، وصدمات الأحجار.
ألا ترى البحر تعلو فوقه جيفٌ
وتستقر بأقصى قاعه الدررُ
وفي السماء نجومٌ لا عداد لها
وليس يُخسف إلا الشمس والقمر
يا بني: احفظ لسانك إلا في ثلاث : حقٍّ تظهره، أو باطل تدحضه، أو علمٍ تنشره .
لسانك لا تذكر به عورةَ امرئ
فكلك عورات وللناس ألسنُ
وعينك إن أبدت إليك معايبا
فصنها وقل يا عين للناس أعين
يا بني: تواضع فإن التواضع من شيم الكرام، ولا تتكبر فإن التكبر من شيم اللئام، ولكن عليك أن تفرّق بين التواضع والذل، وبين عزة النفس والكبر، فلتكن متواضعا في غير ذل ، وعزيزا في غير كبر .
يا بني : اعلم أن الشجاعة صبر ساعة، يعني كلما زاد تحملك ارتفع قدرك واغتاظ شيطانك، وأن الصبر طريق النجاة ” وقال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا “
فقد يدرك المتأني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
وكم فات قوما جلُّ أمرهم
من التأني وكان الحزم لو عجلوا
يا بني: حاول ألا تنام إلا وأنت مستريح البال هادئ النفس مطمئن الوجدان، فلا تضع الهم بين عينيك، ولا تحمل وساوس الفكر بين ذراعيك.
فالهم يخترم الجسيم نحافةً
ويشيب ناصية الصبي فيهرم
يا بني: احذر الشماتة فإنك ما شمتَ بأحد إلا وحاق بك ما نزل به، فكما قال الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم : لا أذكر أنني شمتُ بأحد إلا وقع لي ما شمتُ به .
لا تظهر الشماتة لأخيك
فيرحمه الله ويبتليك
يا بني: كن متسامحا، فإذا بدر من صديقك ما يسؤك فاغفر زلته، وأقل عثرته فبذلك تملك قلبه، وتأمن مكره، ولا تكن ألدّ الخصام، كما قال تعالى” وهو ألدّ الخصام ” أو كما قال صلى الله عليه وسلم ” وإذا خاصم فجر “
سامح أخاك إذا خلط
منه الإصابة بالغلط
وتجافَ عن تعنيفه
إن ساء يوما أو قسط
وفي الأخير أقول لك: يا بني:
ازرع جميلا ولو في غير موضعه
فلن يضيع جميلٌ حيثما زُرعا
فأكرم ضيفك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، ولا تضن على الناس بعلمك أو فضلك فيبغضوك، ولا تترفع عليهم شامخا بأنفك فيمقتوك، بل أحسن إليهم تستعبدهم فالناس عبيد الإحسان.
واعلم أن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه .
لا تقطعنّ يد المعروف عن أحد
ما دمت تقدر والأيام تارات
كم مات قوم وما ماتت مٱثرهم
وعاش قومٌ وهم في الناس أموات.