Ayoon Final logo details-3
Search

مأزق العقل في المدرسة المادية الحديثة

أ. د. حيدر أحمد اللواتي

يواجه الفكر المادي الحديث تحديات بالغة التعقيد في قيمة الاستنتاجات العقلية التي يتوصل اليها العقل البشري، فنحن نعلم بأن المدرسة المادية لا تؤمن بوجود مجرد وراء الدماغ وتعزو جميع الأفكار والاستنتاجات التي يتوصل اليها الانسان الى ذلك العضو المادي الذي نطلق عليه الدماغ، والسؤال الكبير الذي يقف عائقا أمام هذه المدرسة المادية هو من أين يستقي الدماغ هذه القيمة والمرجعية بحيث يكون هو المرجع في ترجيح وتقييم الأفكار والآراء المختلفة.

تدعي المادية الحديثة بأن الدماغ هو نتاج نظرية التطور فالإنسان مر بمراحل تطورية كثيرة بدء من وحيد الخلية ومرورا بالثدييات وأخيرا بالسلف المشترك مع القرود ثم أشباه البشر وأخيرا أصبح الانسان إنسانا، وينظر هؤلاء الى أن الدماغ هو أيضا نتاج من نتاجات التطور، ومن هنا فالسؤال الذي يطرح هو أي قيمة في قناعات وحكم عقل نشأ من عقل حيوانات أقرب الى القرود وتطور منه، فهل حقا هناك قيمة لمثل هذا العقل الحيواني؟

إن هذه المدرسة تؤمن بأن العقل هو منتج مادي للدماغ كما أسلفنا، والدماغ كما نعلم قد تطور على مراحل فلقد أضاف التطور بمرور الوقت أجزاء مختلفة اليه فوسع بعضها وقلص أجزاء أخرى، وكان يهدف في كل مراحله الى هدف وحيد وهو البقاء، فالكائن الأنسب للبيئة هو من يبقى، ولذا فإننا نجد نوعا من القضايا العقلية حتى عند القرود مثلا فهناك أعراف اجتماعية تحكمهم هذه الأعراف هي نتاج عقولهم وفي نظرهم هي عين الصواب والحكمة، ومن هنا فالتطور شكل الدماغ البشري بطريقة يهدف منها الى أن يبقي على الانسان ويحافظ على حياته، وهذا مما يزيد الشك والريبة في قيمة الأحكام العقلية، لأن العقل في هذه الحالة صمم لا للبحث عن الحقائق والصواب وإنما صمم ليبقي الانسان حيا ويجنبه المهالك بل ربما يخدعه حتى يحافظ على حياته وبالتالي فان أحكامه منطلقة من هذه الزاوية فهو يقدم لنا الحقائق مشوهة ليبقينا أحياء وليس من باب الصواب والخطأ، وهذا يفقد العقل قيمته تماما ويقطع الباب على الانسان لمعرفة الصواب من الخطأ فلا سبيل الى ذلك لأنه لا يمتلك إمكانات يمكنه التفريق فيها بين الصواب والخطأ.

بل إن القول بأن العقل ما هو الا نتاج مادي يعني بأن أساس العقل هو حركة الأيونات التي تحدث في خلايا الدماغ وهذا يعني أن العقل نتاج حركة لأيونات لا تحمل وعيا فهو أقرب لحركة ذرات التراب عندما تهب فيها ريح، فهل يمكننا أن نثق بأن هذه الذرات التي هبت بها الريح ستنتج لنا نتاجا يفرق بين الحق والباطل وبين العلم والخرافة، إن من يأمل بذلك كمن يأمل بأن هذه الذرات التي تحكمت بها الريح ستبني له بيتا ضخما يسكن فيه.

ومن هنا فان صرح المعرفة وصرح العلم بكل تفاصيله لا يمكن الثقة فيه بل وحتى نظرية التطور ذاتها لا يمكن الوثوق بها لأنها من نتاج العقل البشري وبهذا سينهار كل شيء ولن يبقى من العلم بما فيها علوم الطبيعة حجر على حجر.

وقد انتبه لهذا التحدي أحد علماء الأحياء وهو الكاتب المعروف كينيث ميللر، وطرح بعض هذه الإشكالات التي ذكرناها بتفاصيل كثيرة في كتابه عن الغرائز البشرية (١).

ولحل هذه الاشكال المستعصي تبنى الكاتب رؤية مفادها أن العقل البشري ليس نتاجا مباشرا للتطور وإنما منتج جانبي وفرعي، اذ لا يمكننا تفسير التضخم الدماغي الذي حصل للبشر كنتاج مباشر للتطور، إذ أن الدماغ البشري نمى من ٤٠٠ سنتيمتر مكعب الى ١٣٠٠ سنتيمتر مكعب خلال ثلاثة مليون سنة ولم يتغير أي عضو في الانسان هذا التغير الدراماتيكي خلال هذه الفترة التي تعد قصيرة جدا من الناحية البيولوجية.

إن هذا التضخم صاحبه أيضا نمو لشبكة عصبية شديدة التعقيد في الدماغ، وهذه الشبكة المعقدة تستهلك الكثير من الطاقة ولكنها كانت السبب في العديد من القدرات الدماغية للبشر.

ومن هنا فلم يكن هدف التضخم الدماغي تنمية هذه القدرات الدماغية للبشر بل كان هدفه الأساسي هو هدف التطور وهو البقاء والحفاظ على حياة الانسان، ولكن هذه القدرات هي نتاج فرعي وجانبي للتضخم الدماغي للبشر.

وعلى الرغم من أن الكاتب أبدع في طرح الحل إلا إن التحليل الدقيق لما طرحه الكاتب نجده يفتقر الى دليل علمي رصين يعتد به، فما طرحه لا يعدوا كونه محاولة تفسيرية تفتقر الى الدليل ولهذا لا ترتفع قيمتها العلمية عن كونها فرضية.

بل ان ما طرحه الكاتب يثير تساؤلا أكبر حول قيمة الأحكام العقلية، فما قيمة أحكام نتجت من منتج ثانوي لنظرية التطور، فعقولنا هي نتاج ثانوي نتج من تطور سلف مشترك مع القرود، فاذا كنا لا نثق بالمنتج المباشر ونشكك في أحكامه فمن باب أولى التشكيك في المنتج الثانوي.

إن سلف القرود هذا يمتلك دماغا أصغر وأقل نضجا حتى من القرود الحالية.

ولذا فقد اتجه بعض الفلاسفة الغربيين الى أن نظرية التطور عاجزة عن تفسير العقل البشري وأنه لا يمكن أن يكون العقل البشري نتيجة للتطور، فلكي تأخذ أحكام العقل قيمة ومصداقية لابد وأن يكون العقل من مصدر له قيمة معتد بها يمكننا أن نثق بما يصدر منه من أحكام (٢).

اننا وعلى الرغم من أننا نرى أن البعد البيولوجي للدماغ يمكن تفسيره بسهولة ويسر من خلال نظرية داروين الا أننا نفرق بين الدماغ والعقل فالدماغ هو ذلك العضو البيولوجي الذي يحتاج اليه العقل كشرط لوجوده ولكننا نؤمن أيضا بوجود بعد لا مادي في العقل وهو هبة من الله المطلق للإنسان وهبه إياه ليفرق به الحق من الباطل ويتعرف به على الكون من خلاله وبالتالي فلأحكامه قيمة عليا يمكننا الاعتماد عليها والأخذ بها، ودون الايمان بذلك فان العقل يفقد قيمته كمعيار أولي يمكن الرجوع اليه للحكم على أمر ما بالصحة أو الخطأ.

المصادر:

1- The Human Instinct: How We Evolved to Have Reason, Consciousness, and Free Will by Kenneth R. Miller 

2- Mind and Cosmos: Why the Materialist Neo-Darwinian Conception of Nature Is Almost Certainly False by Thomas Nagel

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video