Ayoon Final logo details-3
Search

أن تكون إنسانا.. أو شيئا آخر

محمد بن رضا اللواتي

هل من الممكن لأحدنا أن يفقد إنسانيته كما لو فقد شنطته على البساط المتحرك في المطارات؟ وهل من المنطقي والمعقول أن أنسى إنسانيتي كما لو نسيت أن أحمل معي بطاقة هويتي..؟

الجواب وفق نظرية “علم الكينونة” هو بالأيجاب!

بموجب هذه النظرية فإن المستشفيات على هذه الأرض والتي تشهد – غالبا – ولادة قرابة 1484700 طفل يوميا (بحسب worldometer )، إلا أن أيا من هؤلاء لم يولدوا “إنسانا” أو “آدميا”!

إنهم يولدون بشرا! والبشرية لا تعني الإنسانية بالضرورة.

وجود الأعين والآذان والأقدام فيهم تدل على تمامية أبدانهم، إلا أنها لا تدل على تمامية “إنسانيتهم” أو “آدميتهم”، فهؤلاء عليهم – إن شاؤوا – أن يقوموا بتحصيل “إنسانيتهم” خلال سنوات العيش في هذا العالم، وإلا فإن أدركهم الموت دون أن يكونوا قد حققوا إنسانيتهم، فمعنى هذا إنهم أضحوا أشياء أخرى! 

هذه النظرية التي تبدو مستهجنة جدا، قد آمنت بها حضارات موغلة في القدم، كاليونانية القديمة، والمصرية القديمة والهندوسية كذلك، فهؤلاء اعتقدوا بأن الكائن البشري من المحتمل أن لا يموت إنسانا، وإذا عجز عن أن يكون إنسانا فسوف يكون حيوانا عند انتقاله من هذا العالم، وتُعرف هذه الرؤية “بنظرية المسخ” مع اختلافات في التفاصيل.

المذهل في الأمر أن جماعة من المحققين يعتقدون بأن القرآن المجيد قد حوى في معارفه التي عرضها علينا، على رؤية حاصلها أن الإنسان يمتلك في كيانه قابلية أن لا يكون إنسانا!

وهم يستدلون بآيات عدة، منها، قوله تعالى: “وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ۚ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ۖ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ”.

ففي الوقت الذي يرى جمهور المفسرين أن الآية وتأكيدا لحتمية العودة تضرب بالحجارة والحديد أمثلة، فإن للعُرفاء فهم آخر لها. إنهم يقولون أن الآية لا تتحدث فحسب عن أن العودة أمر لا مناص منه، وإنما تتحدث كذلك عن “صيرورات” متنوعة كالحجارة أو الحديد، قد تحدث للبشري إن فقد طريقه إلى تحقيق إنسانيته. ومعناها: لو لم تكونوا إنساً وأصبحتم نهاية المطاف كائنات أخرى فهذا لن يغير في الأمر شيئا وأن عودتكم على أية نحو كانت لا بد منها.

يعلق الفيلسوف “مرتضى المطهري” على قوله تعالى: “وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ” قائلا بأننا قد نختلف بأن هل هؤلاء فعلا قد تغيرت أبدانهم إلى أبدان القردة أم لا، لكن لن نختلف أن التغيير قد نال حتما عُمق كيان أؤلئك، فوجودهم المعنوي وشخصياتهم الحقيقية قد استحالت إلى كائن آخر.

القرآن المجيد في موقع آخر منه ذكر “الناس” مرتين متتاليتين، مرة في مصاف الثمار والجبال والغرابيب والدواب والأنعام، ومرة في مصاف “العلماء” فقال: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ”، وهذا يعني أن عامل “العلم” له علاقة بتحقيق الكينونة الإنسانية وبدونه فالناس أشياء أخرى لم يمروا بعد بالصيرورة نحو الحالة الإنسانية.

وفي الوقت الذي يعتقد أغلب المفسرين أن في قوله تعالى: “إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ” حديث عن دخول جماعة من الناس إلى جهنم مع الحجارة التي تزيد للنار لهيبها، فإن جماعة من العرفاء يعتقدون أن الآية تتحدث عن وقوع صيرورة لفئة من الناس، هذه الصيرورة قد أحالتهم إلى كيانات تتسق مع الأحجار وبذلك تهيئت لأن تكون مما يزيد النار ليهبها، وإلا فإن الإنسانية لا علاقة لها بالسكنى في النار، فإن غدت مؤهلة للعيش في النار فمعنى ذلك أنها ما عادت تمتلك شيئا من الإنسانية بتاتا.

وفي هذا الإطار نشأ تعريف جديد لعلم “الأخلاق” من علم يتناول سلوك الإنسان ليقوم بتهذيبه، إلى علم يتناول كيان الإنسان الداخلي فيقوم بصناعته.

نجد ذك صريحا في كلمات الفيلسوف “مرتضى المطهري” الذي نبه على أن علم الأخلاق ليس علم السلوك والأفعال فحسب، وإنما هو علم (الكينونة). (أنظر الحكمة العملية ص18).

إنه يتجاوز مستوى: ماذا أفعل؟ إلى مستوى: من أكون؟

يتجاوز حدود : ماذا أفعل ؟ فيصل إلى أفق: كيف أحيا وأموت إنسانا وليس شيئا آخر.

“المطهري” تناول هذا الموضوع باعتباره نتيجة لازمة لقاعدة “أصالة الوجود” الفلسفية التي تستند عليها مدرسة الحكمة المتعالية لصدر المتألهين، هذه القاعدة الرصينة التي التي أوقعت –بحسب “إدريس هاني” – إنقلابا في تاريخ الانطولوجيا برمته من الماهية إلى الوجود (أنظر: هاني، إدريس: ما بعد الرشدية: ص56)  فوفق هذه القاعدة الصلبة: الإنسانية تتحقق وتقبل الصيرورة والكينونة ولا يأتي بها البشري معه عند ولادته.

من الالتفاتات القرآنية المذهلة هي أنه عدّ نسيان الإنسان لنفسه مساوٍ لنسيانه لربه فقال: “وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ” وقال: “نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ”، وهذا المعنى تكرر في كلمات الإمام علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه – كثيرا منها قوله: “عجبتُ لمن يجهل نفسه كيف يعرفُ ربَه؟” و “من عرِفَ نفسه فقد عرِفَ ربَه”.

بناء على أصحاب هذه الرؤية، فإن هذه الحالة – حالة أن تكون إنسانا أو شيئا آخر- من مزايا هذا الكائن تحديدا، وإلا فليس بوسع الحيوان إلا أن يكون حيوانا فقط، كما وليس بوسع الملائكة إلا أن يكونوا كذلك.

mohammed@alroya.net  

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video