ما الفائدة من الأثر الذي لا يؤثر؟ ما فائدة الهدم إذا لم يفعل فعله في ضمائر الدراميين؟ لا بل ما قيمة الهدم دون البناء؟ وما هدف من هذا الهدم لهذه الأصنام؟ لقد جرب نيتشه، وماركس وفرويد هذا الهدم وجربه جاك ديريدا، وفوكو وسوليرز، فوجدوا أن المركز والحضور الذاتي لم يعد منسجما مع التحولات التكتونية المعرفية المعاصرة، لذا هدموا كل الترسنات المعرفية الماضوية، من أجل إيجاد إنسان جديد قادر للعيش مع التنوير والحداثة والعولمة، وهذا ما فعله عبد الكريم برشيد في مدوناته البيانية، حيث كسر كل الأصنام الماضوية برؤية لا تعتمد المسلمات ولا مقدسات فكرية ولا أدبية، بل تعتمد المختلف والمؤجل لتفجير ينابيع الإبداع الدرامي، فهل يا ترى يحمل إلينا ما حمل لنا ابراهيم عليه السلام، ليخلصنا من المؤدلجة والتراث المكشوف.
إذن لماذا وضع هذا التقديم كمدخل وكدلالة وجودية؟ إن وضع السؤال هو اختراق للوجود، حيث يتحدد من خلال الصياغة التالية، في البدء كان السؤال، وولدت معه الدهشة لماذا الاختلاف؟ وهل يتحدد الاختلاف بالتنوع وبالتعدد؟ أسئلة متنوعة تتأسس من خلال عملية المصاهرة بين الواقع واللاواقع، وبين الوجود والموجود، وبين كل المفاهيم المحرمة، إذن أين ستجد برشيد من منطق الاختلاف؟ فحضور الاختلاف في كتاباته الدرامية جاء نتيجة صراعه مع نفسه، ومع ذاته، ومع الآخر الذي سماه سارتر بالجحيم، فهذا الصراع دفعه ليصنع نفسه كتابة لا لمعرفة كل المقومات الصادرة عن نقائق الضفادع كما يقول ايليا أبي ماضي. بالغربال عنده هو بمثابة التحر من كل اليقينيات السائدة، لأن موقعه داخل الخطاب الدرامي العربي، جعله يعيد سؤال الاختلاف كقاعدة داخل التمثل المعرفي كبعد أنطولوجي، وكاختيار واختلاف خاص بالوجود الاحتفالي، لأن اكتشاف القارة الاحتفالية الإنسانية هي بعث روحاني وإبداعي، يعيد لهذه الذات المنشطرة في حينها وموقعها داخل اللاتمركز البشري والمعرفي والقاري، لقد ظل تاريخ المسرح وفيا للذاتية، والوحدة، والفردانية، لأنه يتحدد بمنطق الانسجام والتناسب، غير أن بروز الاحتفالية بدأت هذه الأرض بكل طبقاتها تتعرض لهزات عنيفة تتجاوز سلم الرشتر، ويقول نيتشه: إني أعرف تماما مصيري، سوف يرتبط اسمي يوما بذكري شيء مهول، سوف يرتبط بتلك الزلزلة التي لم تشهد لها الأرض مثيلا من قبل، بذلك الصدام الهائل لكل أشكال الوعي بذلك الحلم المبرم ضد كل ما اعتقد به أنا لست إنسانا أنا الديناميت (هشام صالح “الفلسفة بين الإبداع والاتباع” مجلة الوحدة ع60). فالمسرح عند برشيد هو بحث في الممكن، وإثبات فواصل الذات، ورغبة في الوصول إلى الجوهر عبر التعدد وليس عبر الوحدة، ورحلة تبحث في المختلف والتضاد، فالمبدع إذن يحس بجوهر الأشياء وليس بظواهرها، لأنه يملك رؤيا تزرع الاختلاف في الائتلاف، والتعدد في الوحدة كما يرى جيل دولوز في كتابه التكرار والاختلاف، دار النشر يوف – 1976 ص46. فالتعددية إذن ترتبط بالبعد الجواني لتتجسد في العلاقات التناصية الحداثية والمعاصرة، وتتحدد في بنيات النص الدرامي، لأن المسرح سؤال يبحث عن المعنى المشترك، وليجعل الذات المبدعة ملكة متعالية ليس بالمفهوم الصوفي، ولا الأفلاطوني، بل كأنطولوجيا توزع لتجدها توحد بين نموذجها الإشكالي، فالأفكار المتداولة هي إشكالات مركبة في كل لعبة، ولا يمكن أن تكون سوى للفكر المغاير، فبالفكر يتخلخل الواقع الدرامي، وتتهدم الأصنام ويتجدد الإنسان كما يقول جيلدولوز في كتابه منطق المعنى ص68.فاللاحضور الذاتي البرشيدييفكر دوما من خلال الحضور، لأن الاختلاف هو استراتيجية عامة لتفكيك المفاهيم الموروثة من أجل بناء فكر منضاف كما يرى جاك ديريدا، وبرشيد يبدو من خلال كتاباته النصية والبيانات المراكشية والدار البيضاء، أنها تنطلق من أرضية تعددية مستقلة، وبالتالي ليست في حاجة إلى الوحدة لتشكيل خطابتها ومنطقها الدرامي، لأن الاحتفالية هي إرث إنساني، وليست ملكا لبرشيد، من هنا نؤكد أن منطق الاختلاف الفكري والحضاري والمعرفي والفني، ينبغي أن لا تكون هي الأنا كوجود وحدة، وفردانية، لأن الوحدة تعني النموذج، لذا فالاحتفالية هي انشقاق وولادة بدون توقف والمرتبطة بالمعنى المفارق، فلطالما أن الاحتفالية مرتبطة جوهريا بالإنسان، حيث تكمن حقيقة العالم، والكون،والأنا في تصور برشيد في كونها جملة مسارات متفردة، أي أحداثا متزامنة ومنفتحة، وليست لحظات متراصة ومتتالية، تنتهي إلى تغاير عام، هو ما يمنح للتعدد الدلالي، والمعجمي قيمة جمالية، وبالتالي فالمسرح عنده ليس تلك التطورات التي ينفلت فيها الفكر عند تأسيسه، أي ليس عبارة عن اللحظات المتوالية التي يفض بعضها إلى بعض وفقا لمبدأ الاختلاف، بل هو جماع التداوت والصور، والأساطير والرموز، إنه تجاوز للزمكان، وللثابت وللهويةوهذا ما يفسر امتلاء متن برشيد بمفاهيم من مثل “الهوية – الزمن – الوطن – الأمة – الإنسان – الحب – الرغبة – الرهبة – الغربة – الحياة – الموت، لهذا فالبدايات غير ملزمة والضرورات غير حتمية، وهذا ما جعل الاحتفالية تعيد فهم النزعات التاريخية الدرامية التي تلغي الهويات في عالمنا المعاصر.
إذا كان اكتشاف التحليل النفسي من طرف فرويد أعاد النظر في المنظورات المكونة للجهاز النفسي، باعتبار الوعي، أو الذات، أو الأنا، والوجود هي أنوية تمثيلية قابلة للتحول وللتأويل بالمفهوم الظاهراتي، فالثورة الفرويدية جعلت الرؤية المسرحية غير قادرة على المجابهة أمام هذا الاكتشاف الجديد، فالوعي يصبح وجها آخرللاواعي وهذا التصور الفينومينولوجي الذي يرى في الوعي أصل الدلالة وأساسها قد أصبح موضع شك وارتياب، لأن المنطوق يستمد فعاليته من الرمز، ويرى بول ريكور، إن نيتشه يمكن أن يوضع داخل نزعة بيولوجية ضيقة، وماركس داخل الاقتصاد الماركسي، وكذا فرويد داخل الأمراض العقلية، والجنسي، فهذا البعد السكولائي يدرج كل واحد في حقل معين، إذن ينبغي تكسير هذه الحواجز الوهمية لمعرفة الأنساق الموظفة للإنسانية داخل الثقافي العالمي، فقول الحقيقة هي إبداع الفهم والتأويل ضد نرجسية الوعي، ليس بمثابة إلغاء أو محو، بل توسيع مساحته، فماركس أراد أن يحرر البراكيس عن طريق معرفة الضرورة، وهذا التحرر دليل مؤكد عن إعادة مكانة للوعي، أما نيتشه فأراد الريادة في إرادة الإنسان، وهذه الإرادة هي السبيل الوحيد لمعرفة خدعة وعينا بالقيم، وفرويد يريد أن يعيد مبدأ الواقع عن طريق الوعي الزائف، إذن نطرح السؤال لماذا فشل البعد الظاهراتي للوعي عن الاستجابة؟ فالسؤال المركزي إذن هو الذي يميز هذا الكائن عن الكائنات الأخرى لأنه ينطوي على معاني غير عينية، وهذه المعاني يمكنها أن تنفلت من الفكر لتتمركز في اللامفكر فيه، فهو سر قد ناقش المفكر فيه واللامفكر فيه، ولكن بمعنى السلبي حسب ريكور، لأن اللامفكرالبرشيدي ينطوي على إمكانية الاستجابة إلى وعي مركزي، وهذا الغياب ليس غيابا ميتافيزيقيا، أو مستقلا، بل هو حضور تتخلله فراغات قابلة للامتلاء، ويقول ريكور في هذا الصدد <<وإن كان من جوهر هذا الوعي ذاته أن يكون ذا حضور أساسي، وإنما يكون وجوده تدريجيا، لأن فرويد في اكتشافاته لا يسير على نفس الوثيرة التي سلكها البراهين الفينومينولوجي>>. فالنقد الريكوري قد وضع الطابع الكانطي لرسم الحدود مع إمكانية المعرفة والظابط الراسم لهذه الحدود المعرفية، فبرشيد لم يركن إلى المطلق اليوناني، ولا الغربي، بل جعل الفكر الاحتفالي يرتبط بالإنسان، وبالوجود وبالمعرفة، وبالقيم وبالذات وبالجسد وباللغة وبالإبداع، لأن عملية الموضوعية، والوعي والفهم والاحتفال، كلها مفاهيم نموذجية غير معيارية، تجعلنا ندرك الذات البرشيدية التي ليست وعيا سيكولوجيا، كما يرى بول ريكور ص238، لأن الطابع السيكولوجي هو إعادة النظر في الذات العارفة، وكذا إعادة صياغة الكوجيطو من جهة أخرى، لكن السؤال المطروح من أنا؟ ص218، فالفصل بين لا يقينية التمثل والتصور حسب هوسرل وبين الطابع اليقيني الديكارتي هو الذي يقربنا من الأنا التي تبقى بدون جواب، لأن الرغبة والدافع تظهر الأنا قبل الوعي والإرادة، إذن فالأنا موجودة قبل الأنا المفكرة كما يرى ريكور ص240.
فالإرادة عند شوبنهاور، والرغبة عند سبينوزا وأرسطو لابد أن تندمج مع العالم لصياغة رموزها لكي تصبح قابلة للفهم والتأويل.
فبرشيد أعاد قراءة هذه الإرادة من منظور نقدي، لأن هذه الأنا عند عالم برشيد لم تأتي صدفة، بل نتيجة وليدة ظروف كان الإنسان يحس بأنه سيد العالم، وأن الأشياء مستقلة عن الأنا، ولم تكن العلاقة نسقية سواء على مستوى الدلالة أو التركيب، بل أصبح البعد الأنوي هو السلطة في تاريخ الفكر البرشيدي والمعرفة والفلسفة، وكان يعيد النظر في كل شيء لاحق أو تابع عن طريق التأويل، لكن ريكور لا يرى في ذلك إلا رؤية انتربولوجية التي تحاول أن تجعل البرشيدية أن تفكر ضد ذاتها من أجل فهم هذا الجسد ضد نفسه، فالقراءة النقدية والتنطيرية الموضوعية تستدعي من برشيد البحث في مفهوم الوعي في ضوء الاكتشافات الفلسفية والإبداعية، بشكل يصيح فيه المكتشف هو البؤرة، والجوهر في كل عملية تأويلية، وهذا ما أكده هيجل بأن الوعي الفردي لا قيمة له إلا داخل النظام الجماعي، وهو ضد كل نزعة فردانية، لأنه الإحساس والوجود والعقل والروح المرتبط بالتاريخ الكلياني، ويرى هيجل أيضا أن الوعي المطابق لذاته ليس أصل ولكنه نهاية، كبيرة وميلاد الذات الراغبة في الآخر، وهذه ليست جدلية، بل هذه العلاقة هي علاقة ملكية، وسلطة، وقيمة، فالملكية الفردية تولد لنا المشاعر والأحاسيس والرغبات في التملك كبعد اقتصادي كما يرى كارل ماركس، مما يجعل الإنسان الغير الاحتفالي أن لا يعيش الاستيلاب، والتشيؤ، والاستغلال وأخيرا الاغتراب، أما فالسلطة الاحتفالية حسب برشيد، فهي مرتبطة بالروح الموضوعي الذي يسود المؤسسات الدرامية، حيث تتحقق عبرها الهيمنة، أما القيمة فتتمثل في الأشكال الخيالية التي تريد أن تعكس الواقع أو تؤدلجه كما يرى بيير زيما، فالفنان في مواجهته للعالم، يحس إحساسا شديدا بهذا الشعور الذي يحتويه، وهذا الممنوع الذي يدفعه للبحث عن جاذبية رمزية، باعتبارها شكلا غير عصابي للخداع، فالفن الدرامي حسب برشيد هو صورة لحل هذه الصراعات الداخلية، لأن الإنسان لا يمكن أن يكون حيوانا يقوده مبدأ الغريزة ولا كائنا مقدسامتحررا من الدوافع الغريزية ص158. فالذاكرةالبرشيدية تعتمد على مخازن خاصة في الدماغ منفصلة عن المكان الذي يتعامل الدماغ مع المعلومات الحسية الواردة من العين أو الأنف، لكن الذاكرة الاحتفالية تعمل على جمع المعلومات الحسية والوجدانية الأكثر صلة بالبيئة ثم تلخصها في شكل رمز بسيط يعيشه الإنسان دون وجود جدار ولا ظلمة كما يرى برشيد، بل عليه أن يحتفل مع الجماعة.
إذن لابد من التفاعل بين الأدب الدرامي البرشيدي والعالم الخارجي، كما يرى هيدفديف وذلك من أجل تأسيس رؤية العالم، ليس بالمفهوم الذي استخدمه دلتاي (التأويل والمثالي)، إذن كيف يتم الخروج من وضع التمذهب داخل الأنساق إلى تخليص ما هو مكتشف في تكوينه والكائن من قبضة الإقصاء؟ فالسؤال إذن عبارة عن موقف معرفي ذي المفاهيم المتناثرة من الفكرالبرشيدي في وحدة واحدة والتي تعطيه حياته الخاصة ومعناه المتميز، فبرشيد شأنه شأن بول ريكور لا يقف عند باب من أبواب معرفة ما، ولكنه سيطرق باب الكائن عبر عملية تأويل التأويلات والسجال معها، فالتأويل عنده لا يماثل انطولوجيا الفهم الهيدجري، بل يعمد إلى الحوار والسجال الفلسفي عبر ابستمولوجيا التأويل، فالذاكرة العاملة البرشيدية تسمح بمعالجة وتطيير المعلومات المخزنة، ويؤكد كلايتونكيرتس في جامعة نيويورك في موقع (لايف ساينس Live science) فحاول مع طالبته أن يقدم لنا تقنية مسح للدماغ عن طريق التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMR) وقياس نشاط المخ برصد التغيرات المرتبطة بتدفق الدم إلى أجزاء مختلفة من الدماغ، وكلما تدفق الدم في الدماغ كلما ازدادت الخلايا الدماغية بإحساس بالسعادة وبالعمل، وهذا التصوير للدماغ الاحتفالي عن طريق النمذجة الحاسوبية، والقشرة الجدارية إذن هي المنطقة الأساسية لمعالجة الذاكرة الاحتفالية حسب برشيد.
فالتأويل البرشيدي للتيارات المسرحية العربية والعالمية جعلته لا يقف عند البعد النصي، بل دفعته إلى كتابات مانفيستو احتفالي لكي يقترب من البعد التيولوجيوالانتولوجي، لأن الذات الواعية البرشيدية حاملة لمشروع القصد واليقين الدرامي، فهذه الكتابة غير منفصلة عن الوجود، والموجود، حيث تتعدد بتعدد التنوع والاختلاف للزوايا الإبداعية، محاولا رسم حدود الكائن والممكن ولا تناهيه مع الفلسفة الدرامية التجريبية، باعتبارها صيرورة جماعية حسب هيجل، فالكتابة البرشيدية تفكر في الأصل الجذري للأشياء والإنسانية، فهي أيضا كشف عن التمثلات الميلادية البشرية والأثرية، وبهذا المعنى نقر بأن برشيد وريث عقلانية تأليفية تجريبية لأن موقفه من المسرح العربي هو موقف وضعي، ذلك أن الخداع الكلاسيكي والرومانسي والواقعي الدرامي لا تقابله قيمة في الواقع. إذن فالاحتفالية هي سعادة الروح والجسد، لأن هذه فالنماذج التأويلية الموقعية والتبادلية الدفاعية جعلت برشيد يشيدانتربولوجية تأويلية درامية، لكي يقربنا من الأساطير الاحتفالية والتراجيدية ليست قصص وهمية وغير عقلانية واقعية، وغير قابلة للاختزال بل إلى ما هو قابل للتثبت التجريبي الدرامي كما يرى بول ريكور في فينومينولوجيا الدين، ويشير برشيد إلى أن تحرك التأليف في فضاء المسرح، واعتماده للتأويل الفلسفي لم يمنعه من محاولة موضعة كل إبداعاته داخل الفضاء الدرامي، وهنا تبرز النزعة التجريبية للتحليل المسرحي للظواهر الإنسانية، وعليه يصبح من مهمة الانتربولوجية الدرامية التي يدعو إليها برشيد، فهي قلب المعادلة داخل القارة الابستيمية الدرامية، لذا فما عاد المشكل متعلقا بتحديد علاقات الموضوعية بين ذات عارفة وموضوع معروف، ولكنه أصبح مشكل تحديد مفهوم الكائن وماهية الكينونة، فبرشيد في بدايته اهتم بالذات بما يناسبها من مستوى معرفي ذاتي، وهذا الحصر الداخلي للذات واختزالها في نظرية القصدية والدلالة، أي أن الذات لا يمكن لها أن تحقق وجودها إلا ضمن علاقات بالعالم وهذا ما نجده عند ديلتاي الذي يرى بدوره أن العلاقة هي الجذر المشترك بين الإنسان والطبيعة والتاريخ، فالبحث البرشيدي في الكائن وفي ماهيته، والتحقق التاريخي هو حفر ما وراء المعرفة المطلقة والعلمية من أجل الوصول إلى علاقة الإنسان في تاريخيته، فممارسة النقد على التاريخ، والمعرفة والثقافة والسياسة هو رسم حدود النقد التأويلي لاستيعاب مشكلة تكوين الذات، إذن فالسؤال المطروح: كيف نفهم الجسد؟ وكيف يتصارع الجسد مع الفهم والتفسير؟ إن هذه الأسئلة غير محكومة بالتأويل الساذج، وإنما يتعلق الأمر بالكائن المرتبط بالمعرفة التاريخية، وبالفهم الأنطولوجي الذي يعيد لنا صورة الممكنة حول هذا الكائن الحي، فبرشيد ينطلق من الممارسة البصرية والحسية، والسمعية والذوقية ليبني لنا وجهة أداتية، غالبا ما تتحول إلى محطة من محطات السبيل المنهجي في الممارسة الكتابية داخل الحقل المسرحي، فحتى لا نكون أشعريين ولا أفلاطونيين، ولا رواقيين، فبرشيد يقربنا من الطقوس الطاوية، والهندوسية، والبوذيين والبربريين، والمصريين القدماء كلها ممارسات تنظر إلى العالم من الداخل لتعرف الخارج، وهذا اللاحدود الفاصلة بين التصورات الاحتفالية، والافتراضات من هيردوت الذي حدد مصطلح “البرابرة كأناس الذين يختلفون عنا،وكان تاريخ هذا المصطلح مستكشفا للتنوع البشري حسب الأنتربولوجيين، ولكن هذا لم يمنح هذا المصطلح من اتخاذه مع مرور الوقت، إنسان غير متحضر، وغير متمدن، والمتوحش، والجلف والقاسي1” ورأى أرسطو أن العبيد والبرابرة محرومون من استعمال العقل والتخطيط، ونجد هذا الاختلاف راجع إما إلى البيئة، أو المناخ، أو إلى النظام الاجتماعي، من هنا نستخلص أن القراءة للهامش الاحتفالي جعلنا ندرك أنه لا يخضع لمنطق واحد ولا قراءة تجريبية واحدة، وهذا ما أكده برشيد في رحلاته المستمدة مع شعوب، وقبائل، وأناس ويقول مايكل كول “لا يعدم المرء روايات تصف الشعوب التي تقطن الساحل الغربي لإفريقيا بأنهم لهم وجوها كوجوه الكلاب، وأسنانا كأسنانها، وأنهم شيقون متوحشون وآكلة لحوم البشر2” وهذا التصور للمتفوق العرقي، والمعرفي، يجعل فعل الكتابة، بدورها تتخذ الدراما اليونانية كنسق توحد بين الذات والموضوع، وترفض كل نسق خارجي، وهذه الثنائية الميتافيزيقية الأرسطية التي تهيمن على مفكري عصر النهضة، وعصر الأنوار، وعلى بعض الاتجاهات الدرامية الحديثة والمعاصرة، وهذه المنهجية الصنمية التي ينادي بها المركز، جعلت العديد من الدراميين يرحلون إلى الشرق الأسطوري والرمزي سواء على مستوى الشعري، أو الروائي أو المسرحي، فاستمدوا منه مادته الأولية سواء على مستوى الوعي والفهم أو الإدراك الوجودي، وهذا ما دفع برشيد في بياناته الأولى إلى رسم معالمه الخاصة سواء على مستوى التأسيس أو على مستوى التجريب، إنها صيحة خارج القواعد الضابطة لهذا الفن الدرامي، حيث لا يقف عند هذا الحد النصي، بل يقودنا إلى تناول موضوعات التي تأتينا إما من العصر الجاهلي “امرؤ قيس في باريس” أو من العصر العباسي ليسكن بين ظهراننا “كابن الرومي في مدن الصفيح” ثم “عرس الأطلس”، و”لعبة الوجوه والأقنعة” و”سالف لونجة” وغيرها من المسرحيات، كلها تتركز على تطويع التراث كما في مسرحية “قراقوش”، وليجعل من هذا الإرث سلطة أبوية، ومنطلقا تناقضيا على المستوى السياسي والاجتماعي، فقراقوش هو بوذا يبحث عن النعيم والماء، والمحترف لكل الحروف من أجل تحقيق أغراضه، لكن بوذا يخالفه في صورته وفي أخلاقه، فلم يسجن كما سجن قراقوش من طرف الملك تيمور، وهذا التفلسف الدرامي لم يسيده العصر، ولا ذوو الوجاهة الاجتماعية، ولا حراس الجهل المقدس، بل اقترن بالفضيلة والحكمة3 والتحرر من أجل خوض نزاع مداره الجوهري الذي هو اكتساب المشروعية الاحتفالية – اجتماعيا وثقافيا كما عند أندري جيد وجان كوكتو، فبرشيد يعيد الوعي كإشكالية تربط الذات وبين القدرة المتمثلة كإمكانية للوجود الإنساني الممكن، لكي يتحقق هذا الممكن من خلال الأفعال، والمعرفة، والاعتراف بها، إذن كيف بناء صورة لهذا الطود العظيم برشيد – منذ سنة 1971 إلى يومنا هذا، فاستحضار صورة هذه الذات العارفة، هو استحضار للبنيات المعرفية والإمكانات المحددة للشرط الإبداعي، كالروح الخاص والجسد، والفكر والحكي، وكفلسفة الأنا، فبرشيد ينطلق من الذات المرتبطة بتراسل الحواس لكي يبدع لنا شعرية درامية، ورؤيا نقدية وتنظيرية وتجريبية في هذا الحقل، إذن يتبين من خلال ما كتبته أنا والدكتورة بن المداني ليلة حول هذه القدرة الفاعلة فالقصد في عمقه الدرامي هو قصد إبداعي بالمعنى العام للنظرية الإبداعية، وترى الدكتورة بن المداني في هذا الشأن، أن الاعتراف بالإنساني، وبالذات هو كل وذلك في إطار حوار وتفاعل دائم بين الذوات، وداخل فضاءات درامية كما في مسرحياته المذكورة، فالحضور البرشيدي هو حضور للتعايش بين الماضوي والحاضر، وبين الذاكرة والتاريخ، وبين المنتمي والمحتمل، وتقاسم المشترك بين الممثل وذاته، كما يرى برشيد، فالاحتفالية كما تقول الباحثة بن المداني ليلة هي تأصيل ثقافة الاعتراف في بعدها الكتابي والتشخيصي، والركحي، والنقدي، إنها تحميل المسؤولية لهذه الذات المتلقية، حيث يظل السؤال قائما بداخلها، مما يجعل العبء يعود لما أسماه كانط”مربو الجماهير”، أي المتنورون من المفكرين ومؤسسات المعرفة والتكوين والتربية4 فعبد الكريم برشيد يغاير في بياناته كل ما ذكره هيجل حول هذا الفن، فهذه الأخير – هيجل – يرى هذا الفن بمثابة تزيين للتاريخ، حيث يستمد مفهوم الروح المطلق الذي يتجاوز التاريخ وجسده، ويتجسد عبره، مستمدا من هذا المفهوم معناه، ولذا في حال التطابق الكلي بين المفهوم والتاريخ لا يعود مبرر للفن، ووظيفته5، وهذه الرؤية الكليانية التي تحتوي الفرد، جعل منها برشيد أفقا مفتوحا ولا نهائي، لكي تأخذ الذات هويتها وماهيتها بمفهوم هيدجر، فالانفتاح حسب برشيد هو الذي يقربنا إلى سؤال الكينونة والوجود، لأن التفكير البرشيدي ميال إلى الإظهار والإبانة والكشف الوجودي وليس الذهني، بل الوجداني واللغوي، لأن اللغة تسكننا، فهي التي تكشف دواخلنا لكي يتأسس الوجود الاحتفالي الإنساني، وترى الباحثة بن المداني ليلة، أن فلسفة الوعي عند برشيد هي فلسفة تعيد لهذه الذات أسئلتها، ماذا يمكنني أن أعرف؟ ماذا يتوجب علي أن أفعل لكي أكون إنسانا احتفاليا؟ فالبحث عن السعادة – دوبامين –هو الذي يجعلني أن أكون أنا – فالتفكير لم يعد ممكنا في امكاننا هذا إلا في الفراغ الذي خلقه اختفاء الإنسان، فبرشيد كما ترى الباحثة تجاوز الذاتية من خلال اللغة الإبداعية والإيحائية، لأن اللغة الدرامية هي التي تنطق من خلال العالم الخارجي وتفهمه من خلال هذه اللغة، لأنه يقدم لنا ذاته بشكل عفوي وكمعطى ثابت، فاللغة الدرامية تجعل برشيد في نصوصه حاضرا داخلها ليس كجملة اسمية، ولا وصفية ثابتة، ولكن بكيفية بنائية لمفهوم الكتابة اللاحقيقية، إنها كشف وتعرية للثابت لمعرفة التحول، والمضمر، فما هي الكتابة عنده كما تقول الباحثة إنها تحرر، وحقيقة، فعبر هذه الحقيقة نفهم ذواتنا، وهي تتواصل مع الداخل والخارج، فما دمت أنا الكائن العاقل والعارف والمتمكن، فأنا إذن حارس الوجود كما يرى هيدجر (ميشيل فوكو “الكلمات والأشياء” ص353). وانطلاقا مما ذكرته، فإن ماهية الاحتفالية تبقى مفتوحة وقابلة للتأويل، ما دام المبدع ينكشف مع الاحتفال، هكذا يتلاقى المبدع مع المتلقي في تجربة الوجود الاحتفالي، ومعنى هذا أن علاقة برشيد بالاحتفالية ليست علاقة تطابقية، ولا مؤانسة، بل هي تفكير في حالة الكائن الحي6، إذن كيف نخرج من هذه الحالة الصنمية المهيمنة في تراثنا ونفكر في ماهيته؟ سؤال يطارده كوجود مضمر، وكحركة باطنية، يحاول دوما أن يضعه أمامه ليس كتصور ولا تمثل، بل كلغة وماهية ووجود وجسد وروح وكسكن طقسي احتفالي، يتأسس عبر المواجهة للانعزال والقمع، والقهر، فالمبدع برشيد لا يريد أن ينظر إلى الواقع كما يراه علماء الاجتماع، بل في بعده الاختلافي، والذي يطبع الثقافة الدرامية، لأن تأصيل المختلف بكل أشكاله ومستوياته وأبعاده وعبر امتداده الزمكاني، جعل برشيد يشرب من كأس القرامطة والعكاكزة والصوفية، وشعراء الصبوة، لأن هذه الخروج على الطغيان التراثي هو الوصول إلى الإنسان بما هو إنسان كما يقول ادونيس في كتابه “الثابت والمتحول7”. وانطلاقا من هذا كله فعبد الكريم برشيد أراد أن يحطم تلك الأصنام التي سيجها “العرف، والتقليد، والعادة” بمطرقة نيتشوية قادرة على خلق المساحة بين الماضي والمستقبل، وبين الماضي والحاضر، وهذا الأخير كما يرى جاك ديريدا يرتبط بالأثر8 فالأثر عند برشيدTrace يتوفر على الأصل، وهذا الأصل ينبغي خلخلته من الداخل لمعرفة الأصل، فالمختلف عنده هو الذي منح لهذه الكتابة حركية وتميز وانفراد، فلا وجود لمسرح دون نص، ولا نص بدون ممثل، ولا ممثل دون مخرج، ولا مخرج دون مؤلف ولا سعادة بدون شقاء، ولا وهم بدون حقيقة، فهذه الثنائيات تبقى كتحقق غير مؤجل لكونها مرتبطة بأسئلة الوجود الإنساني، الباحث عن المغايرة، واللاتماثل، واللامنطق، والتنوع والتعدد، لذا عمل برشيد بالكشف عن المقموع داخل تاريخ المسرح، لكي يكون اسما جديدا ومكتشفا داخل هذا التاريخ المؤدلج، وجماع القول فحضور الذات البرشيدية من داخل التقابل الوعي واللاواعي، والحضور والغياب، يقربنا إلى الهامش المرفوض، والمقصي وإلى المثقف، والعاهرة، والحرية، والسجن، والمختفي، والجسد – والروح، والذات، والعدل، والمساواة، كلها تيمات تحدث ثقبا في جنسية التراث العربي والأمازيغي واليهودي، وتبدو لنا كرؤية جمالية، وتنتهي كسلطة استعارية وكمنطق انتقادي حضوري جوهري وزمني وككوجيطو جديد في المنظومة التربوية المسرحية، لذا يبقى هذا المقال كترتيب زمكاني ، لا يقف عند الانسجام الجملي،بل يهدف إلى تكسير أفق انتظارات المسرحيين البسطاء الذي يتمسحون بالبعد التراثي، دون النظر إلى أن المسرح والشعر والفلسفة، والرياضيات، والفلك، وكلهم من بطن واحد، فلا قراءة بدون مرجعيات ولا فن ولا مسرح بدون معاهد، ولا ناي بدون تعلم وتعليم.
فالاحتفالية هي ثورة ثقافية حقيقية، تم فيها التأكيد على مكتسبات إنسانية جديرة بالتقدير فأن يذكر اسم الإنسان بصوت عال، وتثار نوازعه وحواسه وحريته في مجتمع تحكمه الموسمية وأشباح الدعم والترويج كلها أشكال عديدة تنتهك كرامة الإنسان باسم التفويض المؤسساتي، لذا عمل برشيد وبرفع شعار السعادة هي مقياس لكل إنسان، فهو المصدر والمنبع لكل مجتمع، فيه تبنى الحضارة، والدولة، وتتأسس الديمقراطية والحرية، والمساواة. إذن علينا الإنصات إلى نبضات قلب الواقع والأشياء، وكفانا من الهرطقة والغوغائية المضللة.
المراجع:
1- مايكل كول “علم النفس الثقافي” تر عادل مصطفى وكمال شاهين ص29.
2–المرجع نفسه ص30.
3- عبد الجليل الكور “التفلسف تحطيما لأصنام التضليل” إبداع ط1 – 2010 ص- 23 -.
4- عبد الحق منصف وعز الدين الخطابي “انطولوجيا الهشاشة والقدرة الإنسانية” فلسفة تأويل الوجود الإنساني – عند بول ريكور–افريقيا الشرق ط – 2020 ص190.
5- مطاع صفدي “الشعري / الكينوني– الفكر العربي المعاصر – 1988 ت2 – ص24.
6- عبد الغفار مكاوي “نداء الحقيقة” – 1977 – ص206.
7- أدونيس “الثابت والمتحول” ج2 – دار الساقي ص240.
8- JD, l’écriture et la différence ed seuil – 1967 p 302 – 303.