وأنت تحضر قهوتك.. اترك كل مايعكر صفوة مراسيم تحضيرك لقهوتك وأجعل تنفيذ هذه المراسيم بدقة هي وحدها التي تملأ مخيلتك.. اترك كل ماعداها واعتبرها هي الشغل الشاغل لبرهة من أوقاتك واعتبرها المهمة الإنسانية التي لابد أن تنجز واصنع جوا هادئا يليق بتلك المراسيم التي تبدأها وكأنك تضع تاجا على رأس ملك تُوج للتو خلفا لمن سلمها فلا أنغام أو نغمات أو دندنات ولا موسيقى ولا أغنية وتأكد من غلق نوافذك أمام شرفات نجاة الصغيرة لأنها سهلة التسرب وسريعة الانتشار فلامكان لها مع قهوتك وإياك أن تسمح لأي ذكرى جميلة بالمرور في مخيلتك لأن الذكرى الجميلة تحلي قهوتك وبذا تفقد القهوة أجمل خاصية لها وهي أن تكون مرة وفي كل مرة.
وبما أنت تتهيأ لتحضير قهوتك أذن فأنت تملك حريتك مثلما تمتلك زمام أمورك وباستطاعتك أن تتجرد من كل شي إلا من دلة القهوة وفنجانها وملعقة قهوة تفرغها في تلك الدلة الحميمة، وبما أنك تتهيأ لتحضير القهوة فتأكد أنك بمزاج رائع ورائق كصحتك لأن تحضير القهوة هو أقوى دليل بل ووحيد على شعورك بالصحة وبالسعادة.
لاتنسى أن القهوة لاتنتظر وقتا طويلا حتى تقدم نفسها لك فهي سباقة لتضحي بنفسها من أجلك فما إن تشعر أن القهوة في حالة هيام و تستشعرك بأنها تريد أن تضحي بنفسها لتشربها قم من فورك وجهز الدلة والفنجان وبوجهك مباشرة إلى المطبخ أو أقرب موقد نار أذا صادفت عائقا لوصولك بالسرعة الممكنة .
وإياك والدلة وماتحتوبها من القهوة على النار أن تتركها، راقبها بتمعن وكيف أنها تتفنن وتتقن الذوبان في الماء وحيثما تشعر هي بمراقبتك تزداد ابتهاجا وتبقى أسيرة الدلة فلا تسعى خلسة أن تغادر جدرانها الداخلية وتنتشر خارج أسوار ملاذها طالما أنت تتعايش كل لحظات ذوبانها وتستنشق من هباتها التي تملأ خياشيمك بعطرها ورائحتها الأخاذة التي تتسرب إلى نفسك متى ماشعرت بالوحدة الثقيلة.
ما إن جهزت قهوتك وملأت فنجانك اتركها واستنشق رائحتها وعبقها من جديد وهذه المرة من فنجانك لأن القهوة في الفنجان غير القهوة في الدلة ففي الأخيرة ممر وفي الأولى أي الفنجان ينطلق مراسيم تناول القهوة بعد حضور راعي الحفل .
ونؤكد مرة ثانية وثالثة في حال وجود قهوتك في الفنجان استنشق عبقها مطولا ودع ماتستنشقه من عبقها يمر بهدوء وسلاسة في المخ والمخيخ وكرر المحاولة ثانية ولكن إياك إن تشعل سيجارتك مسبقا دع تلك الرائحة تكون راعية جلستك وبعدها تناول قهوتك ولامانع بعد الرشفة والرشفتين من سيجارة دخيلة تفرض نفسها في قلب هذا السكون وتشاركك مع عبق القهوة كل أسرارك التي تتهيأ للهجوم البربري الغير مرغوب به لمخك ومخيخك أثناء المراسيم .
نكرر تأكيدنا: لاتدع لأي ذكرى أن تمر أو تردد أو تدندن أغنية أثناء تناولها فارتشفها بمرارتها وأعد الكرة ودع المرارة تملأ فمك فعند شعورك أن المرارة تملأ فمك، تدرك حينها حقيقة التضحية التي تقدمها الاميرة قهوة هانم بنفسها منهية حياتها أثناء تقديمها نفسها لتشربها بكرمها .
ولاتنس أيضا كرمها البالغ عندما تستعير منك أوجاعك وألامك ولتكمل مهامها الإنسانية وهذه الميزة الفريدة هي أيقونة القهوة .
ما إن تنتهي مراسيم تناول قهوتك أبقي على فنجانك على المنضدة ومن الممكن تصطحب سيجارتك بهدوء احتراما لبقايا الفنجان ولاتنظر إلى داخل الفنجان وجدرانه لتتفحص بختك لأن الكثير من أبواب الدجل أدخلت إلى مراسيم القهوة بقصد أو بدون قصد ولاتصدق مايقوله نزار قباني ويغنيه عبدالحليم (قارئة الفنجان) فهذان الإثنان لم يتركوا أية شاردة أو واردة إلا كانت لهم حكاية فيها ولا عزاء إلا ولطموا فيه، ورسالة من تحت الماء خير دليل على كلامنا، بل دع فنجانك يتحدث عن نفسه وهو مكلوم ببقايا قهوة في جدران ملساء وقعر حزين .
وأنا هنا أتحدث عن قهوتك التي تتناولها دون سبق أصرار أو ترصد وفي الأوقات الغير المعلومة والمحددة ولايشمل هذا التعميم الصادر قهوة الصباح عند استيقاظك من نومك وأنت تتثاوب بعد ليلة لم يعش أسرارها وأوجاعها وذكرياتها ألا أنت ،ولا يشمل تعميمنا أعلاه قهوتك الصباحية التي تتناولها في مكان عملك ووظيفتك ومكتبك لأنك حينها تتصورنفسك من بقية بقايا أباطرة الرومان .
لأن في هذه الحالة قد تكون مدمنا لشربها وربما مجبرا عليها حينها تنتزع منها صفة المراسيم مثلما تفقد بعض التحف الجميلة تسميتها الفنية والابداعية بل تتحول لقطعة صنعها مهني لاعلاقة لأنامل الفنان في تجهيزها وصنعها .