إهداء: تواتر إلى سمعي أن باحثًا كبيرًا نعت الكتّاب بعشّ دبابير مخفوش، فاستللت هذه القصّة من جراب أهلنا هديّة له!
اعتاد أهل بلدنا، عن طيب معشر وربّما ل”فضاوة” بال لديهم، وال”فضاوة” هذه ربّما غزو من العاميّة على فُضُوّ الفصيحة،المهم اعتادوا،وبالذات الظرفاء بينهم،أن يُلصِقوا بعضُهم ببعض ألقابًا تغلب في الكثير من الأحيان على أسمائهم الحقيقيّة وتحلّ محلّها، ألقابًا تهدف عادة إلى الانتقاص،الطفيف الظريف غالبًا،من المُلقّب، لصفة أو سلوك فيه أو لشكله أو لشبه، شكلًا وسلوكًا، بينه وبين مشاهير الحكايات التي يعرفون.والألقاب مستوحاة من كلّ ما تطال ألسنتُهم من عالم الحيوان والنبات والشخصيّات الحكائيّة، شرط ألًا يتشارك فيها اثنان؛ ف”الحَلول” و”القشتيل” و”عنتر” و”حْميّص” و”عُوكل” و”وأبو هارون” و”أبو جِلدة” و”الجروشة” و”الحنّانة” و”بُزّيز” و”النمْس” و”الدبّور” و”الطحانيّة، هي بعضها.
البعض كان يتقبّلها برحابة صدر، لا بل ويروح يشارك مطلقيها رغبتَهم في إطلاقها على نفسه مفوّتًا عليه فرص “التّضحُّك”، وبعض آخرُ”يُحَمّل ثقيلًا” ثائرًا على مطلقيها حتّى التهديد والوعيد والمسبّات وأبعد أحيانًا. لا فرق في هذا السياق بين ذكر وأنثى فالكلّ عرضة كما تُبيّن “نخبة”الألقاب أعلاه،ولا حيدةَ عن أحد اللهم إلّا أولئك من أصحاب “المكانة” الاجتماعيّة والدينيّة فحياضُهم مصونة في هذه كما في غيرها، وليس دائمًا بحكم احترام المكانة وإنّما لما لها من سطوةٍ على عامّة الناس، فيكتف الناس شرّهم بالمحايدة والابتعاد.
لم يختلف اثنان على أنّ حَلولَ بلدنا وعُوكلَها ونمسَهاوجروشتَها وحنّانتَهاعلى الأقلّ، فيهم وفيما حوت ألقابهُم الكثيرُ من الشبه، وقد أصاب من أطلقها عليهموأيّما إصابة. اللهم إلّا الدبّور فقد اختلفت الآراء حوله شخصًا ولقبًا، ولم يبدُ عليه هو يومًا أن أعار الموضوع أيّ اهتمام فلا أضحكه ولا أغاظه استعمال بعضهم اللقب لا حضورًا ولا غيابًا. أمّا لماذا أُطلِقهذا اللقبعلى محمّد الفاعور ومن أطلقه،فهذه حكاية فيها من الخيال ما لا يخطر على البال.
رغم أنّ الدبابير هي جزء من حياة أهل بلدنا ولدغتُها والعمى، ولكنّهم يعرفون حقّ المعرفة أنّها لا تلدغ أحدًا إن لم يلدغْها، ومع هذا حايدوها وتجنّبوها فما لهم ولها، لا بل أكثر من ذلك عرفوا بفلّاحيّتهم أنّ فيها فائدةً كما غيرها من الأحياء وحتّى المخيفة. عرفوا بطبيعتهم وإيمانهم بقدرة الخالق المطلقةأن لا مخلوقًا يخلو من النفع حتّى وإن كان ضررُه هو الأظهر كما الدبابير اللاسعة،على خلاف قريبهماالنحل اللاسع ولكن العاسل.
ومع هذا نسي الناس ما عرفوه عنها من نفع لدرجة أن صار حتّى عاقلوهم وعارفوهم وعند التهليل واحدهم للآخر، ودون براء من الهوى، يجدون الأعذار للخاطئين المدانين من ربعهم في وجه المُدينين من غير ربعهم وإن بحق، بالقول: “خفش المسكين دون أن يدري في عش دبابير!”، رغم أن عمليّة الخفش هذه مناقضة لأبسط المعارف، فالدبابير لا تبني بيوتها حيث تُخفش.
المهمّ أن محمّد الفاعوركان ترك البلد مدّة ليست بقصيرة، وعاد كما الشابّ المتغرّب يحكي أنّه كان يتنقّل من بلد إلى بلد وجاء يحمللأهل البلد حكايا غريبة عجيبة على قدر معرفتهم. وممّا حكا في سياقنا أنّ في بلاد “السند والهند” يقدّسون الدبابير كما غيرها من الأحياء وليس فقط لأنّها تحمل روحًا إنسانيّة ذات مكانة حسب معتقدهم كما تعرف القلّة من أهل بلدنا وتستنكر، وإنّما لكونها مفيدة ضد ضارات الزراعةمن الحشرات، وممنوع قتلها إذ تُعدّ الدبابير مهمة للغاية في الحفاظ على التوازن البيئي، كونها تعتاش على افتراس الكثير من الحشرات الضارة، كما تساهم في تلقيح الزهور وتكون في النهاية غذاء شهياً للطيور البرية.ولهذا السبب يفرض قانون بلاد “الواق الواق”غرامة قد تصل في حدها الأقصى إلى محصول سنة كاملة لفلاح من البلد بعد أن قارن الدبّور قيمة الغرامة بقيمة يدركها أهل البلد.
وقال: الدبّور لا يعتدي إلًا إذا اعتدي عليه أو استشعر الخوف منه ممّن حوله وخطرّا يتهدّده، وإظهار الخوف قد يكون مشكلة لأن الدبابير تستشعر ذلك وتجعلها رائحة عرق الخوف في حالة تأهب وعدائية.محمّد الفاعورومعرفة منه أنّ الخوف بشكل عام ومن الدبابير بشكل خاص حالة ليست تحت السيطرة عند الضعفاء، فحمل للخُوّف هؤلاء الدواء من بلاد السند والهند؛ فما كان على الخوّيف إلّا أن يحرق مسحوق القهوة فرائحة الحرق تبقي الدبابير بعيداً، على حدّ قوله.
محمّد الفاعور استأهل هذ الاستحقاق، اللقب:”الدبّور”، وليس لما أتىبه أهل البلد من فائدة عن الدبابير من بلاد السند والهند والواق الواق، وإنّما،وقبلًا،لأنّه كشف أمامهم جهلهم. ولأنّ أهل بلدنا ما زالوا يأكلون الخبّيزة والعِلْت والعكّوب قدّروا له ذلك،ومع الأيّام راح اسمه الحقيقي يختفي من على ألسنتهم وصار في نظرهم الدبّور وفقط ولا يخافونه.