تنهض رواية (الخُلَعاء) للرّوائيّ السّوريّ خليل النّعيميّ (دار الثّقافة الجديدة- القاهرة- 1990) على سرد رحلة رمزيّة يقوم بها زوجان وحبيبان جنوبًا باتّجاه البحر (الذي يرمز إلى الخلاص)، إلا أنّ البحر يبقى بمنأى عن قاصديه طوال الرّحلة، وتغدو الرّحلة اشتباكًا مع المكان، واستعراضًا لأزماته المستفحِلة، وتعالقًا مع بنيته العفنة، ومُقارَبةً لأناسه المستلَبين.
يُقِيم النَّصُّ توازيًا بين الماضي والحاضر بقصد وعْيِ الحاضر نفسه، ويؤكِّد أنَّ الماضي لا يزال مستمرًّا فينا وفق الآليّة نفسها التي كان يتوضّع بها في حياة أسلافنا، وهذا يعني أنَّ زمننا متوقِّف وميت، وأنّنا نكرِّر في حاضرنا ما عشناه من قبل، وبهذا المعنى فنحنُ لا نزال نُقِيم في الماضي، ونتخبّط داخل شرنقته، ولا نُحْسِن الخروج منه، ولا نزال أسيرين لقيمه وأعرافه. وللتّأكيد على ذلك جعل الكاتبُ السُّلطةَ في نصّه تقوّض علاقة النّاس بالزِّمن، وجعل هذه العلاقةَ تنهض على القهر والاستلاب؛ إذ كفَّ النّاس فيها عن أن يكونوا فاعلين في زمنهم، ومتحكِّمين به، وأمسَوْا منفعلين به، ومُهمَّشين إزاءه، وفقدوا قدرتهم على اتّخاذ زمام المبادرة في التّعامل معه، وانعكس هذا في مناحي حياتهم كلِّها، وأصبحتْ علاقتهم العاطفيّة والوجدانيّة ببعضهم تفتقر إلى النّداوة والطّلاوة، وفقدوا القدرة على الوصول إلى الإشباع العاطفيّ والجسديّ، وأمسَتْ علاقتهم بعقولهم وأجسادهم محكومةً بالانصياع إلى مفهوم المُحرَّم الذي أشاعه النِّظام البطركيّ؛ إذ هيمن التّابو على حياتهم، وصاروا أسيرين له بغية التّأكيد على أنّ علاقتهم بماضيهم ليست سوى استمرار لما ألفوه في حياتهم من تابوات وأعراف اجتماعيّة، وقد اقتطف الكاتب مقبوساتٍ وصورًا سرديّة تراثيّة، وأوردها في سياق نصِّه، وجعلها تتناسج معه، وتندمج في بنيته، بحيث أمسى بإمكان المتلقِّي أن يُقِيم نوعًا من التّوازي بين هذه الصُّور وبين المشاهد السّرديّة الحيّة التي ينهض بها أحفادهم مُحتكِمِين إلى الآليّة نفسها في التّفاعُل مع واقعهم.
تجلّيات السُّلطة في النّصّ
تنهض العلاقة بين الرّجل والمرأة في (الخلعاء) على قانون الشّدّ والجذب، وعلى مجموعة من الاستراتيجيّات التي يحاول كلٌّ منهما الاتّكاء عليها للإطاحة بالآخر، وفي حين يسعى الرّجل إلى التّغلُّب على المرأة، والهيمنة عليها تجهَد المرأة طوال الوقت إلى التّحرُّر منه. ويبدو واضحًا من خلال السّيرورة الجماليّة أنّ الرّجل في الرّواية يتّخذ شكل المُناهِض للسُّلطة، وهو يتّهم زوجته (أو حبيبته) بأنّها تجسِّد دور السُّلطة في العلاقة معه، ويرى أنّ عنفه في مواجهتها ما هو سوى ردِّ فعل على عنف السُّلطة نفسه؛ مع أنّ الرّجل هو الذي يتحكّم بقيادة السّيّارة في الرّحلة التي يقوم بها الزّوجان، وهو الذي يهيمن على آليّة العلاقة معها، في حين تسعى المرأة جاهدةً إلى نبذه والتّحرُّر منه، والتّخلُّص من هيمنته. وللتّأكيد على أنّ الرّجل مظلوم ومضطَّهد يزعم بأنّ المرأة قامعة له كالسُّلطة (ص14)، وأنّها تقوم باضطِهاده (ص 19، 34، 38، 51، ، 52)؛ مع أنّ الرّجل في النّصّ يقوم بدور البطرك ودور السُّلطة معًا، ويحاول الهيمنة على المجال العامّ الذي تتحرّك فيه المرأة، ويحتكره لمصلحته، كما يحاول إقصاء المرأة من هذا المجال، ويتّهمها بأنّها تلعب دور السُّلطة في علاقتها به، ويُدخِلها إلى خانة الشَّيْطنة (ص 19، 34، 134)، ويُضفِي على نفسه صفة (مَلاك)، قاصرًا الخيرَ على شخصيّته، وحارِمًا المرأة من كلّ الصّفات المثاليّة التي يمكن أن تتحلَّى بها؛ ولذا فإنّ خطاب الرَّجل في مواجهة المرأة يجمع، في النّصِّ الرِّوائيِّ، بين الاستدلال العقليّ والشّحْن الوجدانيّ، ويسعى إلى إلغاء الآخَـر، من خلال رؤية جماليّة مُناهِضة للواقع في مواجهته.
يُناهِض خطابُ الرّجل في النّصّ الأيديولوجيا السُّلطويّة القمعيّة، ويسعى إلى تجذير خطابِ (ذاتٍ) لا تجد مجالا لتحقيق هُويّتها في الحيِّز الذي تهيمن عليه أيديولوجيا السُّلطة (ص 68)، ومع ذلك يقوم بدور المضطهِد للمرأة، ويمنعها من التّعبير عن رأيها، فيتحوّل إلى بطرَكٍ هو الآخر، ويُقِيم نوعًا من المساواة بين سلطة الحبّ وسلطة القمع التي تقوم بها السُّلطة (ص140)، ويُدرِك أنّه يعيش في مفارَقة ظاهرة، وأنّه اضطُّرَّ كي يتخلّص من حالة القهر التي يعيشها إلى الانتقام من الفتاة التي أحبّها، وطمح إلى العيش معها، كما يدرك أيضًا بأنّ كلّ (آخَـر) هو كذلك، وأنّ هدف الذّات هو صياغة (آخَرَ) لا يعدو أن يكون نسخةً طبق الأصل منها (انظر: ص79).
يعيش الرّجل في الرّواية حالة قلق مستمرّةً، وحالة انشطار بين وعيه لواقعه ووعيه لذاته، ويفتقر إلى الاستقرار في المكان، ويبقى منفعلا بشكل دائم، وفي حالة حوار مع ذاته ومع المرأة التي ترافقه، كما يحاول التّخلُّص من حالة الصّمت والصّبر والتّحمُّل التي فُرِضتْ عليه، وطُلِب منه بلوغُها، ويُماهِي بين السُّلطة والحبيبة، ويرى أنّ الحبيبة أمست نسخة منه، وأنّهما اكتسبا طباعًا واحدة لأنّهما عاشا ظروفًا قاهرة في المجتمع البطركيّ نفسه، ويكتشف أنّه مزيَّف الوعي مثلها، وأنّ السُّلطة قامت بقولبته وإعادة تشكيل وعيه، وجعلته عاجزًا عن المواجهة (ص135-136)، وأنّه أمسى مُهمَّشًا وشريدًا، وغير قادر على أن يعيش بحريّة وكرامة، ويَدِين الصّبر والتّحمُّل، ويصل إلى أنّ الحلَّ في مواجهة السُّلطة هو “تفجير البؤرة العفنة بما فيها، وبمن فيها، دون تردُّد أو خشية أو حساب” (ص150)، وأنّه “آنَ لنا أنْ نختار بين التّمرُّد والخضوع (ص151)، وأنّ “منتهى الحماقة هو القبول بالأمر الواقع، والرّضا به” (ص152)، وأنّ السُّلطة أشاعت بين رعاياها بأنّ لديهم عجزًا تاريخيًّا كي ينصاعوا لما تريد، ويقبلوا بما تخطِّطه لهم، وأنّها حاولت أن تقنعهم بأنّهم خاملون وأغبياء وغير قادرين على الإبداع، كي تكون قادرة على التّحكُّم بهم بشكل دائم (ص152).
يدرك الرّجل/ الحبيب في النّصّ أنّه كان يتبنّى وعي السُّلطة ورؤيتها في الحكم على حبيبته وعلى الحياة من حوله، وأنّه كان واهمًا، وأنّ تحرُّره من هذه الرُّؤية هو الذي جعله ينظر إلى حبيبته وإلى الحياة من حوله نظرة صحيحة (ص146)، ولذا ظلّ طوال الرّواية يتحرّك معها على أوتوستراد طويل متّجهَيْن إلى البحر، ولم يُتَح لهما الاستقرارُ طوال الرّحلة، أو الحصول على الرّاحة، واكتشفا في نهاية الرّواية أنّ البحر الذي كان منفذَ الخلاص بالنّسبة إليهما، لم يكن سوى (بحر الخرا)؛ وانتهت رحلتُهما بالإخفاق، وظلّا عاجزين عن تحقيق حلمهما، والوصول إلى حالة الاستقرار المنشودة، كما مات طفلُهما في إشارة دالّة إلى تدمير المستقبل بالنّسبة إليهما.
وقد تمّت الرِّحلة ليلا خلال ساعات معدودة، وأحاط بها الظّلام الحالك، وحدثت على أوتوستراد طويل أسود يُجلِّله السّواد من كلّ حدبٍ وصوب، ولم يُتَح للحبيبين المسافرين أن يرَيا نورًا كافيًا لمساعدتهما على تبيُّن ملامح الطّريق التي يسيران عليها، كما أنّهما لم يلتقيا إلا بأناس على هيئة أشباح، وكانت اللِّقاءات بهؤلاء النّاس عابرة، ولا تتيح لهما الرّاحة أوالاستيعاب الجماليّ للواقع.
ويبدو من خلال الحوار المطوَّل الذي جرى بين الزّوجين (أو الحبيب والحبيبة) أنّ علاقة الزّوج بزوجته مأزومة، وأنّه يحاول جاهداً التّحرُّر منها بعدما أصبحت قيدًا يحول بينه وبين عيش الحياة كما يحبُّ؛ ولهذا تقوم العلاقة بينه وبينها على العنف والتّسلُّط، وتبدو امتدادًا للعلاقة التي تنهض بين السُّلطة والفرد في المجتمع العربيّ، إذ إنِّ السّياق العربيّ أنتج علاقة مأزومة بين السُّلطة والفرد، وقد امتدَّت هذه العلاقة لتشمل كلّ أنواع العلاقات في البنية الاجتماعيّة التي يحيا فيها الفردُ نفسه، وللتّدليل على ذلك يُؤتَى بالمتناصّات السّرديّة التي تبرهن على أنّ آليّة العلاقات التي قامت بين السُّلطة والفرد في هذا المجتمع قامت على العنف والإقصاء، وامتدّت إلى الجسم الاجتماعيِّ كلِّه، ولذلك بدت هذه المتناصَّات متناسجةً مع بنية النّصِّ واتّخذت شكل (فلاشات باك)، ووُظِّفت بمهارة لإضاءة الحاضر المأزوم نفسه.
تشكيل الشّخصيّات
تبدو الشّخصيّة المحوريّة في الرِّواية تجريديّةً أو هلاميّةً، وأقرب إلى البيدق والدُّمية منها إلى الشّخصيّة الحيّة، ويُخيَّل إلى القارئ أنَّ الكاتب لم يفلح في ضخّ دماء جديدة فيها، وأخفق في جعلها شخصيّة تنبض بالحياة، وأنّها بدت في ذلك أقرب إلى الشّخصيَّة المصطَنعة، ويُخيَّل إليّ أنّها ظهرت كذلك بسبب هيمنة السُّلطة عليها، وتحكُّمها فيها، وهيمنتها على نمط حياتها وحركتها، وزَرْع الخوف في نفسها، وتحويلها إلى كائن يعيش في رعب دائم، وهكذا أمست كالخيال والشّبح، وغدت غير قادرة على التّصرُّف بشكل طبيعيّ، ولم تقتصر هذه السِّمة على الشّخصيّتين المحوريتين في الرّواية بل طالت أيضًا الشّخصيّات الثّانويّة التي ظهرت بشكل عابر في الأحياء والأسواق والأماكن الأخرى التي التقى بها الزّوجان. لقد أفلحت السُّلطة في الرّواية في تحويل النّاس إلى أدوات ونماذج خائفة مرعوبة ومُشوَّهة ومصطنعة ومتشابهة، وجعلتها أقنعة ورموزًا لا شخصيّات إنسانيّة حيّة قادرة على أن تكتسب صفات متفرِّدة تميِّزها من غيرها (انظر: ص133-134 و154)؛ ولذا تبدو الشّخصيّات طافيةً في المكان وغير قادرة على إقامة علاقة متجذِّرة فيه، والمكان بالنّسبة إليها هامشيٌّ وانتقاليٌّ، كما أنّها لا تفلح في إقامة علاقة دائمة فيه؛ لأنّ هناك علاقة اغتراب بينها وبينه شأنها في ذلك شأن الخليع الذي نبذته قبيلته، وحكمت عليه بالتّهميش والإقصاء والنّبذ، وجعلت علاقته بالآخر محكومةً بالتّوتُّر والقلق والحذر والخوف، ولذا نُظِر إلى الآخَر في النّصِّ بوصفه قاهرًا وعدوًّا لا بوصفه أخًا أو صديقًا.
شعريّة الفُحش والبذاءة
يبدو استخدام الألفاظ المُقذِعة أو البذيئة في (الخلعاء) شكلا من أشكال تمرُّد الشّخصيّة على واقعها، ونوعًا من أنواع الخروج على الأعراف والتّقاليد الاجتماعيّة المهيمنة، كما أنّه يشكِّل آليّة للدّفاع عن الذَّات، وتفريغ الشُّحنة الانفعاليّة السّلبيّة التي تختزنها الشَّخصيّة المقموعة ضدَّ الآخر القامع لها، كما أنّه يشكِّل محاولة للحصول على حقٍّ مستلب تعي هذه الشّخصيّة أنّها غير قادرة على الحصول عليه بشكل طبيعيّ في واقعها الموضوعيّ، ولذلك تلجأ إلى الشّتيمة للتّعويض عنه؛ وهكذا تغدو الشّتيمة نوعًا من التّفاعُل الإيجابيّ بين الشّخصيّة المقهورة وواقعها، أو شكلا من أشكال التّوازي بين السُّلوك الاجتماعيّ الذي تنتهجه والسُّلوك اللُّغويّ الذي تستخدمه.
إنّ المضطَّهَد يدافع عن نفسه من خلال اللُّغة، ويحاول النّيل من قامعه لغويًّا، سواء أكان هذا القامع يمثِّل شريحة اجتماعيّة أو سياسيّة، وهو يلجأ إلى النّيل من خصمه عن طريق احتقار آليّة التّخاطُب لديه أوتقويضها، لذلك يُمسي خروجه على العرف الاجتماعيّ الذي يتّبعه خصمه، شكلا من أشكال التّوازن مع العالم من حوله، ونوعًا من أنواع الخروج على العرف الذي يتباهى به هذا القامع أو يجد نفسه فيه؛ ولذلك تختزن اللّغة البذيئة، التي تستخدمها الشّخصيّة في مخاطبة الآخر، رغبةً عارمةً في تجاوز العرف الاجتماعيّ، وشكلا من أشكال الخروج على النّواميس الاجتماعيّة، التي توليها الشَّريحة المهيمِنة كلَّ اهتمامها، وتعدّها آليّة لتأكيد وجودها (انظر: ص67).
التّناصُّ وبنية التّوازي
كما تُقِيم الرّواية علاقة توازٍ مع مقبوسات معاصرة تمتدّ على 40 صفحة من الرّواية، وتشغل الصّفحات من (85) إلى (124)، وتعزّز هذه المقبوسات المستوى الدّلاليّ الذي تسعى الرّواية إلى تشكيله، ومع أنّ هذه المقبوسات تبدو منفصلةً عن جسم الرّواية ومتنها إلا أنّ ما تسعى إلى تجذيره في وعي المتلقّي يبدو ذا علاقة وثيقة بمتنها الحكائيّ ومستواها الدّلاليّ معًا، وتسعى هذه المقبوسات إلى تأكيد أنّ الدّولة الشُّموليّة متغوِّلة، وأنّ بقاء مواطنيها محتكمِين إلى الصّمت والصّبر في مواجهتها هو شكلٌ من أشكال المفارقة؛ إذ إنّ السِّياق الذي يعيش فيه هؤلاء المواطنون يتناقض مع منافذ الضّوء وآليّات التّحليل والمعرفة التي وُضِعتْ بين أيديهم في الماضي والحاضر، وهي المنافذ التي كان من الممكن أن تزوِّدهم بالوعي الأصيل الذي يمكِّنهم من التّمرُّد على واقعهم، ومناهضة السُّلطة التي تتحكَّم بهم، وتُبقِيهم أذلاّء، وهكذا تغدو هذه المقبوسات شكلا من أشكال التّناصّ مع متن الرّواية، ونوعًا من أنواع تشكيل رؤية الكاتب واستراتيجيّته النّصيّة أيضًا.
وثمّة شكلٌ آخر من أشكال التّناصّ استخدمه الكاتب في تشكيل خطابه الرّوائيّ هو التّناصّ المتناسج مع متن الرّواية، ويبدو هذا التّناصّ جزءًا من النّسيج الرّوائيّ، ويُستَثمَر لتحقيق خاصّية التّكثيف، وتخليص الرّواية من الشّحوم والدّهون التي علقت بجسمها الأساسيّ (انظر: ص9)، ويُوظَّف للتّأكيد على استمرار الماضي في الحاضر، وتناسُجه فيه، وتعالقه معه، وكونِه جزءًا منه، ومؤثِّرًا في آليّة استمراره أيضًا، وتتفاوت مضامينُه، إذ يرسم بعضُه صورةً حيّة للحاكم العربيّ المتسلِّط في علاقته برعيّته (15، 37)، ويُوظَّف بعضُه الآخر لإدانة طغيان هذا الحاكم (ص11، 20، 21، 37، 57)، مقدِّمًا الدّليل على حقّ الرّعيّة في الاعتراض على آليّة حكمه (ص55)، مُؤْذنًا بموت الزّمن، وتهميش النّاس، وكونهم قطع شطرنج ودمى وبيادق، وتحوُّلهم إلى منفعلين لا فاعلين، وتُقيم متناصّاتٌ سرديّة أخرى علاقة تنازُع مع الدّلالة النّصيّة التي تسعى الرّواية إلى تشكيلها، فتتعارض مع هذه الدّلالة، وقد يقوم الكاتب بتحوير بنية المتّناص اللُّغويّة وإنطاقه بدلالة جديدة لم تكن له من قبل (انظر: ص138)، أو بتضمين نصّه أحاديث نبويّة شريفة أو آيات قرآنيّة كريمة أو حكمًا شعبيّة معروفة غير أنّه يُفرِغها من دلالتها الحقيقيّة، ويمنحها دلالة جديدة تتناسب مع النّسق الذي تعالقت فيه، وأمسَتْ جزءًا منه، ومن ذلك استثماره الحكمةَ التي تنصّ على أنّ في (التّأنِّي السّلامة وفي العجلة النّدامة) إذ غدت في نصّه (في العجلة السّلامة وفي التّأنّي النّدامة)؛ وذلك لأنّ الإسراع في مناهضة المُضطِّهد والتّمرُّد عليه يعود بالنّفع الكبير على مجمل المقهورين، في حين أنّ التّأنّي يُفضِي إلى استمرار المضطَّهِد في قمع رعيّته، وإدامة إذلالهم (انظر: 134).
تقنيّة علامات التّرقيم
ومن الملاحظ أنّ الكاتب أغفل في تنظيم نصّه استخدام علامات التّرقيم، وأفسح المجال للمتلقّي كي يقوم بهذه المَهمَّة بنفسه، متّكئًا على آليّة قراءته للنّصّ واستيعابه لدلالته، ومعلوم أنّ التّرقيم لم يكن مستخدَمًا في تراثنا العربيّ كلّه، وأنّه أمسى عنصرًا من عناصر تنظيم الكتابة والنّصّ في عصر النَّهضة، وقد كان أحمد زكي باشا هو أوّل من وضع آليّة استخدامه في الكتابة العربيّة في عام 1911، وجعله خليل النّعيميّ جزءًا من تقنيّات الكتابة في (الخلعاء) منذ ثلاثة عقود ونيِّف، كما استخدمه في فصل واحد في روايته الأخيرة (زهر القطن-2022)، وقصد من تغييبه في (الخلعاء) جعْلَ الماضي جزءًا من الحاضر، وإجراء عمليّة دمج عضويّة بينهما؛ لأنّهما في نصِّه متجاوران في الحياة العربيّة التي لم تقطع مع الماضي، وجعلته جزءًا من الحاضر، ووسيلة لاستشراف المستقبل، وقد ساعد تغييبُ علامات التّرقيم في جعل النّصّ كتلةً مغلقةً قائمة بذاتها، بحيث باتت المتناصّات التّراثيّة والمعاصرة جزءًا لا ينفصل عن النّصّ نفسه، وقد سُمِّي هذا الإجراء في النّقد الفرنسيّ المعاصر بـ (الرّواية الكليّة) كما يقول الدّكتور ولي الدين السّعيدي، واعتمده كتّاب كثيرون من بينهم جورج بيريك في عام 1968 وفيليب سوللرز في الجنّة Le paridis، ورولان بارت في بعض نصوصه، وكذلك ماتياس إينار في عام 2008، والبلجيكيّ بول إدوموند في روايته (مونولوج في جملة واحدة) في عام 1979.
تركيب
أخيرًا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ خليل النّعيميّ عمد إلى المزج بين الأزمنة والأمكنة في نصّه، وأنّه شيّد بنية سرديّة تجاوريّة تعانق فيها الماضي والحاضر في كتلة لغويّة واحدة، كما وظّف عنصري الإضاءة واللّون في تشكيل حيّزه السّرديّ الرّاشح بالسّواد والتّشاؤم، واستثمر الرّائحة العفنة الواخزة في بناء علاقة طباقيّة بين الزّوجين المختلفين والمتخاصمين (ص15)، وبدت صورة الشّمس في نصّه راشحةً بالكآبة والسّواد والعفن لا بالنّور والإشراق والبهجة، وهيمنت الرّتابة على الإيقاع الرّوائيّ بسبب هيمنة السُّلطة على الشّخصيّات التي تتحرّك في الفضاء الرّوائيّ، كما انعدم التّشويق، وناء النّصُّ تحت ثقل التّجريد والتّذهين، إذ بدلا من عرض مشاهد حيّة في الرّواية للتّأكيد على هيمنة السُّلطة على حياة الشّخصيّات في النّصِّ أتى الكاتب بصور سرديّة تراثيّة أو بأقوال لشخصيّاته لتعزيز هذه الهيمنة؛ وقد بدت الشّخصيّات أدواتٍ تفعل بها السُّلطة ما تشاء، وتحرِّكها كيفما تشاء، وظهرت بوصفها أقنعةً ورموزًا لا شخصيّات إنسانيّة حيّة. ومع أنّ أداة الرّحلة هي السّيّارة، واستقلالها يدلُّ على الرّغبة في الاتّجاه نحو مكان محدَّد هو البحر غير أنّ السّيّارة (التي هي المكان المؤقَّت الذي يتجاور فيه الزّوجان والحبيبان المسافران) تبدو متوقّفة، وليس هناك علاقة تربطها بالخارج، إنّ طريقها لا يتغيّر إلا قليلا، إنّها أداة للانتقال إلى البحر/ هدف الرّحلة، والشّخصيّات لا تغادرها أبدًا بل تكتفي بإقامة حوار في داخلها لا أكثر.
ولا بدّ من الإشارة أيضًا إلى أنّ نصّ خليل النّعيميّ نخبويّ وتجريبيّ إلى حدّ كبير، وأنّه يفتقر إلى عنصر التّشويق الذي يجده القارئ في النّصوص التّقليديّة التي تتوكّأ على سرد حكاية لها بداية وحبكة وخاتمة سعيدة، ولذا على المتلقّي أن يشارك في إعادة إنتاجه من خلال فعل القراءة كي يحصل على المتعة الفنيّة المطلوبة التي ألِفَها في نصوص سابقة للكاتب نفسه، أو لغيره.