الأقوياء هم الذين يكتبون التاريخ. مقولةٌ عنيفةٌ جداً، كثيرونَ هُم الذينَ يردِّدونَ تلكَ المَقولةِ وكأنَّها قاعِدة معرفيّة يستقيم عليها بناءُ المَعرِفةِ التاريخيةِ بكلِّ حُمولاتِها. ويَبدو مِمَن يستعملونَ هذهِ المقولةَ، وكأنَّها حصيلةُ تراكُم المَعرفة في مجالِ فلسفةِ التاريخِ، أو هي عُصارةُ جُهدٍ طويلٍ ومُضني لأهل الاختصاص مِن المؤرِّخينَ. لكنَّها في حقيقةِ الأمر ظَهرت في ظُروفٍ تاريخيةٍ معيَّنة زَمنياً هي التي أعطتها تلكَ الشُحنة، ووحّدت معناها دونَ توضيح مَبناها. ومَنْ يردِّدون تلكَ المَقولةِ (الأقوياءُ أو المنتَصِرونَ هُم الذينَ يَكتبونَ التاريخ) أو يصنعونَ التاريخ، لا يَعرِفونَ أنَّ الهَدَفَ والقَصد الأوَّل منها ليسَ تقديم تصوّر للتّاريخ كعِلم مِنَ العُلوم، بل تعظيم وتَمجيد مَقولةَ القوّة والعَظَمَة التي انتشَرَت كالنارِ في الهَشيم في الفِكر السِّياسي اليَميني الشَعبوي المُتطرِّف، في فترةِ ما بينَ الحَربينِ العالميتينِ الأولى والثانية. تلك المقولةُ تُنسب إلى المُفكِّر الألماني المتأثِّر بالماديّة التاريخيّة (والتر بنديكس شونفليس بنيامين Benjamin Walter) عام 1940 م، والتي قالَها بهَدَف التمييز بينَ ناسِخ التاريخ أو مدوِّن أحداث وأخبار التاريخ الذي يتأثر بالمنتصر، وبما هو ظاهر وواضح، وبين المؤرِّخ المادِّي الذي من الواجب عليه الاهتمام بالإنسان منتصراً كان أم منهزماً. تلك الفكرة وما كانت تبطنه من أهداف غير معلنة والتي جرت في تلك الفترة بين الحربين العالميتين كانت قد انتشرت في القارّة الأوروبية خلال ثلاثينيات القرن الماضي. في سياق انتشار الأيديولوجيات الكليانية، وهي أفكار ومفاهيم تمجِّد القوّة والعَظَمَة والقائد المُلهَم والانتصار. وكانت الفيلسوفة السياسية الألمانية المعاصرة حناَّ آرنت Hannah Arent من أبرز أعلام الفكر السياسي المعاصر، والتي تمكنت من تحليل وتفكيك ظاهرة الكليانيّة التي ظهرت في قلب القارة الأوروبية التي اعتُبِرَت مهد الديمقراطية في بداية القرن العشرين الماضي، فقد بحثت حناَّ آرنت Hannah Arent في جينالوجيا الظاهرة الكليانية بشكلٍ عام وأعادت أسبابها الأولية وظهور نواتها الأولى المركزية إلى لحظة اللوغوس الإغريقي، ومنه إلى لحظة الحداثة الأنوارية باعتباره عصر الأنوار الأوروبي. لم تكن اللحظتان عنوانين بارزين للديمقراطية التي يتغنى بها الغرب كما يزعمه معظم المفكرين والفلاسفة الغربيين، بل خبرةً وتمرّساً نظرياً على استملاك الحقيقة واختزالها ونمذجتها، بالشكل الذي يقصي التنوع وينفيه، ويقصي التعدّد والنسبية .
آثار تلك الأفكار نجدها في توجهات الفيلسوف الألماني (مارتن هايدغر (Martin Heidegger مؤلف كتاب (الوجود والزمان) 1927م. الذي كان ينادي على الدوام، بأنَّ على الأشخاص أن يختاروا زعمائهم ورموزهم من بين الزعماء الكبار الذي ساهموا بتغيير عجلة التاريخ، كي يضمنوا الانتصار في وقتهم الحالي. وكان ذلك على وجه اليقين في فترة تقارب الفيلسوف هيدغر Heidegger مع الفكر النازي الهتلري عام 1934 م ، والتي انعكست بشكلٍ صريحٍ وواضح في خطابات الفوهرر أدولف هتلر الذي كان يوحي من خلالها بضرورة وجدوى العَظَمَة في التاريخ، وبالجدوى القصوى للانتصار من أجل صناعة المستقبل المنشود. بخاصة وأنَّ تلك المرحلة قد شهدت العديد من المدارس الفلسفيةَ، أهمّها الفلسفة الوجودية، وفلسفة التأويليات، والفلسفة التفكيكية أو فلسفة النقض، وما بعد الحداثة .فقد طرح مارتن هايدغر Martin Heidegger نظرية الوجود (الأنطولوجيا) وهي نظرية تتضمن أسئلة تتركّز على معنى الكينونة، لذا فقد اتهمه عدد كبير من المفكرين والفلاسفة والمؤرخين بمعاداة السامية وانتمائه للحزب النازي الألماني.
في هذا الإطار تأتي مجمل الأفكار النقدية التفكيكية لتلك المقولة من طرف المفكر الألماني (ولتر بنيامين Benjamin Walter) لتخرج التاريخ بكل حمولاته من سجن الإخبارعن الظواهر العيانية الواضحة وضوح الشمس، ـ حسب رأيه ـ أي أخبار الدولة، والذين حقوا الإنتصار بشكلٍ ساحق، إلى أخبار الإنسان، وخاصة طرف المنهزمين منهم، وذلك في سياق قراءة مادية متأثِّرة بشكلٍ كبير بالفلسفة الماركسية والفهم الماركسي .
إنَّ تلك المقولة المختصرة (المنتصرون هم من يكتبون التاريخ) أو (الأقوياء هم من يكتبون التاريخ) توحي بالقوة والحكمة، وتوهِم السامِع والمُتلقي بسعةِ المعرفة، كما تكسب الخطاب نوعاً من القوة والعَظَمَة والهيبة. وهذا ما يعيق المصالحة بين المعرفة الحقيقية وجمهور القرّاء العاديين من غير المتخصصين .
هذا الموضوع الهام جداً،يحتاج إلى الغوص في أعماقه، فإن تم استعمال التاريخ لأغراض حزبية أو سياسية أو عقائدية يسمى (التاريخ الأيديولوجيا)، وإن تمَّ استعماله من قِبَل السلطة الحاكمة يسمى (تاريخاً رسمياً)، أمّا إذا تم استعمال التاريخ لأغراض الهوية فيسمى (التاريخ الذاكرة). وهذا التاريخ لا يمكن لأحد كتابته إلا المتمكِّن من منهجية البحث العلمي في التاريخ وفلسفة التاريخ، وعلى رأسهم المؤرِّخ الذي يعتمد على كل أثر تاريخي وقع في الماضي. وهناك ما نطلق عليه اسم (التاريخ الوسيلة) أو (التاريخ الأداة) وهو استعمال التاريخ بكل حمولاته والاستفادة من الحدث والمعرفة لأغراض أيديولوجية أو سياسية أو عقائدية.
في حقيقة الأمر لا يمكننا أن نَحصرَ التاريخ ضمن أقنومٍ معيَّن، سواء كان كحدث ماضٍ أو كمعرفةٍ جيّدةٍ به بعد النزاع والصراع والمواجهة، والانتصار والهزيمة، هذ النمط من الفهم يوحي بشكلٍ من الأشكال، بأنَّ هناك ما يمكن أن نُطلِق عليه (ماهيةُ التاريخِ) أو (كُنه التاريخ) الذي له قوانينه وأحكامه وضوابطه. لذلك علينا أن نملك القدرة الكافية على التمييز بين معانٍ مختلفة أو أصناف مختلفة من التاريخ، إنَّ التاريخ المتَحَدّث عنه في المقولة (الأقوياء هم الذين يكتبون التاريخ) أو (المنتصرون هم من يكتبون التاريخ) هو التاريخ المعاش كتجربة إنسانية عميقة، تخلد في الزمن ذكر المنجزات ومن قام بإنجازها. هذا (التاريخ) بهذا الفهم يمثِّل فقط (الحَدَث) بالنسبةِ للمؤرِّخ الذي يحقق معنى التأريخ Historiography)).
الجدير بالذكر أنَّ مفهوم التاريخ في الفلسفة ليس مجرّد سرد لأحداثٍ ووقائع كانت قد حدثت في وقتٍ مضى، إنما هو دراسة وتحليل هذه الأحداث والوقائع بالطريقة العلمسة المتبعة، ومعرفة الأسباب وراء حدوثها، وتأثيرها على الإنسان خلال سيرورة حياته، ودوره في صنعها والتفاعل فيها، ففلسفة التاريخ تهتمّ بدراسة الأحداث والوقائع دراسةً كليّةً وشاملة، لتستنبط القوانين والتشريعات الناظمة التي تحكم حركة المجتمعات، وتقرأ دور الإنسان الفاعل في صناعة التاريخ البشري، أو تكبُّده.
كما إنَّ مفهومَ التاريخِ يتضمّن افتراضينِ مثيرينِ للجدلِ والنقاش، حول إنَّ التاريخَ صنيعةُ السُّلطةِ السياسيّةِ المُسيطرة في زمنٍ ما، وأنُّه متعلِّق بتوثيق الأحداث وارتداداتها من وجهَةِ نَظر السلطةِ الحاكِمة. من هنا نجد أنَّ للتاريخِ مستوياتٌ ثلاث، هي على التوالي (الحَدَث ـ الأثر ـ منهجيّة المؤرِّخ) أي مجابهة المصادر وتدقيقها وتمحيصها بفطنةٍ ومعرفة،وتفسير الوثائق التاريخية، واعتماد الموضوعية في البحث التاريخي، وإدراج الظاهر والأحداث في إطارٍ تطوّري. هذه المصادر متعدِّدة ومتنوِّعة وحتى ما خلّفه الأقوياء المنتصرون يحيل بالنسبة إلى المؤرِّخ المهزومين والرماديين والصامتين من الفاعلين الأساسيين التاريخيين.
هناك العديد من الحالات الخاصة بفهم التاريخ، منها وجود حالة تحيل إلى أنَّ الجماهير العريضة تنطلق في فهمها للتاريخ من المقولات والاختصارات التي توحي بالتعقّل والحكمة والاتزان، أكثر من البحث في عمق القضايا لغاية الفهم. فالعبارة المختصرة أو المقولة المبتسرة توهم المتلقي بسعة المعرفةِ والفهم، كما تُكسب الخطاب نوعاًّ من العَظَمَة والهيبة، وفي مثل هذا السياق تبسيط شديد يعيق الموافقة والمصالحة بين المعرفة وجمهور القرَّاء والمتابعين من غير المتخصصين.
الجدير بالذكر أنَّ التاريخ كعلم ومعرفة له منهجه وسياقاته وموضوعه، وفي هذا المجال يتميَّز التاريخ بكونه على وجه التقريب العلم الوحيد الذي يتناول موضوعاً لم يَعُد موجوداً لأنَّه (الماضي) ولكن يمكن معرفته من خلال تتبع آثاره وتفاعلاته التي يطلق عليها المؤرِّخ مصادر. لذا فإنَّ تلك المصادر متعدِّدة ومتنوعة وهي ما خلَّفهُ المنتصرون والأقوياء تتمثّل معظمها بالوثائق. وهو يحيلنا إلى أنَّ التاريخ خاضع لمنطق النقد الموضوعي والتجريب. وهو تاريخٌ غير ثابت، ويمكن أن يعدِّلَ ذاته من خلال النقد الذاتي الموضوعي. وتراكم المعرفة والثقافة، كما يمكن أن يعدِّل ذاته على ضوء الوصول إلى مصادر جديد تم اكتشافها حديثاً.لأنَّ الحقيقة التاريخية من وجهة نظر علمية ومعرفية لا توجد بذاتها، بل هي عملية بناء مستمرّة بمدى تنوّع المصادر ووجود الوثائق على تنوعها، ومرتبطة بتراكم المعرفة التاريخية وتطوّر المنهج البحثي.
من جهةٍ أخرى نجد أنَّ بعض المؤرِخين قد تواطأوا مع ما يمليه عليهم الأباطرة والملوك والحكّام من أيديولوجيات وآراء ومفاهيم، لهذا لم تكن روايات التاريخ المتوحِّش هي ما حصل فعلاً في الواقع . لقد أكّد المؤرّخ الانكليزي إدوارد جيبون (Edward Gibbon) (1737-1794) ، مؤلِّف كتاب (اضمحلال الامبراطورية الرومانية وسقوطها) الذي يُعدُّ من أهم وأعظم المراجع في موضوعه. ليس كالذي رآه المؤرّخ البريطاني أرنولد جوزف توينبي (Arnold J. Toynbee) ) 1889 ـ 1975). أهم أعماله موسوعة دراسة للتاريخ، أو الذي رآه الفيلسوف والكاتب والمؤرّخ الأمريكي ويليام جيمس ديورانت (William James Durant) (1885 – 1981) من أشهر مؤلفاته كتاب قصة الحضارة والذي شاركته زوجته.
وبالنسبة إلى مؤرخينا العرب ، نجد ثمة فوارق كبيرة وواضحة ليس في الأساليب فقط بل في التوجّه والرؤى أيضاً ،فإبن الأثير عز الدين أبي الحسن الجزري الموصلي المعروف بـابن الأثير الجزري، وهو من أبرز المؤرخين المسلمين، عاصر دولة صلاح الدين الأيوبي، ورصد أحداثها ويعد كتابه الكامل في التاريخ مرجعا لتلك الفترة من التاريخ الإسلامي، رأى ذروة توحّش التاريخ على الإطلاف في غزو المغول للعراق عام 1258 م . فقد قام المغول بقتل عشرات الآلالف من الرجال والنساء والأطفال العراقيين وبنوا أبراجاً عالية من جماجم العراقيين . لهذا تمنى ابن الأثير عز الدين أبي الحسن الجزري الموصلي لو أنّ أمه لم تلدهُ كي لا يرى ما رأى .
وهناك مؤرخون منهم غربيون عاصروا وشاهدوا ذروة توحش التاريخ في الحروب الصليبية من أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر( 1096 ـ 1291) م عبر حملاتها المتعاقبة على مدينة القدس .وكان المؤرخ الإنكليزي ستيفين رونسيمان، واسم الشهرة هو جيمس كوخران ستيفينسون رونسيمان، الملقب بـ (سير زونسيمان) وهو من كبار المتخصصين في فترة العصور الوسطى، اهتم بتاريخ الحملات الصليبية وكتب عنها مجموعة كتب منها : (تاريخ الحملات الصليبيه A history of the Crusades) من ثلاثة أجزاء ” الحمله الصليبيه الأولى و تأسيس مملكة اورشليم ” (1951) ، ” مملكة اورشليم و الشرق الفرنجى 1187-1100 ” (1952) ، ” مملكة عكا والحملات الصليبية الاخيرة ” (1954) . فقد اعتبر تلك الحروب آخر الغزوات الهمجية وهي حقيقة مركزية في تاريخ العصور الوسطى .كما كتب المؤرّخ جوناثان سيمون كريستوفر رايلي سميث (: Jonathan Riley-Smith) (1938م – 2016م) العديد من الكتب حول الحروب الصليبية، بين عامي (1994ـ 2005) م
بينما رأى آخرون أن هذا التوحّش بلغ أوجّه في الحربين العالميتين الأولى والثانية .لقد غلب على كتابات المؤرخين في عصرنا الحديث الدعاية الأيديولوجية والدينية وتمجيد القادة والحكّام ، وما كتبوه كان يتسم بالتدليس التاريخي من أجل الوصول لنتائج ترضي نزعات سياسية ودينية وشخصية ، لدرجة أنه تم الخلط بين التاريخ الديني للكتاب المقدّس والتاريخ العلمي .
إنَّ التاريخ الذي يستعمل لأغراض الهوية هو التاريخ الوجداني للشعوب، وهو الذاكرة الحيَّة لها.