خيط من تراب، نص مسرحي للكاتب والروائي العراقي بيات مرعي، وهذا النص شدني شخصياً منذ الوهلة الأولى من قراءة العنوان وهو عنوان قد نختلف في فهمه وربما وجدت في هذا النص تقاربا من عالمي وخاصة بما يخص المكان وقد شدني تقارب الأجواء أي المكان من نصي أبناء الشمس، نحن هنا في عالم بيات مرعي والذي يصور لنا هذا المكان المهمش والغير مرئي وهؤلاء أيضاً، خمسة شحاتين وسادسهم سمحون العجوز ولآن بيات خلق نصاً يسمح بالمساحات المفتوحة والحذف والاضافات فقد يكونون هؤلاء بهذه الزاوية من المدينة وكأنهم في كهفهم الذي يأوون إليه ويحميهم الحر والبرد وأيضاً يأتي رزقهم ولا يدرون ماذا سيأتي؟
النهوض ولحظة النهوض من اللحظات ذات القدسية وهي لحظات نفسية وروحية مهمة كأنها لحظة البعث بعد الموت، الجوع لم يكن مجرد كلمة عابرة بل هو حالة معاشة مقلقة وكأننا نراه مشخصاً، يقلب أمزجتهم ذات اليمين وذات اليسار،سيكون الضربة الأولى فهم خمسة لم نعرف أعمارهم وسماتهم الجسمانية لاشيء عنهم سوى أن أحدهم أعمى، بالطبع هذا العالم عالم المتشردين وربما هذا ما قصده مرعي وليس الشحاتين أصحاب المهنة الذين هوايتهم جمع المال بكل وسائل ولو بحرمان النفس، هذا العالم المتشظي والمثير فربما يأتي تأويل أحدنا أن يفهم أن هؤلاء قد يكونون من المنبوذين بالمجتمع أو الخارجين عنه لظروف اجتماعية أو حتى عاطفية وكذلك يحتمل النص حمولات سياسية ناقدة فلا شيء يحد أو يحبس النص في زاوية ضيقة.
في هذا المكان المنزوي وكأنه كهف جديد فهؤلاء يفرون لعالمهم هنا بعيداً عن الأضواء والضجيج ويخرجون من عالمهم لأخذ محتاجياتهم البسيطة وأحياناً يأتيهم رزقهم من الأكل والخمر وخاصة ما يأتي من مطعم الأمراء ولننتبه أن في كل مدينة عربية يوجد مثل هذا المكان ومثل هؤلاء الخمسة وكذلك يوجد مطاعم فاخرة والتسمية موحية بالعالم البيرجوازي ولا أدري إن كان بيات مرعي مشاهداً لأفلام لويسبونويل؟
وخاصه فيلم تريستانا وفيلم لوس الفادوس حيث يمزج بونويل بين جميع المتضادات الجوع القاتل والشبع المفرط، الكفر والإيمان وهنا يحضر الخمر الفاخر وهو هنا ميتافور بالغ الديناميكية وربما يظل تأثير الخمر الفاخر إلى أخر حركة للشخصيات.
عالم بيات مرعي لا تظهر ملامحه الكاملة من اللحظة الأولى ولا بعد لحظتين، فهؤلاء رغم معرفتهم بالمكان وتعايشهم فيه، يكتشفون جسداً، العجوز سمحون وربما هو حقيقة، ربما ملاك أو شيطان، نستكشف أن هذا العجوز يعرفهم ويعرف عاداتهم ومخاوفهم وأحلامهم وهو صاحب قصة ويقول أن قصته طويلة ونستمع لتعليقاتهم
ش 4ـ حكاية..فوق حكايتنا
غراب يقول لغراب وجهك أسود
بركان من الهم يكتسح كل الأشياء…
ش 5ـ ظلام من نوع آخر…
هنا كأنهم يعرفون حقيقة واقعهم البائس وكأن القدر ساقهم إلى هنا وهم غير راضين لكنهم مقيدين وهم يحكون للعجوز فشلهم وحتى فشلوا أن يُضحكوا الناس في حلبة السيرك
يقول أحدهم : كنا جنودآ للتجربة… بين حين وآخر نعيد الكرة بشكل جديد ثم نفشل
لنعود مثل فصيل مندحر حيث هنا…
يعطينا الكاتب الكثير من الفرص لنرى سخريتهم من الواقع، من ماضيهم ومن أنفسهم، يمنحنهم فرصة للشبع وشرب الخمر الفاخر وخاصة في هذا الصباح المختلف جداً، فرصة للغناء والرقص والتهريج، المكان يعج بالأشياء والتي يمكن أن يجدوا فيه كل شيء، صفيحة أو ربما أيضاً الة موسيقية وكتاب وحتى ربما كاميرا لتصوير واقعهم، ولدى المخرج الحرية أن يستثمر المسافات المفتوحة أو حتى من الأشياء المهملة ولا يشترط أن الأداة تُستخدم لوظيفتها الفيزيائية أو قريبة لها حيث أننا في أجواء تتفجر بالفنتازيا، بالحلم والرعب، بالضحك والبكاء، بالرقص والشلل التام، إذن هذا المكان ربما يكون يشبه المسرح الدائري أو مصطبة بشارع أو مسرح تتوفر فيه الإمكانيات.
بتصوري أن بيات مرعي يعطي الحكاية مرتبة متاخرة داخل البناء النصي والحوار يمكن أن يترجم لحركة وصورة أو يتلاقح مع لوحات مرئية ونجد أن المكان كأنه كهف علي بابا وربما بتحريك برميل أو حاوية للقمامة أو جمع هذا الأشياء واعادة بعثرتها تتغير وتتعدد الصور والدلالات.
الجوع الذي يشير إليه بيات يمكن أن نفهمه أنه جوع مادي وروحي وعاطفي، وعندما يعرض عليهم العجوز لعبة الخيط والثوب وهنا يتذكر بعضهم حرمانهم القديم الجديد والمستمر المستقبلي وبعضهم لم يعرف اللعب الطفولي وربما الحلم الطفولي فالعراق والعديد من بلداننا العربية هناك جيل ولد زمن القحط والحروب والحصارات والحرمان الجماعي وليس فقط الفردي، حيث شهدت وتشهد الكثير من بلداننا الجوع والخوف والموت الجماعي والذي يمس الملاين والملاين ويزداد شبح الخوف والموت والحاجة إلى أبسط حلم حتى وإن كان للحظة صغيرة.
هذا العجوز رسول الكاتب والذي خلق هذه الشخصيات المتعبة المتشظية ثم يرسل إليهم هذا الرجل والذي لعبته المهمة هي لعبة ألف ليلة وليلة بكل ما فيها من خيال وجنس وغرابة وعنف، وكأنه هنا يعطي أطنان من الحلم والخيال وحتى الجنس برومانسيته وشبقه وعنفه وحتى العجز الجنسي أو العنف الجنسي ووتلك الحكايات ذات أفاق تخيلية لا محدودة ولكل فنان حرية أن يقراها من منظوره الفكري والنفسي الخاص.
ببعض الحوارات سنجد سمات شعرية ولكنه يحاول أن يهرب من سمة الشعرية اللفظية إلى الخوض في كل المتناقضات والمتضادات ويكافح بأن لا تظل صوره وحواراته تسير بنفس المستوى أو في مسارات منطقية وانسيايبية يدركه خيال المتلقي وهو يعترف أن هذه النصوص ستظل ناقصة كنصوص وهي تريد أن تتلاقح مع خيال فنانين ومجانين المسرح.
يمارسون اللعبة أو الرغبة بالحلم وتصديق خرافة العجوز ويرقصون ويغنون حتي يبلغ بهم التعب والإرهاق مبلغاّ كبيراً، كأنهم يكتشفون بعد ذلك أنهم أصبحوا مقيدين وكأن الجوع والحرمان والألم لا تكفي لبؤسهم ثم يضاف إليها القيود، تتحول الخيوط ثوباً من لحم ودم يرونه ربما يتحرك، وهذا الثوب يتحرك ثم يتكلم ثم يصمت
ش 4 : إنه ثوب ساحر من خيط ساحر
يهدودنه بالضرب بسبب صمته مما يجعله يثور وتخيفهم ثورته ويبحثون عن
وسيلة لفك خيوطه وهدم كيانه وقد يكون تأويل أحدنا تأويلاً سياسياً أو حتى ميثولوجياً، يتشكل الخوف مع كل لحظة ويولد خوف من نوع جديد، حالة من الضياع ونهاية كأنها دائرية وكأننا في فصل من فصول الدرك الأسفل من الجحيم.
بيات مرعي ككاتب مسرحي جاء من فضاء المسرح كتجربة وممارسة ودراسة أكاديمية وحب وتعبد مسرحي لا ينتهي وهو يمارسه في جميع أشكال الكتابة والنشاطات الإبداعية المتنوعة ومسرحه متشرب بذاتية معاناته ومعايشته لعدة حروب وأزمات وحرمان شخصي وجماعي لذلك تتسم نصوصه بالعمق الإنساني والشوق إلى الحلم والفرحة والبحث عنه بالخروج من جلباب التعاسة والخوف وكأنه يشهق ويحاول القفز إلى لحظة فرح ولو للحظة واحدة.
هذه الورقة قدمت ملخصاً عنها ضمن أعمال ندوة نظمها فوروم كناية للحوار وتبادل الثقافات في السويد حول الإبداع السردي والدرامي عند الكاتب والفنان العراقي بيات مرعي،مساء الأحد 14مايو، من تنسيق وادارة الناقد والشاعر حكمت الحاج، وبحضور نخبة مهمة وكبيرة من النقاد والناقدات وتناولت الأوراق نشاطه الروائي والقصصي والمسرحي وقد استفدت منها بالتعرف أكثر على عالم بيات مرعي المتشعب والمتشظي ولايزال بيات مرعي يبدع ويكتب ويعيش الفن المسرحي بكل سحره وجنونه.