الحمد لله رب العالمين حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على نبينا محمد؛ خير مبعوث للأولين والآخرين، وعلى آله وصحبه الطاهرين أجمعين… وبعدُ،
فإن تحقيق التراث ليس بالأمر الهين السهل الذي يتأتّى لكل أحد أن يرتاده، بل إن آلة التحقيق أبيّة لا تسمح إلا لعالمٍ بلسان العرب، عصيّة إلا على مُلِمٍّ بعلوم الشريعة بعض الإلمام، وقد كان أسلافنا يستسمحون من قرأ كتبهم أن يستخرج الأوهام التي وقعت فيها؛ لأنهم يعلمون أنه لا أحد يسلم من الزلل، ولقد قال يحيى بن معين: لا أعجب من الذي يخطئ، إنما أعجب من الذي لا يخطئ.
لمّا كلّفتني الدار الناشرة لكتاب روضة العقلاء بمراجعة تحقيق الأستاذ محمد عايش، وذاك بعد شكاية عددٍ من وُعاة القرّاء للتحقيق، ورؤيتهم كثيرًا من الأخطاء، نظرتُ فيها فإذا هي شديدة كثيرة، يصعب معها إتمام النظر في الكتاب، فلمّا رأت الدار صنيعي فيه ظَهَر لها من باب التقدير أن تضع اسمي على الكتاب مدقِّقًا، فساءَ ذاك الأستاذ، وقال: أنا لا أعتمد هذه النسخة؛ لأني لا أعلم قدر التحريف فيها. كذا! ثم لمّا ناقشته في الأمر قال لي: ما تحقيقاتك؟ لقد بحثت عنك في كثير من مواقع الفهرسة فلم أجد لك ذكرًا!
هذا نوع من الاستعلاء سأجيبه في آخر المقال، وسأزُمُّ لساني عن الخوض فيما لا يعني، فإنه إن لم يتبع سبيل العلم معنا لم يمنعنا أن نتبع سبيل العلم معه، والله الموفق.
وسأعرض عليك يا أستاذ شيئًا يسيرًا مما وقع لك من سهو وخطأ في قراءة النص، أو في تعليقاتٍ لم تكن على جادّة العلم، بل منها ما يجري مجرى الفضيحة! لا يتحقق في وهم أو يمشي لعاقل أن مثلها يقع من طالب في السنة الأولى من الجامعة، فضلًا عن أن يكون حاملًا داليّة (الدكتوراه)! لعلك تدرك من أين يكون التصحيف؟! ومن أي جهة يُنصر التحقيق، وأنا في جميع ذلك لا أُحاكمكم إلا إلى المخطوط إن شاء الله.
فمن ذلك في (ص80): «وأجعلُ جوامعَها خمسين بابًا…، [و]بناء كل باب…». ثم قال عن الواو في الهامش: زيادة اقتضاها السياق. كذا!
وهذه الواو تفسد المعنى الذي قصد له الإمام ابن حبان رحمه الله؛ لأن قوله: «بناء» بمنزلة البدل من قوله: «خمسين بابًا». فالفصل حينئذٍ حقٌّ واجبٌ وحتمٌ لازمٌ.
فإن قلت: اجعل الواو عاطفة على خمسين، أو مستأنفة لأنه ضبط بناء بالرفع على الابتداء.
قلت: كل ذلك جائز لا إشكال فيه، غير أن النص التراثي له قدسيته، ومنها ألّا يُزاد فيه شيء لم يكتبه المؤلف، أو لم يكن في الأصل الخطي المعتمد، وما كان لابن حبان الإمام الفصيح أن يقطع النص هكذا، أو أن يعطف في محل ألا يُعطف فيه خير من أن يُعطف. إنما يسوغ ذلك في كلام المعاصرين الذين هم في عزٍّ مستفاد!
ومن ذلك (ص85): تحريف الأستاذ «بالادِّكار» إلى «بالأذكار»، وليت شعري، ما علاقة الذِّكر هنا بالاعتبار بفناء الدنيا؟! على أن ما في الباب يؤيد الادِّكار.
ومن ذلك (ص89): قول ابن حبان: «إن محبّةَ المرء للمكارم» جعلها: المكارمَ، بأل، مخالفًا المخطوط الذي اعتمده أصلًا، وليس لصنيعه مسوِّغٌ إلا ما فشا في كلام العامّة.
وفي (ص93): «عبيد الله بن عكراش» جعله عبدَ الله بالتكبير. ناهيك عن أنه ضبط بيتي الشعر: تزين، وتشين بتاءين، وإنما هما: يزين ويشين، بياءين.
وفي (ص95): أخبرني بأحسن شيء رأيته. قال: عقلٌ. وفي المخطوط: عقلًا، بالنصب. كأنه قال: رأيت عقلًا.
وفي (ص97): لما أهبَطَ اللهُ آدم. وفي المخطوط: «لمّا أُهبِطَ آدمُ»، فأخرج اسم الله من كتابٍ لم يخلقه الله بعدُ، فوضعه في النص.
وفي (ص98): آفة العقل الصَّلَفُ والبلاءُ المؤذي. والصواب: «المُودِي»؛ أي: المُهلِك.
وفي (ص102): ولا يَعِد إلا بما يقدر عليه. والصواب: «ما يقدر عليه» بغير باء. وهذا مذهبٌ معروفٌ في الحذف والإيصال، غير أن الأستاذ جرى على سَنن الاعتياد، ركونًا إلى العامة فيما تلفظ به.
وفي (ص103): ولا يدّعي ما يُحسِنُ من العلم. والصواب: «ما لا يُحسِنُ»، وهذا ظاهر من المعنى قبل المخطوط. وما يمنع المرء أن يدّعي علمًا قد نبغ فيه؟! ثم إنه ضبط البيتين: وليست له نعل، وليست له رِجلُ. والصواب فيهما: وليس، بلا تاء.
وفي (ص106): حدثَنا شبيب بن إسحاق. كذا! والصواب: شعيب بن إسحاق. وكم ذكر في نسخته من رجال لم يخلقهم الله بعدُ!
وفي (ص111): اتَّخِذ طاعة الله تجارة تأتك الأرباح. والذي في المخطوط: تأتيك. على الاستئناف.
وفي (ص112): فاستحِ الله. وفي المخطوط: فاستحي، بالياء، وهي اللغة الأفصح، وبها نزل القرآن.
وفي (ص114): كبحها. والصواب: كبحه.
وفي (ص115): فأمَرَه سيِّدُه أن يَذبَحَ شاةً. والصواب: بذبح شاة. و(أن) من كيسه ليست في المخطوط!
وفي (ص130): العاقل لا يبيع حظّ آخرته بما قصد في العلم لما يناله. والصواب: بما ينال.
ومن فضائح النسخة أن ابن حبان في (ص131) قال: حدثنا محمد بن يوسف بن مطر بفربر، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه، قال سمعتُ قُبَيصة يقول…
قال الأستاذ في الهامش: قبيصة بن جابر بن وهب… من كبار التابعين… توفي سنة (69هـ). كذا!!
ولم يسألِ الأستاذ نفسه فيقول: هذا ابن حبان مات (354هـ)، فكيف وصل إلى من مات (69هـ) برجلين اثنين؟!
وأقول: هذا قبيصة بن عقبة، من الرواة الضعفاء في سفيان الثوري، وإن لم يكن ضعيفًا في غير سفيان، وقبيصة مات (215هـ).
وفي (ص134): حدثنا الحسين. والصواب: الحسن. بل نقل الحافظ في اللسان أنه الحسن، وأن بعض الرواة يسميه الحسين. انتهى. أما هذا الحسين فراوٍ ما سمعنا به في الملة الآخرة!
وفي (135): لمّا وُلِّي ابن عليّة. والصواب: لمّا أن ولي. وفي هامشها نقل عن محاضرات الأدباء: فَأينَ مَا كُنتَ وَاعِظًا، وههنا كسر لم ينتبه له الأستاذ، ثم هو يسأل عن التخصص! والذي في المحاضرات:
فَأينَ مَا كُنتَ بِهِ وَاعِظًا
وفي (ص138): فبذل لهم الناس ليصيبوا من عليهم. والصواب: من علمهم. وما سمعنا بحرف دخل على حرف إلا في نحو قولهم: مررت من عليه، يعني: من فوقه.
وفي (ص155): وجَعَل للسان أربعةَ أبواب، فالشفتان مصراعان، والأسنان مصراعان. والذي في المخطوط: فالشفتين مصراعَين، والأسنانَ مصراعَين. عطفًا على أربعة.
وفي (ص156): كفى بك طلمًا. والصواب: ظالمًا.
وفي (173): إن ضبطه صاحبه سلم، وإن خَلّى عنه عَقَرَه. والصواب: عُقِر.
وفي (ص188): منازعة الله عز وجل في صفاته. و(في) ليست في المخطوط! وهذه الزيادة الثالثة على النص أو الرابعة. ما عُدتُ أحسُب.
وفي (ص189): وآخره يعود جيفة قذرة. والصواب: ويَعود أخَرة …
وفي (ص190): محمد بن هشام المروذي. والصواب: المروروذي.
وفي (ص196): عن إبراهيم عن ميسرة. والصواب: عن إبراهيم بن ميسرة.
وفي (ص209): اصحب الناس بأي خلق شئتَ يصحبوك به. والصواب: يصحبونك. على الاستئناف.
وفي (ص210): قال: فغضب. و(قال) ليست في المخطوط.
وفي (ص211): مَن لم يُدارِ صديق السوء كما يداري صديق الصديق. والصواب: صديق الصدق، على أنه في أول الصفحة حذف الترضِّي على معاوية رضي الله عنه! ولا أدري السبب في ذلك، فالله المستعان.
وفي (ص221): فتجذَّمت. والصواب: فتجذَّذت.
وفي (ص222): أو يكون ذلك أعلم منه. والصواب: ذاك.
وفي (ص239): فاغتاله بمكرٍ. والصواب: بمكرِه.
وفي (256): عن ابن أبي عون. والصواب: ابن عون.
وفي (ص257): وتَوَقِّيه إياهم. والصواب: وتَوْقِيَتِهِ.
وفي (ص261): العاقل لا يصاحب الأشرار. والصواب: يصحب.
وفي (ص263): لأن محمد بن عثمان العقبي قال: حدثنا. والصواب: لأن محمد بن عثمان العقبي حدثنا، قال: حدثنا…
وفي (ص266): أطِع أخاك وهب له. والصواب: أعطِ.
وفي (ص267): فالعين تنطق والأفواه ساكنة. والصواب: ساكتة.
وفي (ص276): عبيد الله بن هرمة. والصواب: عبيد الله بن عمرو.
وفي (ص277): وُدًّا. والصواب: وُدِّي.
وفي (ص279): يكون بافتراقهما. سقط بعدها: جميعًا.
وفي (ص283): وتنأى بعد ودٍّ واقتراب. والصواب: ونَأْيٌ.
وفي (ص284): أما تتقون الله. والصواب: تتقين. الخطاب لنساء. وكأن الأستاذ لم ينتبه إلى أن الواو لجماعة الرجال!
وفي (ص296): فإن جرى الأحمق في صحبته ميدانه في عشرته. والصواب: وميَّزه عنه في عشرته.
وفي (ص325): الواجب على العاقل الحليم. والصواب: العاقل الحازم.
إلى هنا توقَّفتُ يا أستاذ، وقد تغافلتُ عن أشياءَ لم أُبدِها لك، على أنّ هناك وهمًا لم أستطع تغافله وقع في (ص411)، وهو أنك أنشدت بيتًا هكذا: وكُنتَ إذا ما جِئتَ آذَيتَ مَجلِسِي ** ووَجهُكَ من ماءِ البَشاشةِ يَقطُرُ.. فلم تقف يا أستاذ لتسأل نفسك: كيف لرجل وجهه يقطر من ماء البشاشة أن يُؤذِيَ المجالسَ؟!
على أن البيت مشكول في نسخة باريس التي اعتمدتَها، والكلمة واضحة، هكذا: وكنتُ إذا ما جئتُ أدْنَيتَ مجلسي ** …
وأما الأوهام في ضبط أسماء الرجال فكثيرة، تركتها خشية الإطالة؛ كضبط قُلابة بضم القاف، وهو قِلابة بكسرها، وفُضالة بضم الفاء، وهو فَضالة بفتحها، وقُبَيصة وشُرَيك بصيغة التصغير، وكلاهما قَبِيصةُ وشَرِيكٌ، إلى غير ذلك. كل هؤلاء رجال لم يُخلقوا إلى الآن، بل بعض هذه الأسماء لم يُعلَّمها آدمُ عليه السلام.
وأما الأوهام العروضية فكثيرة جدًّا، يصعب على قارئ التراث أن تتأذّى عينه منها، وأخصُّ من له عناية بعلم العروض… فمن ذلك في (ص139):
ولم أستفد غير ما قد جمعـ ** ـت لقيل هو العالم المقنع
ولكن نفسي إلى كل شيْ ** ءٍ من العلم تسمعه تنزع
فلا أنا أحفظ ما قد جمعـ ** ـت ولا أنا مِن جمعه أشبع
فهذه ثلاثة أبيات بثلاثة أخطاء، والذي رأى كتابَ عَروضٍ ولم يفتحه يعلم أن الصواب:
ولم أستَفِد غَيرَ ما قد جَمَعتُلقيل: هو العالم المقنع ولكن نفسي إلى كل شيْءٍمن العلم تسمعه تنزع
فلا أنا أحفظ ما قد جمعتُ**ولا أنا مِن جمعه أشبع
ومن ذلك في (149):
تعاهد لسانك إنّ اللسا ** نَ سريع إلى المرء في قتله
وهذا اللسان بريد الفؤا ** د يدل الرجال على عقله
أيضًا لا يخفى أن النون والدال من اللسان والفؤاد من تمام الشطر الأول.
وفي (ص289): إنِّي رأيتُكَ لي مُحِبّا**وإليَّ حينَ أغيبُ صَبّا
وذكرت أن البيت من مخلع البسيط، وهو من مجزوء الكامل.
وفي (ص328): ولم أرَ فضلًا تَمَّ إلّا بشيمةٍ ** ولم أر عقلًا صحّ إلّا على الأدبِ
ولا يخفى أن القافية باء ساكنة لا مكسورة.
وفي (ص335):لا تشعرن النفس يأسًا فإنما والذي في المخطوط الأصل: ولا تشعرن. بواو. وفي نسخة الإفتاء: فلا.
وفي (ص357): إن هيَ أتته وإلّا فهو يأتيها. والصواب في هذا الشطر هِيْ بسكون الياء، وفيها أيضًا
سل الحاجات من سيد. والصواب: توسَّل.
وفي (ص364): كم من أمر قد تضايقت به كتبت أنه من الخفيف، وهو من الرمل. والصواب: كم مِنَ امرٍ. بوصل الهمزة للضرورة.
أما قولك: ما تحقيقاتك؟ وقولك: لم أجد لك ذكرًا في فهارس المواقع.
فدونَك شُغلًا عني وعن تحقيقاتي أن تتأمل هذه الأوابد التي في تحقيقك لروضة ابن حبّان، أو تجيب عن مقالة د. رياض الخوّام التي يتهمك فيها ـ بالأدلة ـ بالسطو على تحقيقه لمكاتبة الدماميني والبلقيني!
وكما قال الزمخشري في ربيع الأبرار: من ألَّف كتابًا فإنما يعرض الناس على عقله. وأنا قد عرضتُ عقلي على الناس في تصحيح روضة العقلاء، وهم يحكمون عليّ وعليك.
وفي الختام
لمن سأل عن أفضل طبعات روضة العقلاء أقول مؤدِّيًا للأمانة على وجهها أمام الله تعالى وعباده: أفضلها طبعة أروقة الثالثة، أما طبعتاها الأولى والثانية فلم تكُن قد استُدرِكَتْ فيها الأخطاء التي قوّمتُها في الطبعة الثالثة باستيفاء وجرت عليها بقية الطبعات بحمد الله تعالى.