على الرغم من اختلاف وجهات النظر حول مفهوم الشعرية وتحديد موضوعاتها ، إلا إن ما متفق عليه ، أنها تعني البحث عن وسائل الإبداع وإجراءاته والوقوف على السمات الفنية والجمالية والأسلوبية التي تضفي التفرد والتميز على النص الأدبي ، وعلى هذا فإن الشعرية إنما تتحقق بالتمرد والانحراف عما هو سائد ومألوف من وسائل التشكيل الشعري وبهذا الخصوص يرى ( جان كوهن ) أن لغة الشاعر لغة شاذة ؛ لأنه لا يتكلم كما يتكلم الناس ، وعنده أن هذا الخروج يمنح الشاعر أسلوباً متميزاً ، وهذا الأسلوب يسمى الشعرية.
ومثلما يرى ( بوفون ) أن الأسلوب هو الرجل نفسه ، وقصد اقتران الأسلوب بكاتبه الذي يحقق له الانمياز عن غيره ، أرى أن أقول هنا: ( أن الشعرية هي الشاعر نفسه ) فكثير من الشعريات تكون بصمات لشعرائها تتوافر على الفرادة والتميز، وليس من اليسير استنساخها أو مجاراتها.
وهذا ما تجلى لنا في قراءتنا لشعر الشاعر عبد الرزاق الربيعي ، فكان مرد دراستنا النقدية هذه التي اعتمدنا فيها بعضاً من نصوص الشاعر؛ لنقف على مواطن الشعرية فيها ،واستجلاء جماليات تشكيلها تعبيراً وتصويراً.
فمن نص له بعنوان ( جمل الثلج ) يقول:
هل سقطَ “باءُ” الجبلِ سهواً؟
أم هي عينُ الشَّاعرِ
التي لم ترَ فرقًا بين “ميمِ” الجملِ
و”البَاءُ”
وهي تحدّقُ في
الجَملِ الوحيدِ
الجَملِ البعيدِ
المستوحشِ
بلا سفينةٍ ولا صحراء
في هذا النص يرسم الشاعر صورة للجمل عندما يكون في وطن غير وطنه وأجواءٍ مختلفةِ عن أجوائه التي عاش فيها وألفها، والشاعر وهو يسعى إلى رسم تلك الصورة يعتمد رؤيتهُ الشعرية المستندة على خيال خصب أثرى تشكيله الشعري على المستويين التصويري والتعبيري.
وبنظرة فاحصة للعنوان ( جمل الثلج ) يتبين أن الشاعر اعتمد المفارقة الشعرية في تشكيله الذي تحصل بالانحراف اللفظي على مستوى الحرف الثاني ما بين الكلمتين جمل وجبل ( الميم والباء) فاستحال جبل الثلج إلى جمل الثلج فتحقق الانحراف والمفارقة معاً.
لقد نهضت المفارقة الشعرية بما ابتغاهُ الشاعر بتشكيلهالشعري على مستوى النص كاملاً باتجاهيهِ المتعاضدينالتعبيري والتصويري ، ففي الاتجاه الأول تمكن الشاعر أن يؤسس لتشكيله الشعري بالإبدال اللفظي على مستوى الحرف بين الكلمتين جمل وجبل وعلى المستوى الثاني تمكن مستنداً على ما حققه المستوى الأول أن يرسم صورة مركبةللجمل ، وهو بالأحرى رسم صورتين مقترنتين: إحداهما صورة الجمل الوحيد/ الجمل البعيد/ المستوحش/ والصورة الأخرى ترتسم بقول الشاعر: المستوحش/ بلا سفينهَ ولا صحراء/ أما صلة الاقتران بين الصورتين فهي صفة الجمل ممثلةً باللفظ ( المستوحش ) الذي توسط بين الصورتين فكان الرابط بينهما ، فالجمل مستوحش في الصورة الأولى لأنه اِنتقل إلى بيئة غير بيئته ، وهو مستوحش في الصورة الثانية لأنه أصبح بلا سفينة ولا صحراء ، والصورتان تمثلان صورة الجمل في البيئة الجديدة المختلفة
وهنا ذهب الشاعر ليتناص مع القول المعروف ( الجمل سفينة الصحراء ) ولابد لنا من الوقوف على المستوى النحوي لتأكيد اقتران الجمل باللفظين السفينة والصحراء ، فالسفينة خبر للجمل ولا بد منها ، أما الصحراء التي وقعت مضافاً إليه فلا بد منها لتمام المعنى والتشكيل هنا وإن تضمن تشبيهاً جميلاً إلا أنه يُعد مما هو مألوف على المستوى الدلالي ولكن الشاعر عمد إلى خرق هذه المألوفية منحرفاً بها إلى دلالة مغايرة حققت شعرية التشكيل حين قال عنه : المستوحش بلا سفينة ولا صحراء.
لقد جرد الشاعر الجمل ليس من صحرائه التي لا غنى له عنها فقط وإنما جرده من ذاته أيضا ، فهو لم يُعد سفينة ؛ لأنهترك الصحراء مرتحلاً إلى بيئة مختلفةٍ ، ثم يذهب ليرسم صورة الجمل في البيئة الجديدة المختلفة فيقول:
أتراه وهو يصد هجماتِ العواصفِ الثلجيةِ
بوجهِهِ يتذكرُ “الشرقيةَ”
و”سوقَ فَنْجَا”
عندما مَسَّدتْ على رقبتِهِ
يدُ سائحةٍ أجنبيةٍ
أرادتْ أنْ تُعانقَ به شمس الشرقِ
واستدارَتْ نحو يد البائعِ العجوزِ
الذي قبضَ ثمن رأسِهِ
مُرفقًا بصورةٍ تذكاريةٍ؟
لقد تضمن هذا التشكيل الشعري على المستوى السيميائي علامات تشير إلى ارتباط الجمل ببيئته التي إذا ما فقدها يكون قد فقد كيانه وشخصه ، لقد اعتمد الشاعر الزمكانيةأساسا في رسم صورة الجمل في البيئة الجديدة حين قرن المكان بالزمان ، فعلى مستوى المكان فإن البيئة المغايرة هي البيئة الثلجية التي تمثلت بقول الشاعر: أتراه وهو يصد هجمات العواصف الثلجية بوجهه ثم يستكمل مؤكداً المستوى الزماني المقترن بالمستوى المكاني الأول فيقول: أتراه يتذكر الشرقية / وسوق فنجا / لقد أنسن الجمل ليسند له حالة الاستذكار الإنسانية التي عادة ما تمليها عليه ظروف المكان الجديد ، وكما هو معروف فإن مسألة الحنين هي مسالة مشتركة بين الإنسان والجمل فكلاهما متصفٌ بها.
ويستمر الشاعر في رسم صورة الجمل على أساس من المستوى الاستذكاري فيتساءل هل ما زال الجمل يتذكر ما ذكر؟ مقرناً ذلك بقوله:
عندما مَسَّدتْ على رقبتِهِ
يدُ سائحةٍ أجنبيةٍ
أرادتْ أنْ تُعانقَ به شمس الشرقِ
واستدارَتْ نحو يد البائعِ العجوزِ
الذي قبضَ ثمن رأسِهِ
مرفقاً بصورة تذكارية
هنا ينعطف الشاعر بأسلوب السرد الشعري لإيضاح حقيقة صورة الجمل ، فيرتقي خياله ليبين حقيقة بيعه من قبل البائع العجوز الذي كما يقول: قبضَ ثمن رأسِهِ/ مرفقاً بصورة تذكارية/ وبيع الجمل هنا إنما هو بيع مجازي تحقق على مستوى التصوير الفوتوغرافي حين أصرت السائحة الأجنبيةعلى التقاط صورة لها معه ، وهي تمسد على رقبته ؛ لتعانق بذلك شمس الشرق كما يقول ، وهو تصوير تجريدي أراد فيه الشاعر تأكيد اهتمام غير العربي بالتراث العربي.
والثمن الذي قبضه ذلك الرجل العجوز إنما هو ثمن الصورةوليس ثمن الجمل ، وهذا هو المألوف الذي أراد الشاعر الانحراف عنه فكيّف تشكيله الشعري بالنحو الذي يحقق له الشعرية ، فجعل البيع ليس للصورة ؛ وإنما لرأس الجمل وهوتشكيل شعري كنائي قصد به الجمل مُمثلاً بالجزء المهم الذييمثله وهو رأسه.
ويستمر الشاعر في أنسنته للجمل ليحيل رحلته المجازية مُمثلةً بسفر صورته الفوتوغرافية من موطنه الأصلي بوساطة حقيبة تلك السائحة إلى البيئة الجديدة المغايرة يحيلها بسموق خياله رحله حقيقية ؛ ليؤكد علاقة الجمل الجدلية ببيئته الأصلية إذ يقول:
هل يتذكر رحلته في الحقيبة
بلا أغاني الحداة
ولا الرمال السافيات
هكذا يرسم لنا الشاعر صورة الجمل في رحلته المجازية المختلفة عن رحلته الحقيقية لقد فقد الجمل وافتقد في الوقت نفسه في رحلته المجازية ما كان ملازماً له في رحلته الحقيقية ، فكانت رحلته بلا أغاني الحداة وبلا رمال يعانق شميمها وقع أقدامه ، وهو يتهادى جذلاً مستأنساً بأغاني حداته العاشقين ، وهذا ما يتأكد بقوله الذي جاء بحسب تكييفه الشعري وصية للجمل من جده إذ يقول:
لا ينسى كلمة قالها جده
قبل أن يسلم جسده للرياح
بلا صحراء لا معنى لجملٍ
ثم يكرر قوله : ( بلا صحراء ) زيادة في التأكيد؛ وليجعله صلة ليقرنه بما يؤكد ذلك أيضا ولكن بتشكيلات شعرية صورية مضافة فيقول:
بلا صحراء
ستصبح يا صغيري
مجرد تحفة في سوق الأنتيكات
هكذا رسم لنا الشاعر صورة الجمل بلا صحرائه.
وفي ختام نصه يذهب ؛ ليرسم صورة للجمل في بيئته الجديدة ، ولكنها جاءت بريشة مختلفة آثرت فيها مخيلة الشاعر أن ترسم الجمل وكأنه في بيئته الحقيقية فقال:
لكنه اليوم لمْ يعدْ كما كانَ
وإذ يقفُ بلا خيمةٍ
وراءَ الواجهةِ الزجاجيّةِ المغطّاةِ بالثلجِ
لم يتأفّفْ
ولم يُراجعْ حِسَابَاتِهِ
بلْ ظلّ رافعًا جبينَه
وسطَ العواصفِ
لأنّه جملٌ
وستظلّ الصحراءُ
تصهلُ في روحِهِ المعذّبةِ
وسط البياض
لقد أراد الشاعر أن يُبقي الجمل محافظاً على هيبته واعتداده وأصالته على الرغم من اختلاف البيئة ، فهو لم يتأفف بل ظل رافعاً رأسه وسط العواصف ؛ لأنه جمل ويكفي لاسمه هذا أن يجعله حائزاً لكل الصفات التي تجعله كذلك ، وطالما بقي كذلك فأنه كما يقول : ستظل الصحراء/تصهل في روحه المعذبة/ وسط البياض/.
في هذا التشكيل الاستعاري أحال الشاعر العنصر الجامد من الطبيعة ممثلاً بالصحراء إلى العنصر المتحرك منها ، عنصر الحيوان ممثلاً بالخيل ليسند لها حالة الصهيل التي تحققت بالفعل المضارع ( تصهل ) دلالة استمرار الصهيل الذي حدده على المستوى المكاني في روح الجمل المعذبة /وسط البياض ، وهذا ما يشي على المستوى السيميائي بعلامات الحنين إلى بيئته الصحراوية والثبات على التمسك بالهوية الأصلية التي تحقق صدق الانتماء للموطن وللبيئة.
هكذا كانت رؤية الشاعر وهو يرسم صورتين للجمل صورته في بيئته الأصلية وصورته في البيئة الجديدة ، وأرى جديراً الوقوف على الدلالات الرمزية التي تضمنها هذا النص بدءاً من العنوان وانتهاء بصورة الجمل في البيئتين ، وحري أنأقول: كثيراً ما يكون الجمل رمزاً للإنسان ، ولقد كان في رؤية الشاعر التي استحالت تشكيلات شعرية مصورة موفقة ما يشي بتحقق تلك الرمزية وتأكيدها.
ومن نص بعنوان ( طائران في خلوة ) يقول:
حين يداهمني الغيابُ
بغتةً
أتوسدُ حضوركِ الكثيف
في قلب الذاكرة
في هذا التشكيل الاستعاري يعتمد الشاعر التجسيد ليحيل ما هو مجرد ( الغياب ) إلى محسوس ؛ ليسند له على المستوى الإجرائي المتخيل فعل المداهمة ، ولا بد من الإشارةإلى المجانسة في هذا التشكيل بين الفعل والفاعل ، إذ جاء الفعل يداهم الذي تضمن الصفة الهجومية متناسباً مع وطأة الغياب وما يتركه في الذات الإنسانية من تأثير على المستوى النفسي ، وللتخفيف من وطأة ذلك التأثير يقول:/أتوسد حضورك الكثيف / في قلب الذاكرة / في هذا التشكيل الاستعاري تتجلى الأسلوبية الضدية على المستوى اللفظي ممثلةً بثنائية ( الغياب/ الحضور) وفي التشكيل الأول/ أتوسدحضورك الكثيف / وهو تشكيل شعري استعاري تجريدي أسبغ فيه الشاعر صفة الكثافة على لفظ الحضور وهي ليست من جنسه ولتتحقق التجريدية فيه أيضا حين أحالهُ وسادة دلالة التمسك وعدم الافتراق ، ولكنه زاد من أفق ذلك التجريد ومساحته حين شكل موضعه شعرياً على المستوى المكاني فكان كما قال: في قلب الذاكرة /.
لقد اعتمد الشاعر التباعد بين طرفي التشكيل ( القلب ، الذاكرة ) إذ جعل للذاكرة قلباً وهذا ما رفع من مستوى التشكيل التجريدي ، ولكن ارتفاعه بمستوى أعلى تحقق بالتئام التشكيلين بقوله: / أتوسد حضورك الكثيف/ في قلب الذاكرة/ فالحضور هنا حضور مجازي لم يكن في الذاكرة حسب وإنما كان في قلب الذاكرة ، وهذا ما رفع من مستويات التجريد وحقق للتشكيل مستوى من الشعرية أكمل وأجمل.
ومن نص بعنوان ( غيوم مسافرة ) يقول:
اصطحبنا الحقائب
وصاحبنا الجوازات
وشرطة الحدود
وقلنا : نسافر
ولم نعرف أننا تزوجنا الغيوم المسافرة
لننجب مسافاتً قاحلة
في هذه التشكيلات الشعرية يتجلى تأثير المستوى النفسي في عملية التشكيل ، ولو نظرنا إلى العنوان من الوجهة السيميائية ، تتراءى لنا علامات الابتعاد والارتحال المطلق غير المحدد ، فاتجاهات الغيوم رهن باتجاهات الرياح ، تسوقها كيف كان هبوبُها ، لقد ضمَّنَ الشاعر عنوان النص هذه العلامات التي أراد لإيحاءاتها أن ترسم تشكيل النص في حدود مساراتها الدلالية ، فهو عندما رافق الحقائب وصاحب الجوازات أنسنها استعارياً ليحيلها رفيقي سفر، وكذلك كانت شرطة الحدود ، وهذا يشي سيميائياً بعلامات كثرة الترحال وعدم الاستقرار ؛ وهو ما يتأكد بقوله:/ وقلنا نسافُر/ولم نعرف / أننا تزوجنا الغيوم المسافرة / وبسبب من تلك الإشارات أدرك الشاعر أنه قد تزوج الغيوم المسافرة عن غير علم منه ، وهو تشكيل استعاري تشخيصي مركب أحال فيه الشاعر الغيوم زوجة ثم أضفى عليها صفة السفر، لقد تضمّن هذا التشكيل الشعري بالاتجاه السيميائي علامات الاقتران والاتصال الذي يتحقق بالزواج بمستواه الإجرائي ، وتضمّن في الوقت ذاته علامات الترحال وعدم الاستقرار، فهو زواج من غيوم مسافرة ، ويبدو أن هذا الزواج كان مشروطاً ومعللاً وعلته الإنجاب الذي تحقق على المستوى النحوي بوجود اللام التعليلية في قوله:/ لننجب مسافات قاحلة.
وهنا يذهب الشاعر إلى كسر أفق التوقع أو خيبة الانتظار بحسب قول الناقد الألماني ( هانس روبرت ياوس ) في حديثه عن جدلية العلاقة بين منتج النص ومتلقيه في مسارات نظرية القراءة والتلقي ، فما هو متوقع أن تنجب الغيوم مساحات خضر، فهي بحسب نظرية الحقول الدلالية تنتظم ضمن الحقل المائي ، وهذا ما تشي به على المستوى الرمزي من دلالات الاستبشار والاخضرار والماء والنماء ، ولكن الشاعر عمد إلى التشكيل التجريدي ، فتحقق الانحراف الذي رفع من شعرية التشكيل الشعري فأنتج صورتين ذهنيتين: صورة الزواج من الغيوم وصورة ولادة المسافات القاحلة.
إن انحراف لشاعر عن الدلالة الرمزية المألوفة وكسره أفق التوقع إنما جاء متوائماً مع المستوى النفسي ومنسجماً مع مغزى النص في تأكيد حالات الاغتراب والترحال ورسم صورة المعاناة والقلق ، فصيّرّ الغيوم مُنجبةً للمسافات القاحلة بدلاً عن المساحات الخضر.