Ayoon Final logo details-3
Search

أصابع جميل

فوزية الفهدي

كعادة الأدب فإنه يقدّم لنا الحكايات المشحونة بالعاطفة والمسيّجة بالقيمة الفنّية والأدبية والإنسانية عبر قوالب من صنوف الآداب، ليتربّع المسرح على عرش خشبته قارعاً أجراس إنتباه الجماهيرالمصطفّة لتتابع المشاهد البانورامية التي تستحوذ على إنتباههم، بما يفوق معدّل جذب الإنتباه لدى صنوف العرض الأدبيّة الأخرى.

وكشأن أبدي فإن صنوف الأدب بما فيهم الفنّ المسرحي يختزل التجلّيات الإنسانية عبر تعابير بإقتطاعات شعْريّة وأقاصيص خيالية وترانيم مصوّرة، لتعبّر عن أفكارنا ومشاعرنا واحتياجاتنا العاطفية لتتجاوز ذلك فتطرق باب تساؤلاتنا الوجودية وفلسفاتنا المنطوقة منها وغير المنطوقة.

ومن عادة المتلقّي للفنّ الأدبي أن يكون حراً كجناحي نسر لا يحطّ الا على ما يعنيه من أمر كل تلك العروض الأدبية، فتخلّد ذاكرته الإقتباسات والأقوال الخالدة التي تلامس شِغاف قلبه، وتخزّن ذاكرته التصاوير والمشاهد ويلهج لسانه بالترانيم الشعرية، وتسكن نفسه بالقيمة الإنسانية المدفونة في باطن العمل الأدبي المجبول على إتقان فنّ الترميز.

ويختلف القارئ في تلقّي ما يقرأ عن المتذوّق لصنوف الأدب الأخرى في الجانب الآخر، كما يختلف عنهم جميعا جمهور العرض المسرحي، فالقارئ يستلذ القراءة وهو في حالة صمت مطبق مأخوذًا بالخيالات التي ترتسم في ذهنه عبر تنقّله بين سطور الكتاب سابحاً في ملكوت الخيال، نجد أن المتلقّي للعرض المسرحي مأخوذًا بالحضور التام، حيث لا مجال للأخيلة أن تأخذه إلى تصاوير خارج نطاق العرض المسرحي، فلا حاجة له إطلاقا أن يبحر عبر خياله ليستحضر صورة النص المسرحي، فكل المشاهد أمامه صوتاً وصورة في تتابع فنّي تسْتحوذ على جلّ انتباهه طوال مشاهد العرض المسرحي.

ففي حين يكون مسلوب الإرادة فلا قدرة له على إستخدام خياله فالمشاهد ممثّلة أمامه، الا أنه يملك الحرّية المطلقة بالقراءة الناقدة، حيث أن تأويل النص يحمل الكثير من أصداء الذات إن لم يكن جلّها، يقتفي أثر المعنى من زوايا أرحب من إتساع أرضيّة النصّ ، والفهم الحرّ للنص الأدبي المسرحي عبرَ إقتطاعات فكريّة تأخذه المآلات إليها الى أن يكون نصاً مشرّعة أبوابه على سماء الفضاء الحر للمعنى، فمن أين تأتي التأويلات المختلفة للنص سوى من ذلك المونولوج في داخل الجمهور المتلقّي، والذي يسير بالتوازي مع خط سير العمل الأدبي الفنّي، فهو ليس مجرد سطور متراصّة في الصفحات بل هو حديث يهمس لك ويختلف حديثه الهامس من شخص لآخر رغم أن الكلمات داخل السطور هي ذات الكلمات، مما يجعل النصّ الأدبي حيَّا يبعث من مرقده مع كل مستمع ومتفرّج ومتلقّي.

فتجد أن هناك نصوصا أدبيّة تُقرأ من زوايا عديدة فتكون بذلك حمّالة أوجه لتعدد المعنى، ويكون النصّ الأدبي بذلك حياً وأكثر حيوية كلّما اتسعت إمكانيّة تعدّد مدلولاته، ففي حين أن الممثّلين على خشبة المسرح هم أسياد الموقف التمثيلي يكون المتلقّي والجمهور متربّعاً على عرش تأويل المعنى، ولا شيء أمامك كصانع محتوى فنّي و أديب لتفعله أمام تأويلات المتلقّي القابع خلف مقاعد الحضور أو المختبئ خلف الصفحات، فإن كان لك من القراء المئات فهذا يعني مئات القراءات والتفسيرات، وإن كان الحضور لعرضك المسرحي يقارب الألف فذلك يعني أن هناك ألف بؤرة ضوء تنتقل بإنطباعاتها طوال فترة العرض، غير آبهة بتلك الأضواء المُلقاة على خشبة المسرح.

لتأتي مسرحيّة “أصابع جميل” منذ إنطلاق رحلة بدايتها من كونها نصاً مكتوبا عام ٢٠١٨، الى أن توالت عروضه على عدد من المسارح، لتكون بذلك عملا فنّيا حيا لك حرية امتلاك العدسة المكبّرة وتحركها أينما ذهبت بك المعاني، ليرقى بذلك الى قائمة الأعمال الخالدة والتي يمكن أن تأخذك التأويلات إلى أزمان قادمة من المعاني المفتوحة، حيث تفرّ المعاني من قبضتنا مرّة بعد مرّة، فأين هو ذلك طائر المعنى الرابض في انتظارنا نهاية الطريق، أم أن جميع الطيور قد جُبِلت على الفِرار والتحليق فكان الفضاء قدرها.

بداية من أصابع جميل الملوّنة الخضراء، والتي لم تكتسح أطراف أصابعه فحسب بل تلوّنت حياته كلّها بالأخضر، وفي ذلك مؤشّرا حيا على عنصر الإختلاف والتمايز والذي هو فطرة كونيّة يؤكدّها العرض في نهايته ليكون كل منا له مهمته وفائدته، رغم عبثيّة الإختلاف التي تتبدّى بادئ ذي بدء، ” أصابعي قضبان سجن وأنا فيها أسير “، لكن مهلاً لماذا لا يُجدي الإختباء نفْعاً”، لماذا لم يكن القفازان حلاً كافياً؟

مهلا: إن كانت أصابع جميل خضراء، فبأي درجات الأخضر هي يا تُرى؟

مهلا: لكل تلك المعاني التي بدأت تتوافد الى أذهاننا.

لتنتقل بؤرة التركيز على اللون الأخضر الذي جاء مميّزا وخارقا للعادة كونه خارجا عن المألوف ، مما يجعله نصاً مسرحيا أخضر بإمتياز، وفي حين يرفض الإنسجام المجتمعي الإختلاف الى أن أثبت ذلك الإختلاف جدواه وكيف أنه جاء مطوّق بالمعنى وأنقذ المدينة عبر قواه الخارقة، والذي يتبدّى لنا في الحياة الواقعيّة عبر كثير من النماذج والقصص.

واستناداً الى ذلك فها هي الأرض بحاجة الجميع، لتتحوّل بعدها الملحمة إلى مشهد بيئي بحت يسعى لإنقاذ الأرض والعناية بإحتياجاتها، مما يجعل العرض المسرحي قد يبدو مناسباً لعروض يوم الأرض والبيئة العالمي، وكل تلك القيَم الخضراء المعنيّة بالبيئة.

الا أن محاولة إنقاذ الأرض جاءت مشابهة لذلك اللامألوف، فتأتي طريقة الإنقاذ فوق الحاجة لتفيض مخلّفة إعتلالا بيئياً، في عجائبية مشهد كيف أن الأشجار نتأت فجأة من الأرض، الا أن المشهد التعاوني بين أبطال المسرحيّة أنقذ الموقف ليكون بذلك لفتة إلى قيمة أخرى قد يتلقاها المشاهد، فتتعاظم في قلبه فيحتفظ بها درّة مصونة، وفي حين جاءت المشاهد الأولى بمشهد درامي يأخذ لبّ المشاهد ويحاول التلصّص ليد جميل المكتوفة خلف ظهره، كجناحان معقوفان يحلمن بالإنطلاق والطيران ويتأهبان له، ليأخذه مشهد التنمّر من جديد إلى تساؤلات عن كيفيّة معالجة جميل للأمر وتخطّيه لكل ذلك، ليأتي الجدّ كمرهم يخفّف من وطأة ذلك الإختلاف الجيني الذي وُلد به جميل وكعلاج ناجع للتنمر، وكحلّ لمشاكل البيئة والأرض الخضراء وذلك عبر حوارات بإيقاع من إقناع يفتح لك نوافذ النص من جديد على غيرها الكثير من التأويلات والمعاني، ليكون بذلك النصّ أدبياً خالصاً حياً تقع فيه أفكار المتلقّي أينما شاءت ليبحر به تيّار المعنى إلى برّ الأمان.

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video