كان للغول في الحكايات الشعبية دوران متضادّان، مساند داعم بطل الحكاية ومعاديه في حال إظهاره بالقبح وبشاعة المظهر، كلتا الصورتين يؤدي بهما الغول دورًا لاستكمال بنية الحكاية لتهيئة بطلها لفهم المعنى الحقيقي للحياة، ليتخطى العوائق الداخلية المتمثلة بالنفس البشرية، والعوائق الخارجية كالمجتمع والعالم المحيط به، لم تبحث الحكايات الشعبية عن ماهية الغول وتاريخه، فكل ما توارثه الأدب القصصي بعضًا من صفات الغول وعجرفته وبطشه، وبات ذكرى، يعي القارئ الصغير والناشئ المعاصر وهمية ذات الغول وخاليته، ولذلك ندر وجود شخصيته في القصص المعاصرة، وأن وُظّف ظهر بصورة مغايرة عما كان عليه.
كان للكاتبة “نسيبة العزيبي” رأي مغاير في أصل الغول وحكايته من خلال قصة للناشئة بعنوان “الغول ونبتة العليق”، إصدار دار أشجار للنشر والتوزيع عام 2020، قسمت الكاتبة القصة ثلاثين مشهدًا، تتواتر أحداثها بمنطقية وانسيابية وباسترسال جماليّ للنص مما يسر على الناشئ القارئ إدراك الحدث وفهم المعنى.
تروي الحكاية باختصار قصة غول اعتزل الناس وسكن الغابة، تساءل الناس وابتدعوا حكايات عدّة في أصل الغول وسبب هيئته الرثة وتمرده، ذات ليلة اقتلع شجرة معمّرة لم تكن شجرة عادية، بل كانت ملكة الغابة تعتني بطفلة يتيمة، أفزع المشهد الطفلة، فبكت حزنًا على الشجرة وخوفًا من الغول، استحوذ الموقف على سخط الشجرة، فعاقبت الغول بتحويله نبتة العليق كلّ ما أحزن أو أبكى الفتاة الصغيرة، ليتذوق مرارة التحول وألم القيد إلى أن تشرق الشمس فيعود لهيئته السابقة، ومنذ تلك اللحظة تبدلت حياة الغول ولم تعد كما كانت، وتتوالى الأحداث بين التحول إلى نبتة والعودة لهيئته وما يصاحبها من ألم نفسيّ وجسمانيّ وتأمل للطبيعة وسكونها، ويوم بعد يوم تآلف الغول والفتاة، جمعهما التفاهم والمودة، وفي موسم الصيد اقتلع الصيادون استقرارهِما بخطف الفتاة من الغول لإنقاذها من أنيابه دون أن يعوا توسلات الفتاة وآهات الغول، وتبقى محاولات الفتاة للعودة للغابة لغزًا حيّر أهل القرية، فيأسوا من مراقبتها لتنطلق إلى العيش في الغابة آمله الالتقاء بالغول مجددًا.
كُتِبت القصة على غرار الحكايات الشعبية وتضمنت العديد من عناصرها وجماليتها في بناء السياق الدرامي واللغوي، هيمن الخطاب النفسي والسلوكي ليخلص الذات من شوائبها فتبلغ مرحلة النضج، وهي إحدى عوامل التشابه بين القصة ومنهجية الحكايات الشعبية، أما بقية عناصر التشابه ستتضح كلّ منها في موضع يماثلها في القصة.
“كان غولاً وكان هذا كل شيء” اُختُزنت فكرة القصة في العبارة التالية التي اختصرت البحث في هوية الغول، ولذلك بدأت الكاتبة النص بمحاولة الكشف عن هوية الغول وتفسير صفاته وسماته الغاضبة، ولفهم الأمر ابتدع الناس قصصًا عديدة معظمها كان لفهم السلوك العدواني الظاهري دون النظر إلى بواطن النفس ومشاعرها، وكأن الغول قالب جسم بلا وجدان ومشاعر، وهي قاعدة ذهبية، تؤسس الكاتبة القارئ الناشئ على أهمية الالتزام بها في استرساله بقراءة بقية القصة، وفي التطبيق الفعلي مع علاقاته بالعالم الخارجي، توجهنا القاعدة إلى أن فهم الذات والهوية من خلال السلوك الخارجي وحده محاولات مبتورة تولد اليأس، كما يأس الباحثون في القصة عن فهم وتفسير هوية الغول، ذلك اليأس ولد للقراء فضولًا لاكتشاف هوية الغول ومعرفة ما آلت إليه الأحداث، وزاد الأمر تشويقًا إتمام الفقرة بعبارة “حتى جاء ذلك اليوم الذي تغير فيه كل شيء” لتنقلنا العبارة للحدث الأكثر أهمية في المشهد التالي.
برعت الكاتبة في الصور المجازية لوصف الطبيعة وامتزاجها بمشاعر الطفلة الصغيرة، كما أسرت مشاعر القارئ ومخيلته ليستشعر بوجدانه جمال الشجرة ولطف ظلها وروعة النسيم والزهر، ذلك الوصف الدقيق البديع للطبيعة عمق تفاعل القارئ للمشهد ليستشعر بألم الفتاة الصغيرة باجتثاث الغول للشجرة، وهذا أمر يحسب للكاتبة بقدرتها على محاكاة خيال القارئ من خلال الصور الذهنية وهيمنتها على مشاعره، وهذا ما تمتاز به الحكايات الشعبية من قدرتها على النفوذ إلى الفكر ووجدان القارئ والمستمع لها.
حذاقة الكاتبة استمرت في مشهد اقتلاع الشجرة لتُظِهر مشاعر الغضب الضامرة بوجدان الغول بالرغم من إعجابه بالمشهد الخلاب، ولكن جمال المشهد لم يزده إلا غضبًا لتحطيم كل معاني الحياة التي ترمز لها الشجرة، كأنه يتعمد وأد الفطرة الطيبة المكنونة بداخله، لم يكن لاقتلاع الشجرة سبب سوى الغضب غير المبرر، الذي زاد تشوق القارئ إلى الكشف عن علل الغضب، وخُتم المشهد برسم بعض ورق الشجر المتساقط للدلالة على تساقط رمز الخير والأمل المتمثلة بالشجرة المعمرة، كما توحي بانتقال لمرحلة جديدة فتساقط أوراق الشجر مرحلة انتقالية لتجديد الطبيعة بفعل تعاقب الفصول.
لكبح غضب الغول لزم انتقاله من مرحلة فوضى المشاعر وعشوائية السلوك إلى مرحلة الانضباط والتحكم في النفس، ذاك الأمر يتطلب وقتًا من التأهيل وتدريب النفس لإعانتها على كبح الانفعالات، يمثل عقاب الشجرة للغول فترة ترويض وهدنة مع النفس والطبيعة ليتخطى الصعاب ويعود للفطرة البشرية السليمة، منهجية التحول من كائن إلى آخر نجدها في العديد من الحكايات الشعبية كحكاية “غصون” التي يتحول الابن فيها إلى غزال، وحكاية “سمندل” من حكايات ألف ليلة وليلة، وحكاية ” البجعات الستة ” من حكايات الأخوين غريم، وإن اختلفت أسباب التحول وأهدافه إلا أن الكاتبة وفقت في توظيف التحول في القصة كونها مرحلة لتأهيل الغول لضبط انفعالاته والتدريب على حسن التصرف، أعدت الكاتبة التحول كبرنامج علاجيّ متكامل بخطوات منهجية مراعية الجانبين النفسي والبدني، متبعًا الخطوات التالية:
- ارتبط التحول بشعور الفتاة بالحزن، ولازم التحول ألم بدني ونفسي بتقيد الحرية والحركة، تطبيقًا للنظرية السلوكية، فإن ارتباط ألم التحول بمشاعر حزن الفتاة، أوجب على الغول تجنب غضبها لتفادي الألم فسعى لإسعادها، وبذلك بات الغول أكثر قدرةً للتحكم في انفعالاته وأكثر فهمًا ومراعاةً لمشاعر الآخرين.
- يسلب التحول قوة الغول وجبروته فيشعره بالانكسار والضعف، ليدرك أن قوة البدن وهن ما لم يرسخ بقواعد حسن الخلق والحكمة.
- يقضي الغول فترة التحول بصمت وسكون ذلك الصمت أفسح مجالًا للتفكير والتأمل بالطبيعة فاستشعر جمالها لتبعث راحة وطمأنينة وهي مرحلة علاجية لتمحيص الوعي والإدراك لدى الغول.
- تكبر شجرة العليق بتكرار التحول، ذلك الازدياد في الحجم يصاحبه تضاعف الألم وتزايد في فهم الغول لحالته وإدراكه لها فيتقبل الواقع ويحاول التعايش معه.
- بعد اجتياز مراحل العلاج بنجاح وبلوغ الرضا والطمأنينة، ارتقى التفكير في الذات إلى التفكير بالآخرين لينتقل إلى مرتبة أسمى وهي العمل من أجل البحث عن وسائل لإسعاد الآخر المتمثل بالفتاة في القصة.
بعد رحلة التأهيل واكتمال النضج حان وقت الاستقرار والاعتماد على النفس ولا تتم تلك المرحلة إلا بالانفصال، ليشق كلّ منهما طريقه في الحياة، وفي ذلك تماثلٌ آخر للحكايات الشعبية، بالرغم من شدة وجع الانفصال للطرفين ورفضهما ومقاومتهما في بادئ الأمر إلا أن الحياة مضت بهدوء وإتمام المهام كما اعتادا عليها.
تناقلت الألسن القصة جيلًا بعد جيل، ضيع الكثير من أحداثها لم يعد يعرف هل تختص القصة بالغول، أم الفتاة، أم الشجرة، فللزمن قوة، حجب الكثير من الوقائع وطمس بعض حقائقها وأبطالها، فما كان غول القصة إلا إنسانًا عانى منذ صغره من ألم الإهانة، والضعف، والتنمر واليأس إلى أن شاب واشتد ساعده، فاعتزله الناس واغترب عن موطنه وهويته وبات يظهر الغضب بالتمرد والتدمير، كانت القصة بمثابة برنامج وعلاج يخاطب ذات القارئ الغاضب ليطفئ نيرانها بمواجهتها بالعزم وإدراك الجانب المظلم من العالم المسيء.
أبدعت الكاتبة في السياق والفكرة، وانطلقت بالقارئ من عالم الخيال ليغور في أعماق النفس البشرية، لتكتشف أثر الآخر على الأنا وأثر الأنا على السلوك، فتمحص قوته الداخلية لمواجهة العالم المحيط من حوله.