كانت الكتابة بالنسبة إلى “عبد الرزاق قرنح” (الحاصل على جائزة نوبل للآداب سنة 2021) قدرا محتوما، وملجأً يأويه من حنينه إلى بلده وأهله؛ لذلك كانت مواضيعه الأثيرة هي الهجرة، والنفي، والذكريات، والحنين، وفظائع المُستعمِر الأوروبي، ومآسي المستعمَر الإفريقي. وهو في ذلك يحاول أن ينتصر للمهاجر الذي قد يكون قيمة مضافة بالنسبة إلى أوروبا، بالرغم من تأزم نفسيته، وإحساسه المستمر بالغربة في مجتمع يختلف جذريا عن مجتمعه الأصلي.
نص التعريب:
إذا كان هناك من يرى أن المسافة ضرورية بالنسبة إلى الكاتب، ويُصوِّرُه بوصفه عالَمًا مقفلا، فإن دليلا آخر يقترح ضرورة التنقل والارتحال، ويرى أن الكاتب لا يبدع أثرا ذا قيمة بشكل منعزل إلا إذا كان متحررا من المسؤوليات والحميميات التي تخرس الحقيقة وتُمَيِّعها. وإذا كانت وجهة النظر الأولى حول علاقة الكاتب بالمكان تتصادَى ورومانسيةَ القرن التاسع عشر، فإن وجهة النظر الثانية حول الموضوع تُذَكِّر بِحَدَاثِيِّي بدايات القرن العشرين وكذا منتصفه. ومعلوم أن عددا من أعلام الكتابة الحداثية الإنجليزية أبدعوا بعيدا عن منازلهم، وذلك بغرض الكتابة – كما يرون – بشكل أكثر وفاءً، ومن أجل الانعتاق من مُناخ ثقافي اعتبروه راكدا.
ثمة دليل آخر مفاده أن الكاتب يفقد، بانعزاله وسط الأجانب، الإحساس بالتوازن وبالناس وبمدى أهمية إدراكه لهم وقيمة ذلك. وهناك من يرى صحة هذا الأمر خصوصا في حقبتنا ما بعد الإمبريالية، وبالنسبة إلى كُتَّاب المستعمرات القديمة. فقد استمد الاستعمار مشروعيته من خلال تراتبية عِرْقية، تمَّ التعبير عنها في العديد من حكايات الثقافة، والمعرفة، والتقدُّم. زد على ذلك أن الاستعمار بذل الغالي والنفيس في سبيل إقناع المستعمَرين بالاستسلام لواقع الأمر. ويبدو أن الخطر يكمن بالنسبة إلى الكاتب ما بعد الكولونيالي في إمكانية اشتغاله، أو ربما سيشتغل، وهو يشعر بوحشة حياةِ غَرِيبٍ في أوروبا وعزلتِه. وبهذا، سيخاطر هذا الكاتب بأن يصبح مُهاجرا ساخِطًا، يسخر من أولئك الذين تركهم خلفه، ويحظى بتهليل الناشرين والقراء الذين لم يتخلصوا بعدُ من عداء، غير معترَفٍ به، حيال الشعوب المستعمَرة، حتى إن السرور لا يمكن إلا أن يغمرهم وهم يكافِؤُون ويمدحون أي فعل متشدد وصارم تجاه العالم غير الأوروبي. وحسَب هذا الدليل، تقتضي الكتابة وسط الأجانب الاشتغال بلا توقف من أجل اكتساب المصداقية، وتبني ازدراء الذات واحتقارها باعتباره سِجِلًّا للحقيقة وأسلوبا للكتابة. أو على العكس من ذلك، تُفْضِي الكتابة وسط الأجانب إلى نَبْذِ هذا الكاتب ورفضه بوصفه متفائلا وعاطفيا.
كلا الدليلين – اعتبار المسافة مُحَرِّرِة للكاتب المغترب من جهة، وعدُّها مُشوِّهة له من جهة ثانية – يدخلان في باب التبسيط، دون أن يعني هذا أنهما لا يحملان بعض مَخَايِل الحقيقة. لقد أمضيت حياتي كراشد، عن بكرة أبيها، بعيدا عن مسقط رأسي، ولا يمكنني أن أتخيَّل، في الوقت الحالي، كيف كان يمكنني أن أعيش بطريقة مغايرة. أحيانا، يروق لي أن أحاول تخيل تلك الحياة، بَيْدَ أني أفشل في ذلك أمام استحالة إيجاد حلول للاختيارات الافتراضية التي أطرحها أمامي. لا مِراء في أني كُنْتُ واعٍ بانخراطي، في إنجلترا، في فعل الكتابة من خلال البُعد؛ وقد أدركت، في الوقت الحالي، أن هذه الظروف التي جعلتني أنتمي إلى بلد وأعيش في آخر كانت هي موضوعي على الدَّوام، ليس بوصفها تجربة فريدة كُتِب عليَّ أن أعيشها، وإنما لأنها قصة من قصص زمننا هذا.