Ayoon Final logo details-3
Search

باب النجّار مخلّع، والسماء بلا باب

فوزية علي الفهدية

من الأقوال الدارجة التي تتّسم بالفكاهة، ويتم تذاكرها حين تكون صاحب خبرة ما تمتهنها وتحترفها، ورغم ذلك فإنها لم تتجلّى في حياتك على الإطلاق، وكأنك محاط بوضع عقيم وانعدام تام لتلك المهارة من حولك، فيقال ” باب النجّار مخلّع “.

رغم التداول الفكاهي للأمر الا أن أمر تحقيقه وتكراره يستلزم الوقوف عليه، وان لم يكن بالبّت بتفسيره، وانما يكفي أن نطرح حوله التساؤلات التي تقترب بنا نحو الإجابة، أو كما عبّرت عن ذلك الشاعرة البولندية فيسوانا شيمبروسكا: ” أعتذر للأسئلة الكبيرة عن الأجوبة الصغيرة “، ومحاولة قراءة الأمر على نحو تجريدي، وإضفاء بعدا آخر لذلك المثل وإن كان في سبيل إنقاذ المعنى.

وإنه لمن الواجب على الكاتب ما أن يقف على زاوية ما حتى يستخلص عمقها وجوهرها الى الحدّ الذي تستحيل فيه القصة الى إيجابية، كإستخلاص العسل رغم لسعات النحل.

وإن كانت الزاوية بثلم جليّ وإن كان باب النجار مخلّع حقا، الا أن رغم ذلك يظل نجّارا لمئات الأبواب من حوله، ممتلئا بحرفيّة الى الحدّ الذي يفيض به تواجده فلا يكترث بأمر بابه، فهو يعرف الى أي حد تواجده مثريا بحد ذاته، وإن كان بباب مخلّع، ليتواجد بذلك كأنه شخص آخر غير معني فيترك زمام الأمر، وكيف أن تواجد البعض بالمعنى كشعلة نور في سراج بيوم عتمة ظلماء.

أن تكون صاحب حرفة ما أو رسالة أيّا كان مضمونها؛ فأنت تفيض بذلك فيكون تواجدك ممتلئا بالمعنى، محققا لكل ما لم تقم به، فإن كان النجار بابه مخلّع فيكفيه شرفا أنه نجّار يفتح مغاليق أبواب ويوصد أبواب أخرى، فتنفتح له أبواب السماء على مصراعيها.

إن كنت رساما ولم تملئ المكان باللوحات الفنية، فإن المكان يكفيه فخرا أن تكون هناك كفنّ بحدّ ذاته، وإن كنت عالما ومخترعا ولم يستخدم من حولك أيّا من تلك المخترعات، الا أن حضورك هو محض اكتشاف محفّزا للعلم والإبداع، وإن كنت كاتبا ولم تتدارس كتبك مع من حولك فيكفيك أن تكون صاحب أفكار، فتتوارد الأفكار والمعاني لمن حولك تباعا، وكما يقول عتيق رحيمي: ” عندما تكتب فأنت تُعطي للعالم معنى “.

وحيث أن المعنى والجوهر يطغى على الشكل، فأن تكون صاحب معنى ورسالة، يُغني عن كون بابك مخلّع أو أنك بلا باب من الأساس.

قد يفسّر البعض الأمر أنه من قبيل الملل أن يكون صاحب الحرفة لا تمتلئ الزوايا حوله بحرفته، أو أنه وعلى نحو أكثر إيجابية فإن ذلك إكتفاء من الصنع، والذي اتخذه كصنعة أو مهنة أو حتى هواية، ومن تلك التفسيرات وغيرها ما لا يمكن إثباته ولا دحضه على حدّ سواء، لكن بتلك التفسيرات فقط وبتجاهل ما سواها من الحقيقة، فإنك بذلك كأنك وكما يقول جلال الدين الرومي: ” قد رأيت الصورة ولكنّك غفِلت عن المعنى “.

الا أنه وبتفسيرات أكثر عمقا وشعورا بالمعنى، فما حاجة النجّار للباب حيث أن السماء بإتساعها بلا باب، ينفتح بذلك على آفاق أوسع، فأن تكون بارعا في أمر ما متّقدا بالموهبة، فيكفي نور تواجدك في كل الأماكن والزوايا، وإن لم تمتلئ بأعمالك.

لذا سيتكرر لدينا مرارا وتكرارا وبإستمرارية عجيبة مقولة ” باب النجار مخلّع “، فهو ليس من النوع الذي سيتلاشى مع تقادم الأيام، وكأنه بذلك سنّة كونية مسلّم بها، ليس لأنه عجز عن إصلاح بابه، لكنّه الإكتفاء والفيوضات التي تنفتح بها أبواب السماء، فما حاجتك للفعل وأنت صاحب معنى.

كحال تلك التحف الأثريّة التي تحتفظ بها في الزاوية، والتي تبدو لوهلة عديمة الجدوى، الا أنها في باطن الأمر تختصر مئات المعاني والقصص.

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video