قد يستغرب بعض القُرّاء عنوان هذا المقال ، فمن المتعارف عليه ، إنّ العملية النّقدية هي التي تبحث عن قوانين الشّعرية في النّصوص الإبداعية وليس العكس . لكنّ سرعان ما يزول هذا الاستغراب عندما أُذكّر، بأنّ النقد ما هو إلا كتابةٌ إبداعيةٌ بالدرجة الأوّلى ، ونشاطٌ فكريٌّ حُرٌ مفتوحٌ على مختلف العلوم ، فلم يكن النقد في يوم من الأيام تابعاً أعمى للأدب ، إنّما تربطه بالأدب علاقة تكاملية ، ينمو بنموه ، ويزدهر بازدهاره ، ومع التّطور السّريع الذي شهدته السّاحة الأدبية ، وفي خِضمّ موجات الحداثة والتجريب ، والتي رافقها ازدهار المناهج النقدية وانفتاحها ، كان لابدّ من إجراء مراجعة للخطاب النقدي هو الآخر ، إذ لم يعد النقد بمفهومه الكلاسيكي الضيق المقتصر على عمليات الملاحظة والتفسير والتحليل والتقويم قادراً على استيعاب المتغيرات وهضم جميع تلك التحولات المنهجية ، فخرج النقد من جلبابه الضيق هذا ، إلى مرحلة جديدة ترسم آفاق ما بعد النقد ، وظهرت أقلام نقدية ،اختطتْ لنفسها منهجاً نقدياً مغايراً منفتحا على كل المناهج الحداثوية الجديدة ، منهج ينظر للمبدع والنص والقارىء معاً ، فلا انفصال بينها ، كما فعلت المناهج النقدية السابقة التي كانت نظرتها أحادية للثالوث الإبداعي من قبيل ، المناهج الماركسية و النّسوية والبنيوية والسيميائية والنصية والتفكيكية وغيرها ، وأصبح النقد نصاً إبداعياً ونشاطاً فكرياً ومؤثراً جمالياً موازياً للنص الإبداعي المنقود ، إنْ لم يكن أعلى منه بلاغةً وسبكاً وجمالاً ، وأصبحت العلاقة بين الأدب والنقد علاقة نِدِّية ودخل النقد مرحلة جديدة ممكن أن نطلق عليها بـ” شعرية النقد ” ، فالشّعرية خصيصة علائقية تمنح النصوص فرادتها الجمالية من خلال اللغة الموظفة ، فهي وبحسب ، ياكبسون ، لغة عن لغة ، أي أنها تصف ما وراء المعنى من موحيات وسيميائيات ، وهي لا تخص اللغة المعيارية للخطاب النقدي ، إنّما صفة تطلق عمّا وراء اللّغة ، اللّغة التي تتجاوز الظاهر وتغوص في تركيباتها الخفية ، فتحرف النّص عن مساره العادي إلى وظيفته الجمالية ، وهذه العملية ما هي إلا إنتهاك لسنن اللغة العادية(١) ، وبهذا تحوّلت لغة النقد من لغة معيارية إلى لغة جمالية تتصف بالشّعرية والخلق والإبداع ، فالشّعرية ليست حكراً على الشّعر إنما ” تتعلق بالعمل الأدبي سواء أكان منظوما أم لا ، بل تكاد تكون متعلقة على الخصوص بأعمال نثرية ” (٢) ، وأحسن الكلام ” ما رقّ لفظه ولطف معناه …وقامت صورته بين نظم كأنه نثر ، ونثر كأنه نظم “(٣) فكلّ ما كانت أداته اللغة ، ويصنع بوساطة اللغة ، ومن أجل اللغة ، تتأتى الشّعرية ، فهي بكلّ بساطة ، استعمال غير مألوف للغة ، وهذا الاستعمال يكون بتوظيف أشكال البيان من استعارة وكناية وتشبيه ورمز وتقديم وتأخير وحذف وإظهار وإضمار….وغيرها من الأشكال التي ترتقي بالنصوص وتضفي عليها سمة الشعرية .
من بين تلك الأقلام النقدية التي سحبت النقد من لغته المعيارية إلى منطقة الشّعرية ، نجد الكاتب والناقد والإعلامي المصري البارز ، الدكتور ناصر أبو عون ، ولن أجد أصدق قولاً ممّا وصف به نفسه عندما قال في إحدى مقالاته ” ولي مقارباتٌ نقديةٌ ، لا أزعمُ الكمال تاجها ، ولا اليقين تمامها ، ولا أدّعي أن الباطل لم يقرُب حرمَها ، لا من بين يديها ولا من خَلفِها ، وهي منشورة في خمسة كتبٍ حول تجربة قامات شعرية في المشهد العراقي ، والمصري والعُماني ، وبلاد المهجر الحديث ، وأواسط إفريقيا ، خلصتُ فيها إلى نتائج علمية وموضوعية “(٤) ، إذ ينفرد ناصر أبو عون من بين قلّة من النقاد والكتاب في عصرنا الراهن ، بملكة إبداعية ابتكارية ، وفهم سديد لأسرار البيان العربي ، فنجده في مقارباته النقدية يستعين بروح الشعر وتقاناته وآلياته وملامحه ، وكأني به شاعر يكتب بلغة النقد ويتحكم بمساراته ، فيجيء نقده أشبه بالدعوة إلى تبني نظرة جديدة ، في فحص النصوص الأدبية ، وبيان مكامن الإبداع فيها ، وهي لا تُلزم القارىء بأيّة نتائج ، إنما يحاول إنجاز فعالية قرائية تقوم على التحاور والأخذ والردّ .
ولما كانت مقارباته النقدية كثيرة ومتنوعة ، ارتأيتُ أن اختار منها جزءاً من دراسة مطولة له، لقصيدة ” سائل نهاوند ” للقاضي الشيخ الشاعر عيسى الطائي ،المنشورة في جريدة (الرؤية العمانية) ، والتي يسعى فيها أبو عون ، لإعادة إحياء فن الحماسة من خلال الموازنة بين شعر عيسى الطائي وإبداع أعلام الحماسة العربية كأبي تمام والبحتري من جهة ، والتأكيد على ضرورة العودة إلى موروثنا العربي الأصيل ، فتسمو أخلاقنا ويستقيم لساننا من جهة أخرى يقول ” ألم يأن للذين أمسكوا بأزمة إعداد الأجيال القادمة أن يردونا مرغمين إلى ديوان العرب ، فتسموا أخلاقنا ، ويستقيم لساننا ، ويشتدّ عودنا ، فما أحوجنا اليوم إلى إبداع الأجداد في صورته الأوّلى ، ورصانته المتوارثة” (5) وأما إذا أردنا إقامة الحجة على ما أقررناه سابقا فإليكم الدليل في نص لا يتجاوز العشرة أسطر ، لكنّه مكمن للشاعرية واللغة النقدية المغايرة ، نقرأ له ” تطلعُ شمس الشّعر ، فتجلو صفحة الأفق من ضباب التيه اللغوي الذي لبَّد سماء العربية ، بعد أن ” استنوق الجمل ” في الأرض اليباب ، وانبعث أشقياء الكتابة فعقروا ناقة البلاغة بخنجر الحداثة المبتدعة والمدعاة ، وتخرجُ القيم الإسلامية من أجداثها ، وتنفض عنها غبار المؤامرة المندسة في كتب المتأخرين ، وتتوضأ من أوزار المستغربين على منابع نهر الرصانة ، وتخلعُ القصائد أسمالها ، وترتدي حُلل البهاء زاهية بهيّة كما ورثناها من كتب السابقين الأولين ، فتشتدّ أعواد المعاني ، وتنتصب قامة الفخار ، ويستعر أوار الحماسة ، وتستنبتُ الفروسية أشاوسها “
نصٌ نقدي ٌ جاء تمهيداً لفكرة الدراسة ، وسبيكة لغوية تنزُّ بلاغة وشعرية وعذوبة ، عمدَ الناقد فيه نحو توظيف أنواع متعددة من الانزياحات اللغوية التي عُدتْ من أهم قوانين الشّعرية ، ما بين الاستعارة والتشبيه والكناية والالتفات والرمز والتضمين ، فتأمل أيّها المطلع تعدد الاستعارات البديعة في قوله ” شمس الشّعر ،و صفحة الأفق ، وضباب التيه اللغوي ، و سماء الفصاحة والأرض اليباب وأشقياء الكتابة ،و ناقة البلاغة وخنجر الحداثة ونهر الرصانة وأعواد المعاني وقامة الفخار وأوار الحماسة …” تشكيل استعاري مبهر فتق المعنى المقصود وقربه إلى الأذهان ، بما تركته من تأثير جمالي في نفس المتلقي ، واقرأ أيّها الناظر ، جمال الالتفات الفعلي ، وهو خاصية تعبيرية ذات طاقات إيحائية يبنى على الانزياح عن النسق اللغوي المألوف ، والتلاعب بزمن الأفعال ما بين مضارع ثم ماض ثم العودة إلى المضارع في توليفة بديعة ، أكدت نصاعة الماضي واستمرار الحاضر عبر الافعال الآتية : ( يطلع وتجلو ) ثم الالتفات نحو الزمن الماضي في قوله : (لبَّد واستنوق وانبعث وعقروا ) ، ثم العودة مرة أخرى نحو الزمن المضارع بقوله : ( تخرجُ وتنفضُ وتتوضأ وتخلعُ وترتدي وتشتدُّ وتنتصبٌ ويستعرُ وتستنبت ) ، ويوظف أبو عون ، المثل العربي المشهور المنسوب إلى طرفة بن العبد في قوله : (استنوق الجمل )، كناية عن التراجع الحضاري لأمّة العرب التي صارت كالناقة في ذُلِّها وهوانها ،ويعرج في تشكيلته النقدية هذه ، نحو الرمز بوصفه طاقة حجاجية فيولي شطره نحو ( ناقة صالح ) ، في قوله :” انبعث أشقياء الكتابة فعقروا ناقة البلاغة بخنجر الحداثة” ، للإشارة إلى السير الاعمى نحو حداثة غربية وهجر التراث العربي المكتظ بأسرار البيان وعلوم البلاغة الباذخ بالقيم الإنسانية والأخلاقية ، ليأتي ديوان الشيخ عيسى الطائي ، فيخرج القيم الإسلامية من أجداثها / ويحييها من جديد لترتدي حلل البهاء زاهية مثلما كانت في كتب السابقين الأولين .
في الحقيقة يطول الحديث عن شعرية لغة النقد في مقاربات الدكتور ناصر أبو عون ، وما استشهدت به هنا هو غيض من فيض ، فمن الصعب جداً الإحاطة به في مقال واحد ، ولذا أدعوا طلبة الدراسات العليا والباحثين والمهتمين بهذا الشأن مراجعة كتب الدكتور ناصر أبو عون ودراساته ومقارباته النقدية ، فهي كنوز لغوية ثرّة بأنواع البيان وأساليب البلاغة وقوانين الشعرية التي تحكم نسيجها .
الإحالات
_ ١/ قضايا الشعرية ، رومان ياكبسون ، ترجمة : محمد الولي ومبارك حنون ، دار توبقال ، ط١ ، ١٩٨٨م ، ص ٣٥٠ ٣٥٦
٢/ الشعرية ، تزفيتان تودروف ، ترجمة : شكري المبخوت ورجاء سلامة ، دار توبقال ، ط١ ، د.ت ، ص ٢٣
٣ / الإمتاع والمُؤانسة ، أبو حيان التوحيدي ،( ت ٣٧٥) صححه وشرح غريبه ، أحمد أمين وأحمد الزين ، لجنة التأليف والنشر والترجمة ، مؤسسة هنداوي ، القاهرة ، ٢٠١٩ م .٢/ ١٤٥ .
٤ / ولِغتْ كلابُهم في بئر اللغة ، د.ناصر أبو عون ، مقال منشور في جريدة عالم الثقافة المصرية .
٥/ ” سائل نهاوند ” وفن الحماسة للقاضي عيسى الطائي ، د.ناصر أبو عون ، مجلة الرؤية العمانية .