Ayoon Final logo details-3
Search

المقابسة والمثاقفة بين الـ (نحن) و(الآخر)

بقلم : عماد خالد رحمة ـ برلين

هل هناك حوار بين العرب والغرب يستبدل السيف بالقلم ؟؟؟
أن يتكلم الباحث عن مواجهة بين أدبين متمايزين لا بدَّ أن يقود الكلام عن (المثاقفة(Acculturation ، ذلك المصطلح الأثير لدى دارسي (الأنثروبولوجيا الثقافية Kulturanthropologie)، والذي يشير بوضوح إلى التأثير الذي تمارسه ثقافة أو حضارة معيّنة على ثقافةٍ أخرى، غير أنّ (المثاقفة Acculturation) ليست وحيدة الاتجاه دائماً. فهي حوار بين (الذات) و (الآخر)، لا يتعيّن أن يكون من نتائجه أن تلتهم الثقافة أو (الحضارةZivilisation) الأعظم ثقافة أو حضارة أقل شأناً منها. ومع ذلك فالعلاقة بين الشرق والغرب أدّت بدورها إلى نشوء ما يسمى بظاهرة (الاستشراق Orientalismus) التي إذا أهملنا جوهرها وجوانبها الإيجابية وأردنا التغاضي عنها أو الاقتصار على رصد تجلياتها المَرَضيّة، فلا بدّ أن نجد أنفسنا إزاء ظاهرة النزعة (المركزية الأوروبية(Eurocentrism ، أي دراسة الشرق باعتباره (الآخر) المغاير والمختلف باستمرار. هذا الجانب من (المثاقفة Acculturation)، المدجج بالسلاح، يمكننا استبداله بمصطلح عربي من مصطلحات الفيلسوف المسلم المتصوف والأديب البارع أبو حيان التوحيدي (310 ـ 414 ـ هـ /922 – 1023) م، هو (المقابسة The plug)، وأثره على سواه باعتباره يصلح للتعبير عن (المثاقفة Acculturation) بما هي حوار حضاري بين (الذات) و (الآخر)، ينطوي على مشروع للتبادل بين قبسٍ من الثقافة العربية بقبسٍ من ثقافة أخرى .
و(المقابسة) بهذا المعنى ربما كانت قريبة، بالهالة التي تحيط بها كلمة Contraferentia التي صكها اللاهوتي الاسباني يوحنا الأشقوبي أو خوان دي سيغوبيا ((Juan de Segovia)‏، من أهل أشقوبيه.لتدشين فكرة (مؤتمر) يكرس حواراً بين أوروبا والعرب، يستبدل السيف بالقلم .وتعّرف (المثاقفة Acculturation) على أنها التغيير الثقافي في الظواهر التي تنشأ في العالم، حيث تدخل جماعات من الأفراد الذين ينتمون إلى ثقافات متعددة ومختلفة في إتصال مباشر، مما يترتب عليه حدوث تبدلات وتغييرات في الأنماط الثقافية الأصلية والعريقة السائدة في إحدى الجماعتين أو فيهما معاً. فكل أمةٍ من الأمم ترى في نفسها رافداً معرفياً وثقافياً تسعى من خلاله لتنمية كيانها وماهيتها الثقافية والمعرفية. واستثمار ما لدى الثقافات الأخرى من حكم ومآثر كانت وما تزال نتاج تجربة ملهمة .
لقد شهد الشرق والغرب حالاتٍ من الجذب والنبذ، فهما مجالان جغرافيان عرفا عبر سيرورة التاريخ تحولاتٍ حضاريةٍ وإنسانيةٍ كبرى. كان لها تأثير كبيرعلى التطور الحضاري والإنساني المشترك. فقد كان الشرق قد أمسك بمشعل الحضارة الإنسانية في العالم القديم منذ فجر التاريخ على حساب الغرب الذي لم يستفق من غفوته بعد، فقد شكّل الشرق بنوره وقدراته الفائقة ورشة حضارية حقيقية بظهور كيانات وهياكل دول حضارية كبيرة بمقاييس العالم القديم. ولاتزال آثار تلك الحضارات الشرقية ماثلة للعيان إلى هذا اليوم تسحر ألباب الناس وعقولهم في عصرنا الراهن. فقد تركت لنا الحضارة الفرعونية القديمة التي عاشت قبل نحو سبعة آلاف عام من الآن، ما يقرب من ثلث آثار العالم، وخلّفت لنا منشئات معمارية عملاقة لم يشهد التاريخ بمثل ضخامتها وقدرتها على الاتقان في نقوشها ورسوماتها وفنها المميز والعريق على حضارة رائدة في كل ابداعاتها وابتكاراتها وفنونها وعمائرها، وأذهلت العالم بنتاجها العلمي والفكري، كذلك يكتنز العراق الذي شهد أرقى الحضارات الإنسانية أرقى الآثار والمعالم الضخمة التي تشهد على تطورها وازدهارها، فقد شكّلت تلك الحضارة حضارات متعدّدة منطلقاً لتطور الحياة الإنسانية في شرق وغرب العالم القديم وكانت مركز الإشعاع الفكري والثقافي والمعرفي . التي حفظت للأجيال أوّل وأضخم تشريع قانوني في العالم ( تشريع حمورابي) . كذلك كشفت الأبحاث الأركيولوجية في سورية عن بقايا حضارة ساهمت في التطورات الحضارية والإنسانية في الشرق القديم فكانت مهد الحضارات الإنسانية ومهبط الرسالات السماوية ومصدر الأبجدية الأولى في التاريخ البشري. حيث يزيد عدد المواقع الأثرية التي تعود إلى فترات زمنية مختلفة على 4500 موقع أثري هام جداً. فقد تراوحت العلاقات الحضارية الإنسانية بين هذين الكيانين الحضاريين، حضارة الشرق وحضارة الغرب منذ فجر التاريخ بالتنافس تارةً، والتثاقف تارةً أخرى. وهنا نسعى لمحاولة فهم أصول العلاقات الحضارية بين الكيانين، ومعرفة المشترك الحضاري والإنساني، وبخاصة في مجال: (التنافس) و(التثاقف).
يرى العديد من المؤرخين أنّ )المثاقفة Acculturation) دخلت إلى ثقافتنا العربية بشكلٍ تلقائي كأحد الإستحقاقات ونتائج الحروب والفتوحات التي قامت بها الدولة العربية ـ الإسلامية على دول الشعوب والأمم الأخرى داعية إياها للتخلي عن معتقداتها وإعتناق الدين الإسلامي. ودخلت )المثاقفة Acculturation) إلى الثقافة العربية في سياق ممنهج ومدروس إبتداءاً بحركة الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية التي كانت نشيطة بشكلٍ كبيرعلى يدي خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الأموي في القرن الهجري الأول، ومروراً بمرحلة التطور والإزدهار على يدي الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد، والمثاقفة في الثقافة العربية المعاصرة تم ترسيخها وترسيمها في التاريخ الحديث كنتيجة لنجاح الحملة العسكرية الفرنسية على مصر التي قام بها الجنرال نابليون بونابرت على الولايات العثمانية مصر والشام (1798-1801) م بهدف الدفاع عن المصالح الفرنسية. وكانت تأثيرات الثقافة الغربية على الثقافة العربية بشكلٍ مكثّف ومميز، بسبب تخلف ووهن الواقع الثقافي العربي في ذلك الوقت، واقتصار تكويناته على ما تركته النزاعات الحادة، وصراعات دويلات الطوائف والمماليك من آثار في التراث الثقافي العربي الذي ما زالت بقاياه متجسدة في بعض طوائف المثقفين .
في حقيقة الأمر لا يمكننا الخوض في مجال المقابسة والمثاقفة دون العودة إلى أصول وتاريخ مفهوم المثاقفة الذي تم اقتباسه من علمي (السوسيولوجيا Soziologische) و(الأنثروبولوجيا Anthropologe) بخاصة عندما ابتدع علماء الأنثروبيولوجيا الأمريكيين المثاقفة كمحور ومدلول في حدود عام 1880م، المثاقفة كمدلول في حدود عام 1880م وأطلقوا عليه مصطلح (Acculturation)، أو (التثاقف Akkulturation) باللغة الألمانية، ورأى له الألمان مصطلحاً آخر هو (التبادل الثقافي Kulturaustausch)، وأما الفرنسيين فقد أطلقوا عليه مفهوم (تداخل الحضارات Interpenetration des civilization)، أما الإسبان فقد قالوا عنه (التحوّل الثقافي Transculturation)، ورأى له الانكليز مصطلح هو (التبادل الثقافي Cultural Exchange). والمثاقفة عملية دمج القيم والمعتقدات والتعلم. والعادات والتقاليد الاجتماعية واللغة. ومستويات النشاط الإنساني. كما أنَّ المثاقفة هي تفاعل طوعي وخياري ومباشر، ولا يثمر ولا يتم إلا برغبة جامحة تبادلية بين المتثاقفين بكل أطيافهم ومشاربهم المعرفية، وهي في حالات اللقاءات والإختلاط القهري الناتج عن الصراعات والنزاعات والحروب والإستعمار لا يمكن أن تكون أو تتحقق. نتيجة التواشج والاختلاط المتبادل والناجم عن ذلك (تشوهات ثقافيةKulturelle Verzerrungen). وهي لا تسمح أن تترك أي نتيجة تأصيلية تتمتع بأي صفة من المثاقفة. لذا نعتقد أنّ المثاقفة تضادية الغزو الثقافي القسري، كونه لا يتضمن في متنه الرغبة الحقيقية الجامحة في هزيمة (الآخر) وإرغامه على قبولا ما لا يتناسب معه، وهو فعلٌ قهري، ثم إلغاؤه بل ومحوه نهائياً بعد تهميشه، وفرض التبعية عليه بقوة الإجبار والقسر. بخاصة أنَّ التعامل معه يكون استعلائياً وإشعار الطرف (الآخر) بالدونية والنظر إليه بغطرسة وعدوانية مفرطة .
وأما)المثاقفةAcculturation) فتقوم على التساوي والتسامح والإحترام المتبادل والإعتراف بـ (الآخر)، وحقه في الإختلاف وإبداء الرأي. والمثاقفة أيضاً ترعى التفاعل والتواصل بين المتثاقفين، بهدف الإثراء المعرفي والإغتناء المتبادل، وتوفير شروط الثقة المتبادلة بين المتثاقفين، والرغبة الحقيقية لتحقيق التفاعل والتبادل العملي الخلاق، ولضمان التطور والتقدم المتبادلين، وإكتساب العلوم والمعارف والخبرات والتجارب الإنسانية. من هنا فإن المثاقفة كما الثقافة ظاهرة إجتماعية وإنسانية متعدّدة الأبعاد والسمات، وتتمتع بمستوى محدَّد تاريخياً في تطور وتقدم الإنسان والمجتمع.
لقد أكّد الفيلسوف العربي أبو حيان التوحيدي على فكرة الاقتباس، لذا ألّف كتاباً فلسفياً هاماً متخصصاً يؤرِّخ فيه فترة خصبة من تاريخ الفلسفة العربية الإسلامية في القرن الرابع الهجري بعنوان : المقابسات الذي يتناول فيه تاريخ الفلسفة في حقبة زمنية محدّدة في بلاد المسلمين والعرب، كما تضمن العديد من آمال وضبوط جلسات النقاش والآراء والمناقشات الفلسفية واقتباساتها من الأصل .
والمثاقفة بين الشعوب أخذت مدلولاً عالمياً كما العولمة، وربما بالاقتباس منها أو نتيجة العمل المباشر وتأثيره على الآخرين بشكلٍ مباشر وغير مباشر. في وقتنا الحالي أنه لا يليق بالسكون والجمود في نطاق الوطنية وحدودها. كون الآيدولوجيا تطرح معها وتوفر ضفاف وحدود أخرى غير مرئية ترسمها شبكات السيطرة والهيمنة العالمية على الإقتصاد وأسواق المال، والأذواق العامة والثقافة، وتحديد وآفاق حركية وفعاليات وطريقة آليتها، والعلاقات الإنتاجية المشكلة عبر هذه القوى المهيمنة. وبالرغم مما بدت عليه المثاقفة من قدرة اندفاع تفاعلية، بدت الشعوب الضعيفة متحفزة وتشعر بالقلق والخوف على الهوية الثقافية، والقيم الاجتماعية والأخلاقية التي تقارب الأديان والمعتقدات عند البشر. فإنَّ إيقاعات التعامل والتفاعل الجديدة وتزايد التوق لمعرفة انجازات الثقافة العالمية أفضت إلى المزيد من المخاوف الطاغية حول الاستقرار من عدمه على مستوى الهوية وحول الجماعة الوطنية. غبر مبررة لإن الثقافة الوطنية أضافت حالة التواصل ومتعها التلاقح مع الثقافات العالمية الأخرى بعوامل رقي كثيرة وبمعاملات تقدير وقياس خاصة تمتاز بالدقة وهي التي وفرت معطيات الأمن والأمان وبرهنت بقوة على أنّ )المثاقفة Acculturation) في عصر (العولمة Globalisierung) ليست بـ (الغزو الثقافي Kulturelle Invasion) وليست صيغة إستلاب للثقافة الوطنية.
فالمثاقفة هي من جانب معيّن، طريقة في السلوك والتطور، وأحد مظاهر الحياة بتكوينها المادي والروحي أيضاً، والوعاء الواسع لما فيها من نواميس وقيم وأخلاق اجتماعية .
وهي عندنا نحن العرب لا يختلف تعريفها وتوصيفها عن ما هي عند الغرب الأوروبي ـ الأمريكي . فالمثاقفة كانت في البداية تعني الإقتباس والأخذ من الحضارة الغربية المتفوقة وثمارها الثقافية بدءاً من طرق التعليم الحديثة والمعاصرة إلى كل أشكال التعبير الأدبي الجديدة علينا كالرواية والمسرحية والمقالة والفني. وأما وسيلة المثاقفة فهي تنحصر في الإتصال المتين بالحضارة الأوروبية الغربية في معظم مجالات الحياة

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video