أولا – الرسالة: رسالةٌ إلى قلبي الثّاني!
يعجز من الحزن لساني.. يا قلبي الثّاني
لا تستحي من الموت.. فخادمُكِ وحي
لو مات كلُّ مَن فيكِ.. لن تنمحي
مسلمٌ وعربيٌّ بالظّاهرِ، والباطن مسخرة
كلاهما مُعوّجٌ، وأنتِ المسطرة
ما هذا العدلُ الظّالم؟!
ندقّ بابكِ بحذرٍ ورجاء
لنا عطش الانعتاق، ولكِ الدّماء
أشهرٌ للموت، وأعوامٌ للحصار
أيّامٌ وسنين نتمزّق لنراكِ بلا دمار
لو فقدنا عيوننا من البكاء، سيدلّنا عليك الصّدق
من قال أنّ بين الموت والحياة هنا فرق!
غدًا سيأتي يوم التّحرير، ونمشي إليكِ ونبكي عليكِ وعلينا، أنتِ مَن أحييتنا!
نؤمن بكِ كما لم نؤمنْ بأحد
علِّ راياتِكِ أكثر، لنحفظ الدّرب
عرفكِ العالم بالحرب، وعَرَفَ ما السّهلُ وما الصّعب؟
إنَّ المواقف رزقٌ من الله، وفعلُ شعب
! أمّا العرب.. وما أدراك ما العرب
! ما هم.. إلّا وقود جهنّم
! لهم كلامٌ زائفٌ، وحفنةٌ من مالٍ، وكرسيٌّ من خشب
ولكِ السّماء والأرض وما فيها مِن ذهب.
ربّما.. ربّما تساءل البعض منك ذات يوم،
ما الفرق بين هنا وهناك؟
أو إلى أين سنذهب بعد كلّ هذا الصّبر والعناء؟
وما هو شعور الصّعود؟ ومتى سنجرّبه؟
ففتح الله لهم أبوابه، لاستقبالهم شهداء!
كانت الحرب سببًا
لتكريم من نجحوا في التمسك بالأرض،
وحجّةً على الرّاسبين في الدّفاع عن العِرض
صاحب العزم..
كبّر وقرأ آيةً واستعد
توضّأ وصلّى، وجاء دورُهُ فصعد
مشى نحو مَن حقد
وأشعل فيه نارًا وابتعد
نطبعُ صور الشّهداء وقصصهم في ذاكرةٍ بكماء
لكن كيف سنحفظ الأشلاء؟!
كيف سنعرف مَن سُحِقَ مِن الأسماء؟
لو انهدم البيت، الوطن كلّه على مرمى صَلْيَة
ولنا في كلّ بقاع العالمِ عِلمٌ وعَلمٌ وخَيمة
بحثنا عن الوطن في كلّ الوطن، لم نجده بمكان
وجدناه فيكِ يا بنتَ الأجيال، يا محبوبة الرّوح،
أنتِ ميزانُ الحريّة، لأنّ الإنسان فيكِ يُقاس بالقرآن
مهما تعاظم الموت، نحن الحياةُ ونحن الزّمن
لا تحرقنا النيران،
بقدر مَن أجادوا تمثيل الحبّ على مسرح الوطن،
نبحث عن صديقٍ لا يخون المِلح،
ما رأينا صاحبًا غيرَكَ يا يمن
ثانيا – القراءة النقدية
في هذه الرسالة للشاعرة والكاتبة والاعلامية قمر عبد الرحمن والتي حملت الرقم 28 كانت تحمل عنوان “رسالةٌ إلى قلبي الثّاني!” لتثير التساؤل عن معنى ومفهوم القلب الثاني، وفي نفس الوقت كانت هذه الرسالة هي الأطول من كل ما سبقها من رسائل شعرية، ولعل الوضع المحيط مع استمرار العدوان الصهيوني على غزة وسقوط ما يقارب واحد وعشرون الف شهيد حتى اللحظة ومئات الشهداء في الضفة الغربية، اضافة للقصف الذي هدم ودمر مساحات واسعة من المناطق السكنية والأبنية في القطاع بأكبر القنابل حجما وقوة تدميرية، لعب كل هذا تأثيره النفسي على الشاعرة ففاضت مشاعرها من خلال النص فكان الأطول.
منذ بداية النص نشعر بحجم الحزن الذي يسود روح الشاعرة فهي تقول: “يعجز من الحزن لساني” وتوجه الحديث والمخاطبة “ياقلبي الثّاني”، وتقول للقلب الثاني: “لو مات كلُّ مَن فيكِ.. لن تنمحي” فيكتشف القارئ أن غزة هي القلب الثاني الذي يسكن صدرها بجوار القلب الأول، وتطلب من غزة أن: “لا تستحي من الموت.. فخادمُكِ وحي” وبالتالي فغزة لو قدمت كل ابنائها شهداء “لن تنمحي”، لتنقلنا لخذلان الأشقاء وأبناء العمومة وشركاء العقيدة والدين وتصورهم كما هو واقعهم، فكل واحد منهم: “مسلمٌ وعربيٌّ بالظّاهرِ، والباطن مسخرة”، فلا مقارنة بينهم وبين غزة فتهمس بألم: “كلاهما مُعوّجٌ،” وتخاطب غزة بالقول: “وأنتِ المسطرة”، بينما تتحدث عن العرب بالقول: “أمّا العرب.. وما أدراك ما العرب!” فتصفهم ” ما هم.. إلّا وقود جهنّم”، وطبعا هي تشير للحكومات والحكام وليس للشعوب، وتؤكد هذه الإشارة بالقول: ” لهم كلامٌ زائفٌ، وحفنةٌ من مالٍ، وكرسيٌّ من خشب!” فالحكام أصحاب الكراسي والمال والكلام الزائف وليست الشعوب المقموعة.
الشاعرة تتساءل وهي ترقب بكل ما يعتريها من الألم قتل الأطفال والنساء والشيوخ وحكومات العالم صامتة أو متواطئة مع العدو والقلة التي تعلن بشرف موقفها ضد العدوان، وترى الكيل بمكيالين فتصرخ: “ما هذا العدلُ الظّالم؟! “، وتكمل صرختها: “إنَّ المواقف رزقٌ من الله، وفعلُ شعب”، وتؤكد بفخر: “عرفكِ العالم بالحرب، وعَرَفَ ما السّهلُ وما الصّعب؟”
وتنظر لغزة وتصرخ: “من قال أنّ بين الموت والحياة هنا فرق! “، وتهمس لغزة: “ندقّ بابكِ بحذرٍ ورجاء”، فغزة لم تعرف الفرح فحياتها: “أشهرٌ للموت، وأعوامٌ للحصار”، ونحن من نحب غزة وأهلها وبعيدين عنها جغرافيا: ” أيّامٌ وسنين نتمزّق لنراكِ بلا دمار”، وبعين الأمل بالله أن هذه التضحيات بالدم والأرواح والمال لن تذهب هدرا، فتنظر للسماء وتنادي: “لنا عطش الانعتاق، ولكِ الدّماء”، وتكمل بوحها فتقول بكل ثقة: “غدًا سيأتي يوم التّحرير، ونمشي إليكِ ونبكي عليكِ وعلينا، أنتِ مَن أحييتنا! ” وتكمل همسها لغزة: “ولكِ السّماء والأرض وما فيها مِن ذهب”، فالوطن يستحق وغزة العزة تستحق وتبقى هي القِبلة لقلوبنا: ” لو فقدنا عيوننا من البكاء، سيدلّنا عليك الصّدق”.
الشاعرة ترى في الحرب الامتحان والابتلاء من الله: “كانت الحرب سببًا، لتكريم من نجحوا في التمسك بالأرض”، فاصطفاهم الله سبحنه وتعالى: “ففتح الله لهم أبوابه، لاستقبالهم شهداء!”، وليكونوا يوم الحساب: “حجّةً على الرّاسبين في الدّفاع عن العِرض”، فنحن شعب “لا تحرقنا النيران”، وتخاطب غزة من جديد: “أنتِ ميزانُ الحريّة، لأنّ الإنسان فيكِ يُقاس بالقرآن” وهي ترى بعزم وإصرار أنه: “مهما تعاظم الموت، نحن الحياةُ ونحن الزّمن”، وهي ترى أنها وكل الشرفاء: ” بحثنا عن الوطن في كلّ الوطن، لم نجده بمكان، وجدناه فيكِ يا بنتَ الأجيال، يا محبوبة الرّوح”.
نلاحظ في هذا النص أن الشاعرة لم تورد كلمة غزة مباشرة واكتفت بالاشارة الرمزية لها لتترك للقارئ التيقن والمتابعة، فكان النص يدور ما بين الواقعية والرمزية، اعتمد قوة اللفظ وجمالية اللوحات المرسومة بالكلمات ودفقات الحنين والأنين، والحزن والأمل بوعد الله، فكان النص لوحة متكاملة من مجموعة لوحات روت حكاية غزة وشعب آثر الموت على الخنوع، فالشهيد: “صاحب العزم.. كبّر وقرأ آيةً واستعد”، وأيضا: “توضّأ وصلّى، وجاء دورُهُ فصعد”، وقبل أن تصعد روحه للسماء أذاق الاحتلال المر فهو: “مشى نحو مَن حقد، وأشعل فيه نارًا وابتعد”.
النص حفل أيضا بالتساؤلات وخاصة عن الشعور لحظة الشهادة والرغبة بها في قولها: “وما هو شعور الصّعود؟ ومتى سنجرّبه؟” وتساؤلات أخرى تدور حول نفس الفكرة: “ما الفرق بين هنا وهناك؟”، وأيضا: “إلى أين سنذهب بعد كلّ هذا الصّبر والعناء؟”، وأيضا: “كيف سنعرف مَن سُحِقَ مِن الأسماء؟”، وغيرها من التساؤلات، قبل أن تنهي النص بألم تجاه من ادعوا حبهم لفلسطين واستعدادهم للذود عنها ومناصرتها فهم: “مَن أجادوا تمثيل الحبّ على مسرح الوطن”، لتنهي النص بالقول: “نبحث عن صديقٍ لا يخون المِلح، ما رأينا صاحبًا غيرَكَ يا يمن”.
فالشعب قال كلمته لغزة: “نؤمن بكِ كما لم نؤمنْ بأحد، علِّ راياتِكِ أكثر، لنحفظ الدّرب”.