Ayoon Final logo details-3
Search

مؤته و حكاية بطل

السيد قصي الخباز

        كتبت قبلًا (أضواء على الهجرة إلى الحبشة) لدى صحيفتكم الموقرة، وبعد مزيد مطالعة رأيت أن تستكمل رواية البطل بحكاية مؤته محاولاً ترك الكثير من الوقفات والترقيم، ليكون السرد هو الغالب كما هو شأن الروايات والقصص وبالله التوفيق.

بعد عدة سنوات قضاها بطل الحكاية في الحبشة بعيدا عن وطنه وأهله وعشيرته برفقة زوجه صالحة كانت تسانده وتقف إلى جانبه برسوخ وإيمان وتفهم لدوره الرسالي الذي كان يمارسه هناك، أعني أسماء التي أولدت له عبد الله وتنبأت بأن يكون له شأن في مستقبل الأيام، ولعلنا نكتب لأسماء يومًا حكاية فلديها الكثير ترويه لنا.

عاد بطلنا الشجاع الغطريف، والأسد الهصور، والفارس المذكور، جعفر إلى المدينة بعدما هاجر من مكة، وبعد ثبات الدولة، ورسوخ الدين، وبعد أن بدأ الرخاء يلوح في أفق الدولة الفتية عقب أيام الشدة والابتلاء.

جعفر الذي كتب عنه ابن الأثير في ترجمته، روايةً عن أبي هريرة: قال: ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا ركب الكور بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أفضل من جعفر. [1]

 بدى أن نفسه لم تستطيب حياة الرخاء، فلم يؤثر استبقاء أجل أو استباق متعة، ولم يفكر بزوجة وأطفال وهو يرى أن الخطر مازال محدقا بدولة ابن عمه رسول الله صلى الله عليه وآله في المدينة، لم يمكث صاحب المفاخر طويلا حتى تاقت نفسه للقتال بما يملك من شجاعة بني هاشم المعروفة بين قبائل العرب، وبما حباه الله من موهبة وعزة وسيف في حمى الحرب لا يهدئ حتى يكرع من رقاب الأعداء.

جَمَعَ المَكَارِمَ لَو تَجَلَّى شَخصُهُ

لَوَجَدتَهُ مَجدًا أَثِيلًا خَالِصَا [2]

بعد عام من عودته، شاءت الأقدار أن يجهز النبي صلى الله عليه وآله جيشا لمواجهة خطر الروم وصد جيش قيصر الذي يتشدق بالانتصارات المتتالية وقوة الجند والعتاد، وكأنه صلى الله عليه وآله كان يقرأ الأحداث ويدرس الأثر النفسي، فمن جانب كان جيش الروم ثملٌ بنشوة النص، متخمٌ ببطنة الغنيمة، ومن جهة أخرى وجد جند المسلمين ذوي معنويات مرتفعة تواقة للنصر و إعلاء الكلمة و نشر مبادئ العدل والحق، وبعد هذا التدبير، بقي تعيين القائد الذي سوف يخوض بهذا الجيش عباب الصحراء.

تفرس في رحلة هذا البطل الذي فصل بعقبانه وآساده عن المدينة واجتازها ولم ينل البعد والتعب من همته، انما كلما تقدم ازداد نشاطا وقوة، حتى انتهى إلى مؤته.

قيصر الذي يقبع في قصرٍ مشيد يحرسه الجنود و تحيط به الوزراء و المستشارين، تناهى لسمعه أخبار جيش المسلمين و قائده العظيم، فأجمع على أن يقاتلهم بجيش هائل يقضي على أملهم ويمحو بنكاله الطماح من نفوس المسلمين.
تقدم قيصر بغيمة من الجنود و العتاد لمقابلة الجيش الإسلامي وجعفر ومن معه لا يعدون الثلاثة آلاف مقاتل، لا يهولهم كثرة جموع العدو وقلة عددهم، ولم يفل عزيمتهم قلة السلاح وبعد المسير وصعوبة العيش.

وقف بعضهم مترددا أمام هذا العدد المهول من جند الروم، وكأن سؤال يجول بخاطرهم كيف سوف نقاتلهم، وما هو عتادنا و… إلخ.

وسط هذا الذهول؛ جاءت الصرخة من فم البطل للتقدم وخوض المعركة والاندفاع للمعمعة واقتحام جيش العدو تفريقا وتفكيكا يتقدمهم جعفر، السيف في يمينة والراية بيساره يرقل بها، تتفرق الكماة بين يديه وتنشق له الصفوف يضرب بسيفه يمنة ويسرى، لا يخشى الموت لرسوخ عقيدته وصلابة دينه.

التفتت له أعين جيش الروم، وكان مثيرا لهم ببأسه وشدة حملاته، ولكونه حامل الراية ولا بد من القضاء عليه كي يفل بقتله عزيمة المسلمين ولا تبقى روحهم وقادة للقتال.

كان بطلنا جعفر راجلاً يحمل الراية، فجال جمعٌ من جيش الروم بفرسانه حول البطل يريدون استلال رايته التي كان ترف بيمينه حتى تم قطعها وهم يطمعون أن تسقط من يده، لكنه تناولها بيسراه محافظا على ثباتها حتى حانت للعدو فرصة ثانية قطع بها يده اليسرى ليسقط على الأرض ويستبدل بيديه المقطوعتين جناحين يطير بهما في الجنة.  

سقط جعفر شهيدا على أرض المعركة ودفن في أرضها ليبقى قبره للآن شاهدا على البطولة والبأس والتضحية من جانب وليبقى أثرٌ هاشمي للمسلمين حتى بعد هزيمتهم على هذه الأرض يذكرهم بالتضحية التي قدمها وليكون نداءً دائما أن هناك بطلاً يُثبت لكم حقا.

يقول ابن عمر: (وجدنا ما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح) [3]

أما في المدينة فهناك حدث آخر، حين دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على أسماء بنت عميس الخثعمية هذه المرأة الصالحة والصابرة التي تقول: قال لي رسول الله: “ائتني ببني جعفر” فأتيته بهم، فشمهم ودمعت عيناه، فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ فقال: “نعم أصيبوا هذا اليوم” فقمت أصيح وأجمع النساء، ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أهله، فقال: ” لا تُغفلوا آل جعفر أن تصنعوا لهم طعاما، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم ” [4]

وأخرج ابن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما أتاه نعي جعفر دخل على أمرأته أسماء بنت عميس، فعزاها فيه ودخلت فاطمة عليها السلام وهي تبكي وتقول: واعماه، فقال صلى الله عليه وآله: ” على مثل جعفر فلتبكِ البواكي” [5]

ولعمري إن بكاء النبي والسيدة الزهراء لم يكن لأجل القرابة فقط ونحن نلاحظ قوله: “لمثل” وما هذه المثلية إلا جملة من الفضائل تحلى بها جعفر لينظم لمن اصطافاهم الله عز وجل لدور رسالي وبيت يشيد كلمة التوحيد.

فسلامٌ مني عليك ما أبقاني الدهر

 والحمد لله رب العالمين


[1] أسد الغابة ج1، ص542

[2] للكاتب

الاستيعاب، ج1، ص243

[4] تاريخ الإسلام للذهبي، ج2،ص488

[5] الطبقات الكبرى،ج8، ص282

secondplay

3 Videos
Play Video

TestPlaylist

3 Videos
Play Video